في واحدة من أجمل أغنياته وأكثرها استفزازاً من ناحية "بعدها اللاوطني" بحسب توصيف واحد من منتقديه، يتحدث الشاعر والمغني الفرنسي الراحل جورح براسانس إلى مواطنيه ساخراً من معاركهم التي ظلت مستمرة سنوات طويلة بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية التي شهدت مجابهة بين الإنجليز وكثر من الفرنسيين من ناحية، والألمان وكثر آخرين من الفرنسيين كذلك من ناحية أخرى. في أغنيته لا يرى المغني الكبير أي مبرر لأن يكون هناك فرنسيون مع الألمان، وآخرون مع الإنجليز فيتقاتلون فيواصلون التقاتل والأحقاد حتى بعد أن ينسى الإنجليز والألمان حروبهما بل حتى بعد أن تتجاوز الأجيال الجديدة من الفرنسيين كل تلك الحكاية. والحقيقة أن براسانس لم يكن متفرداً في ذلك الموقف عندما أطلق أغنيته. فهو موقف كان سائداً وبدأ ينتشر بقوة لدى نخب من أذكياء الأوروبيين تريد الآن أن تدفن الماضي. ويمكننا أن نقول إن تلك الإرادة التي ستكون في خلفية ولادة الاتحاد الأوروبي، كانت بادية لدى عدد كبير من المبدعين في البلاد المعنية بل في أوروبا كلها. أما الصوت الأعلى في اللغة الإنجليزية، فكان بالطبع صوت جورج برنارد شو الذي كان من المبكرين في إعلان مواقف من ذلك النوع وحتى من قبل أن تتمزق أوروبا في حروبها "العبثية".
إيرلندي حتى الأعماق
والحقيقة أن شو الذي كان مفكراً كبيراً وساخراً أكبر ومبدعاً من طراز استثنائي، لم تكن غايته متطابقة مع غاية براسانس، بل مجرد السخرية كإيرلندي أصيل عانى شعبه ما عاناه من عجرفة الإنجليز وضروب الاضطهاد التي يمارسونها ضد الشعوب التي يستضعفونها وكان لسان حاله في موقفه من هؤلاء الإنجليز يتلخص في قوله: "صحيح أن ما من إنجليزي يخلو من أخلاقية تجعله إنساناً ذا ضمير ولو بصورة مؤقتة. وما من إنجليزي يخلو من قدر من الأرستقراطية يجعله قادراً على التحرر من نزعة الطغيان وأيضاً بصورة عابرة. ومع هذا فإن كل إنجليزي يولد وفي أعماقه قدرة عجائبية تجعل منه سيداً في هذا العالم. فالإنجليزي حينما يرغب في الحصول على شيء ما، لن يقر بذلك، بل إنه، وبصبر شديد، ينتظر أن تتسلل إلى داخل روحه القناعة التامة بأن واجبه الأخلاقي والديني هو الذي يرغمه على غزو أولئك الذين يمتلكون الشيء المنشود. وحين تسيطر عليه هذه القناعة، يصبح غير قابل لأن يقاوم. فهو، مثلاً، حين يصبح في حاجة إلى أسواق جديدة يصرف فيها بضائعه المصنعة في مانشستر، يبدأ أول الأمر، بإرسال مبشر يلقن السكان الأصليين مبادئ إنجيل المحبة والسلام، ثم يحدث أن يقتل أولئك السكان المبشر. وعلى الفور يهرع الإنجليز إلى امتشاق السلاح لكي يدافعوا عن دينهم. فيناضلون من أجله، ويغزون من أجله، وأخيراً على سبيل مكافأة أنفسهم مكافأة ربانية، يستحوذون على السوق التي كانوا أصلاً راغبين في الاستحواذ عليها. وهكذا نجد أن كل ما ينجزونه إنما ينجزونه من طريق المبدأ. فتبعاً للمبدأ الوطني يهرعون إلى المعركة، وتبعاً لمبدأ الأعمال يقدمون على نهبك. وتبعاً للمبدأ الإمبريالي يحولونك إلى عبد...".
في سياق مسرحي
إذاً، هذه العبارات القاسية في حق الإنجليز لم يقلها بطل تحرير هندي أو سعد زغلول مصري، أو حتى مطران وطني قبرصي. ولا حتى جورج واشنطن، مع أن كل واحد من هؤلاء كان لديه من الأسباب ما يدفعه دفعاً لقولها، بل إنها في سياق واحدة من أطرف مسرحيات شو وأكثرها تهكماً على الإنجليز. ووردت في لحظة مفصلية من مشاهد مسرحيته الساخرة "رجل الأقدار"، وهي مسرحية في فصل واحد، طويل، كانت تعتبر واحدة من أشهر أعماله المسرحية مع أنها غرقت في النسيان لفترة طويلة من الزمن. ولنسارع هنا إلى التأكيد منذ البداية أن "رجل الأقدار" الذي يعير لقبه هذا للمسرحية ليس إنجليزياً، بل هو فرنسي شاب من أصل كورسيكي، تصوره لنا المسرحية في زمن كان لا يزال فيه قائداً عسكرياً. وإنما مملوءاً بالطموح ويتطلع إلى أن ينشر، هو الآخر، قواته العسكرية ومبادئه في العالم كله، منافساً الإنجليز في هذا، مع إنه هو، في المسرحية، من يتحدث عنهم كما أسلفنا. وهذا العسكري الفرنسي ليس شخصاً آخر سوى نابليون بونابرت.
ظروف شخصية!
ومع هذا، على الرغم من كل العبارات الطنانة، التي من الواضح أن الكاتب، قد صاغ مسرحيته كلها لكي يقولها إمعاناً في "بهدلة" الإنجليز، فإن المسرحية بعيدة في الحقيقة عن الغوص في الصراع الفرنسي- البريطاني. كل ما في الأمر أن بونابرت يقول ما يقوله عن الإنجليز، ضمن إطار ظروف شخصية يعبر بها، في وقت كان يفكر فيه حقاً بأن الأوان آن لمقارعة هؤلاء الأعداء في كل مكان يمكنهم أن يوجدوا فيه، وحتى في عقر ديارهم، إضافة إلى مستعمراتهم. ونحن نعرف طبعاً أنه إذا كانت أحداث المسرحية تدور في مايو (أيار) من عام 1796، أي قبل مئة عام بالتمام والكمال من كتابة شو لها وتقديمها على خشبة المسرح، فإن بونابرت سيقدم بعد عامين أو ثلاثة فقط على التوجه في حملته المصرية التي كان هدفه المعلن الأول منها محاربة الإنجليز و"تخليص شعوب الشرق من شرهم".
إذاً، حينما تجرى أحداث المسرحية كان موقف الضابط الفرنسي الشاب من جيرانه الإنجليز لا يزال نظرياً. فهو الآن يستريح بعض الشيء في منطقة يقال لها تافاتزانو في شمال إيطاليا. وفيها نلتقي بونابرت وهو في حانة في طريقه إلى معركة ميلانو، بعد أن كان خاض بنجاح معركة لودي. واستيحاء من ذلك الموقع "يشطح" الخيال بالكاتب فيركب حكاية، عن امرأة فرنسية من أصل إنجليزي - إيرلندي مشترك، متنكرة في ثياب فارس، تتمكن من مخادعة ضابط فرنسي ساذج مهمته أن يحمل الرسائل والأخبار إلى القائد. وبتلك المخادعة تمكنت المرأة من الحصول على الرسائل، أما غايتها فكانت الحيلولة دون أن تقع بين يدي بونابرت رسالة معينة تكشف أسرار علاقة غرامية قائمة بين جوزفين، زوجة بونابرت، وعشيق لها. فالمرأة صديقة حميمة لجوزفين، لكن القائد يكتشف ما أقدمت عليه المرأة ويستعيد الأوراق، فيما يبدو أنه حبكة مفتعلة وغير مشوقة على الإطلاق، لكن مخيلة جورج برنارد شو ابتكرتها لمجرد أن يقيم مواجهة تدوم زمن المسرحية كله تقريباً، بين السيدة والقائد، ما يعطي شو فرصة طيبة لزرع عبارات حادة، ساخرة، بل تصل المواقف المعبرة عنها إلى حدود الهزل أحياناً، كاشفة من ناحية، عن شخصية بونابرت، الذي كان يصدق أنه حقاً رجل الأقدار الذي بعث لكي يخلص العالم من شرور الإنجليز، ومن ناحية ثانية عن رأي شو نفسه الحقيقي في هؤلاء الإنجليز، حتى ولو أن هذا الرأي يأتي غالباً على لسان بونابرت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل "الأبطال" سواء
فالمهم هنا بالنسبة إلى الكاتب الإيرلندي الساخر، أن يضع بونابرت والفرنسيين عموماً والإنجليز ظهراً لظهر كاشفاً ما يعتبر بالنسبة إليه تفاهة الطرفين وغشهما وأطماعهما. ومن هنا تركز المسرحية، على المشاهد الحاسمة التي تدور بين بونابرت والسيدة. وهي مشاهد إذ تكشف في حواراتها موقف بونابرت- القابل للإقناع- من الإنجليز، تكشف في الوقت نفسه عن شخصية العسكري الفرنسي الذي كان يتطلع، من خلال قضية محقة على أي حال، لأن يصبح بطلاً. وإذ يصوره شو على هذا النحو، نراه يكشف في طريقه عن أنانيته وحب العظمة لديه، وسط تفاهة حياته الشخصية، وهي صفات يقنعنا شو، في المسرحية، بأنها تسم كل الديكتاتوريين وصغار الأبطال في التاريخ.
سخرية للدفاع عن الشعوب
طبعاً لم تكن مسرحية "رجل الأقدار" ما صنع شهرة جورج برنارد شو (1856-1950) الكبيرة، وإن كانت هذه المسرحية، بفضل سخريتها اللاذعة من الإنجليز، أعداء شو الأول بصفته إيرلندياً واشتراكياً في الوقت نفسه، وطالما دافع عن حق الشعوب المستعمرة في أن تتخلص من مستعمريها، اعتبرت في زمنها واحدة من أكثر مسرحياته شعبية. وشو، كما هو معروف، كتب المسرحيات وكتب في الفكر والسياسة، وكان اشتراكياً معتدلاً. ومن بين مسرحياته الكبيرة "الإنسان والسوبرمان" و"الأسلحة والإنسان" و"مهنة مسز وارين" و"بيغماليون" و"جزيرة جون بول الأخرى". وهو تمتع بحس ساخر وتهكمي في معظم أعماله، لا سيما حين كان يتناول الإنجليز.