في الأسابيع الماضية جرت الانتخابات السنوية لرئاسة البرلمان ونائبيه وهيئة مكتب الرئاسة، وأسفرت عن إعادة انتخاب محمد باقر قاليباف والتجديد له في رئاسة السلطة التشريعية، إلا أن المرحلة التي سبقت هذه الانتخابات، شهدت معركة حامية الوطيس بين قطبين أساسيين وجناحين رئيسين في التيار المحافظ الذي يسيطر على جميع مقاعد المجلس، الأول يمثل الجناح الأصولي ومرشحه الرئيس الحالي محمد باقر قاليباف، والثاني جناح "الثابتون – پایداری" ومرشحه نائب الرئيس الحالي الياس نادران.
معركة قاسية خاضها قاليباف للاحتفاظ بموقعه على رأس السلطة التشريعية، في حين لم يتورع الفريق الآخر من الإخوة الخصوم عن اللجوء إلى كل الوسائل وطريق وأساليب متاحة أمامه، من أجل إلحاق الهزيمة بقاليباف وإخراجه من معادلة السلطة والشراكة في مواقع القرار، في إطار الجهود والمخطط الذي اعتمدوه من أجل السيطرة على ما يعتبرونه، في حال نجاحهم بذلك، أول موقع لهم في دائرة السلطة ومراكز القرار الثلاثة الرئيسة الدستورية.
وعلى الرغم من تأكيد الطرفين أنهما يمثلان منظومة القيم الدينية والأخلاقية التي يقوم عليها التيار المحافظ، والالتزام بالأحكام الشرعية، فإن ما شهدته تفاصيل هذه المعركة، لا يحمل أي مؤشر على وجود هذه القيم، فالطموح والسعي للسيطرة والاستحواذ على السلطة، والتحكم بجزء من القرار في هذه المرحلة، أسقط جميع الروادع الدينية والأخلاقية التي من المفترض أن تسود بين إخوة الصف الواحد، والتي عليها تنتظم أمورهم وعلاقاتهم وعلائقهم.
ولعل التنصل من هذه الالتزامات الأخلاقية يأتي من الجهة التي تعتبر نفسها الأكثر تمثيلاً للقيم الدينية، أي جبهة "الثابتون"، فهم لا يترددون في اللجوء إلى أي وسيلة مهما كان نوعها، واستخدامها من أجل الوصول إلى الهدف الذي يريدون ويسعون له، سواء كان في الكذب أو الافتراء أو التدليس، أو الفتنة وشق الصف، ومحاولة التأثير على مواقع القرار العليا، وتأليبها ضد الخصم في معركة السلطة لإخراجه من دائرة القرار بما يشبه عملية الاغتيال السياسي، فضلاً عن الاغتيال الأخلاقي والاجتماعي.
ولعل المؤشر الأبرز إلى هذه الممارسات، ما سرب عشية انتخابات رئاسة البرلمان، عن مضمون وجهه عضو لجنة الثقافة البرلمانية النائب حسين جلالي وعضو جبهة "الثابتون" إلى المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي يشرح فيها الأخطاء التي قام بها قاليباف خلال توليه رئاسة البرلمان، والقوانين التي مررها أو تلك التي عطلها وفيها تعارض مع رأي ورؤية المرشد وتوجهات النظام.
خطورة هذه الرسالة، أنها تكشف عن أعراض مرضية كبيرة وخطيرة بدأت تظهر إلى العلن داخل جسد التيار المحافظ وبين أجنحته الأساسية. وهي أعراض لا تقف عند حدود التنافس على السلطة والقرار، بل تسقط جميع المحرمات من أجل تحقيق أهدافها السلطوية، بما فيها زرع الفتنة والخلاف والاختلاف بين مواقع القرار، من دون الأخذ بالاعتبار عينه أن المستهدف في هجومهم ينتمي إلى الخط والتوجه نفسه، ويحمل صفة "الأخ" بمفهومه الديني والسلوكي المفترض.
النتائج التي حصل عليها قاليباف في معركة التجديد لرئاسته، لم تتجاوز 194 صوتاً من أصل 329 يتشكل منها البرلمان، ويسيطر التيار المحافظ، بجميع أطيافه عليها، بالغالب الأعم، مع تنويع خجول ومعطل ومحاصر لبعض الأصوات المعتدلة، ما يعني أن المعركة بين جناحي التيار المحافظ كانت حقيقية وشديدة، بحيث أسهمت في إنتاج رئيس ضعيف، بمنعه من الحصول على عدد الأصوات التي حصل عليها في السنتين الماضيتين، والذي تجاوز ثلثي الأصوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حدة المواجهة التي خاضها قاليباف، تكشف حجم المعركة الدائرة داخل قوى التيار المحافظ، ومحاولة كل طرف الاحتفاظ بما في يده من مواقع ومراكز قرار، أو مساعيه لتعزيزها على حساب استبعاد الطرف الذي يسيطر عليها، وهي معركة تصب في إطار الصراع المفتوح بين الإخوة للسيطرة على مراكز القرار والبقاء في دائرة الشراكة في رسم مستقبل النظام والسلطة.
وعلى الرغم من استنفار الجناح المتشدد وحشد كل طاقته وقواه، فشل في إبعاد قاليباف عن رأس السلطة التشريعية، وفشل أيضاً في أن يدخل في المعادلة كطرف وازن ومؤثر، بعد عجزه في إيصال أي من أعضائه إلى هيئة مكتب المجلس، ما يعني أن الدولة العميقة ذهبت إلى خيار تقديم الدعم لقاليباف في معركته في مواجهة هذا التيار الذي يبدو أنه يشكل تحدياً للدولة العميقة، نظراً لتقاربه، إن لم يكن تطابقه مع اتجاه الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي بات يغرد علناً خارج السرب في محاولة لتأسيس قاعدة سياسية له تتعارض وتتنافر مع توجهات النظام والدولة العميقة، ما يجعل من معركة إعادة انتخاب قاليباف أبعد من معركة ضيقه بين جناحين داخل تيار واحد، ونقلها إلى مستوى معركة بين توجهين متعارضين في رؤيتهما لمستقبل السلطة والنظام، بخاصة أن أحمدي نجاد وفريقه لم يتورعا في السنوات الأخيرة عن التصويب على موقع المرشد الأعلى وصلاحياته، إضافة إلى مهاجمة مؤسسة حرس الثورة واتهامها بالفساد والتغطية على الفاسدين، فضلاً عما سببه من إحراجات لمؤسسة النظام بخروجه عن الالتزامات السياسية وتجاوزها في مخاطبة رؤساء دول وقيادات دولية، من بينها الرئاسة الأميركية بتعارض واضح مع سياسة النظام.
معركة قاليباف مع الجناح المتشدد، كبحت من جهة أخرى مؤشرات المعركة التي بدأت تلوح في الأفق بين السلطتين التشريعية من جهة، والتنفيذية من جهة أخرى، على خلفية المحاصصة والشراكة في القرار الاستراتيجي، الأمر الذي جنب النظام والدولة العميقة الدخول في عملية استنزاف للقوى لا طائل وراءه، ولا يخدم سوى المصالح الضيقة للأطراف الداعمة لكل واحد من الطرفين على حساب المصلحة الاستراتيجية للنظام.