في عام 1979 قدّم مسرح الطليعة - القاهرة عرض "ليلة القتلة" من إخراج الراحل ماهر عبد الحميد، وفي عام 2012 أعاد المسرح تقديم العرض نفسه، بتوقيع المخرج الشاب – وقتها - تامر كرم... وحالياً يعود المخرج المخضرم صبحي يوسف لتقديمه على المسرح نفسه، فما مبرر تقديم نص الكوبي خوزيه تريانا ثلاث مرات عبر جهة إنتاج واحدة؟
لقد حظي نص خوزيه تريانا باهتمام عديد المخرجين، على مستوى المنطقة العربية، وكذلك على مستوى العالم. فالنص يعد واحداً من الأعمال التي لا تسقط بالتقادم، فهو يتناول قضية مطروحة على طاولة الحياة ما بقيت الحياة، ولا يمكن اختزالها فقط في السلطة الأبوية وسيطرتها واستبدادها، وما تؤدي إليه من تداعيات خطيرة. فالنص، الذي كُتب عام 1964 أثناء سيطرة فيديل كاسترو على مقاليد الحكم في كوبا، وما يحيل إليه ذلك من دلالات، مفتوح على تأويلات عدة، فضلاً عن لغته وحواراته الفلسفية العميقة. وهو أمر ليس غريباً على شاعر وكاتب مسرحي له مكانته وإنجازه المهم، وقد رحل عام 2018 بعد حياة حافلة امتدت ثمانية وثمانين عاماً.
كيفية الاختلاف
المبرر الذي استند إليه صبحي يوسف يتمثل في هذه الرؤية الجديدة والمختلفة التي قدم بها النص، ولسنا هنا في مجال المقارنة بين أعمال ثلاثة عن نص واحد، بخاصة أن سنوات عديدة فصلت بين كل منها، ولكل عمل ظروفه وغايته، ولكل مخرج مدخله الذي يتعامل به مع النص. ولا يعنى اختلاف صبحي يوسف حكماً بالقيمة، له أو عليه، فالحكم هنا لكيفية الاختلاف ومردوده الفكري والجمالي.
أدرك المخرج، منذ البداية، أنه بصدد لعبة، فكل ما يدور داخل النص هو لعبة يتخيلها الأبناء، وهي تفصح عن مشاعرهم الداخلية تجاه الأب والأم، ورغبتهم في التخلص من استبدادهما وقتلهما. كل شيء هنا معنوي، متخيل، لا قتلى ولا دماء ولا محاكمة، لكن الأمور، في الوقت نفسه، لا تقف عند السطح، بل تغوص في أعماق تلك العلاقة منذ البداية، بداية زواج الأب والأم وطبيعة العلاقة بينهما، تلك التي أنتجت كل هذا البؤس الذي يثقل على الأبناء ويدفعهم إلى البحث عن طريق للخلاص.
عند الدخول إلى قاعة العرض ينتشر ستة من الممثلين في مساحة التمثيل، وكل منهم يردد، مع نفسه، بعض الجمل، التي سنعرف في ما بعد أنها بمثابة الكلمات المفتاحية للعرض، والتي يدور أغلبها في إطار عدم الرضا عن الواقع، والتمرد عليه، والسعي إلى تغييره، وقلبه رأساً على عقب.
الإفراط في اللعب
فاجأ المخرج جمهوره بالبناء على غير مثال، بخاصة أولئك الذين شاهدوا المسرحية في أكثر من نسخة، وأفرط في ألعابه، وإن بحسابات دقيقة. هو يعرف أنه يلعب، ويتعمد أن يلعب، خدمة لرؤيته، بداية من ديكور العرض نفسه (صممته سماح نبيل) الذي بدا كحلبة للملاكمة أو المصارعة في تكوينه العام، وفي داخل هذه الحلبة أماكن أخرى للعب يتم تجسيدها بأدوات وأكسسوارات تفضي إلى المعنى نفسه، وإن بأشكال أخرى.
مساحة التمثيل أو حلبته في شكل مستطيل، يحيط بها الجمهور من الجانبين. إنها وضعية جمهور مباريات المصارعة والملاكمة، وهو ما تطلب الاجتهاد في رسم الحركة حرصاً على المنظور، وعلى الممثل أن يكون في وضعية بعينها تتيح الرؤية الجيدة للمشاهد في كلا الجانبين، وهو ما تم تنفيذه بعناية شديدة.
وإذا كان لدينا في النص شاب وفتاتان هم أبناء الأسرة، وإحدى الفتاتين مستسلمة لقدرها ومؤمنة بصحة موقف الأب والأم، فقد استنسخ منهم المخرج ثلاثة آخرين، وقسم مساحة التمثيل بينهم قسمين. لم نكن أمام منافسة بين الفريقين. نحن أمام فريق واحد، يكمل كل منهما الآخر، وتتداخل الحدود بينهما، ولكن بحسابات دقيقة. وهؤلاء جميعاً يؤدون كل الأدوار، ففضلاً عن أدوار الأبناء، يؤدون أدوار الأب والأم والجيران ورجال الشرطة ورجال القضاء، وباعة الصحف. واللافت أن الممثل من هؤلاء يخرج من الشخصية ليدخل في أخرى بسلاسة شديدة، وباستخدام بعض الملابس والأكسسوارات التي تؤشر على الانتقال من هذه الشخصية إلى تلك.
فكرة الديمومة
إذاً، لدينا في كل جانب من جانبي هذه الحلبة فريق من ثلاثة أبناء، لا صراع بين الفريقين، فما مبرر وجودهما على هذه الوضعية؟ الملاحظ أن أحد الفريقين يبدو أفراده أكبر سناً، وبشكل نسبي، من أفراد الفريق الآخر، في ما يشير – ربما - إلى فكرة الديمومة، وأن مأزقهم مستمر، بخاصة أن الفريق الأصغر سناً اضطلع بمساحة أوسع نسبياً، وأدّى أفراده أدواراً عدة، وبإيقاع متسارع. وكأن هذه المرحلة العمرية أكثر حدةً واحتداماً وعنفواناً، وكأنها بمرور الوقت، على مستوى الإيقاع والحركة ورد الفعل، تبدو كما لو أنها في طريق الاستسلام أو القبول بالأمر الواقع، وأقل رغبة في المقاومة والتمرد.
أياً يكن التأويل، وهو في صالح العمل، فقد صاغ المخرج عرضه بصرياً برهافة شديدة. الزي الأساسي (التصميم لسماح نبيل) هو البيجامة ذات الخطوط الطولية، زي موحد، كأننا بصدد أسرى، أو مسجونين، فكرة السجن عكسها أيضاً، فضلاً عن الخطوط الطولية للبيجامات، من خلال بعض الأكسسوارات وبعض المقاعد التي نجحت الإضاءة (صممها إبراهيم الفرن) في خلق معادل بصري ذكي وواعٍ لها، فضلاً عن قدرتها على ضبط إيقاع العرض، وإن أخذ عليها فترات الإعتام التي صاحبت تغيير الممثلين ملابسهم والأكسسوارات أمام المشاهد. ومعروف أن الممثلين يغيرون ملابسهم، وهو أمر عادي في مثل هذه العروض، التي يخبرنا صناعها دائماً أننا بصدد تمثيل، على طريقة بريخت، وليس ابتكاراً جديداً، فما الضير في تغييرها وسط الإنارة؟
أغنية الفينال
صاحبت العرض مجموعة من الأغاني (كتبها عوض بدوي، ولحنها محمد حمدي رؤوف) بعيداً من دورها في تطوير الدراما، فإن كلماتها عبرت عن خبرة ووعي لدى الشاعر الذي قدم للغناء المصري عدداً من الأغاني المهمة، واتسمت ألحانها بقدر من البهجة التي بدت في بعض اللحظات محلقة بعيداً من أجواء العرض. وإذا حاولت بعض الأغاني أن تتضافر مع الدراما وتعمل على تطويرها، فإن ثمّ ة مشكلة وقع فيها صناع العمل تمثلت في أغنية الفينال، التي لم يكن هناك أي مبرر لوجودها. فمعروف أن الاختيار هنا يكون للمخرج بالتشاور مع الشاعر والملحن، فالعرض كله يمضي في طريق، بينما هذه الأغنية تحديداً تمضي في طريق آخر لا يتسق مع الرؤية الكلية التي عمل المخرج وفقها، ولا مع منهجية العمل القائمة على التفكيك ونثر العلامات في فضاء العرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما أراد المخرج الهروب من ملاحظات رقابية فعمد إلى هذه الأغنية، التي تحصر رسالة العرض في جانبها الاجتماعي، فأغلق بذلك أفق التأويل، وجعل من عرضه أحادي الدلالة.
أياً يكن اختيار المخرج، وهي مهمته، وليست مهمة الناقد، فلا أحد يملك توجيه المبدع إلى طريقة بعينها في الأداء، فإن العمل، إجمالاً، سعى إلى الاختلاف، وتقديم صورة مركبة تتطلب جهداً في تفكيك شيفراتها، فضلاً عن الجهد الكبير الذي بذله الممثلون، الذين أدركوا أنهم بصدد سياق مختلف يتطلب وعياً بطبيعة الشخصيات وأزمتها، ويتطلب، كذلك، رهافة ودقة في الأداء، واستجابة سريعة في التحول من شخصية إلى أخرى، من دون اندماج كامل في أي منها. وهو ما فعله الممثلون الستة (مروج، ياسر مجاهد، لمياء جعفر، شيماء يسري، نشوى إسماعيل، إميل شوقي)، وشكلوا معاً فريقاً متناغماً، ومن دون ثغرات يمكن أن تفسد هذه الحالة المدهشة التي استحوذت على حواس المشاهدين منذ الدخول إلى صالة العرض، وحتى ما قبل أغنية الفينال.