كثرت الهموم على اللبنانيين بمقدار ما قلّت القدرات والإمكانات، وكبرت الأزمات بمقدار ما صغر الرجال الذين يتولون إدارتها، وليس مجرد انشغال بمسائل أخرى، كان غياب عدد من وزراء الخارجية العرب عن حضور الاجتماع التشاوري في بيروت قبل القمة العربية المقرر عقدها في الجزائر خريف هذا العام. فلا بيروت اليوم هي بيروت التي كان يتسابق الوزراء العرب على الوصول إليها عشية أي اجتماع فيها للمجلس الوزاري العربي، ولا سبب الغياب ما يقال عن قلة الاهتمام العربي والدولي بلبنان الذي في محنة رهيبة. المشكلة هنا، والسبب هو ما يحدث وما لا يحدث في بيروت.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاء إلى العاصمة اللبنانية بعد انفجار ضخم دمر مرفأ بيروت وجزءاً من العاصمة، وحاول المساعدة، ليس اقتصادياً فقط، بل سياسياً أيضاً عبر اللقاء مع أمراء الطوائف وإقناعهم بالتفاهم على حكومة تبدأ إصلاحات وإيجاد حلول للأزمات تخرج لبنان من هاوية عميقة، لكنهم كذبوا عليه واستمروا في توظيف الأزمات لمصالحهم الشخصية والفئوية، وهو مستمر في الدعم والاهتمام وطرح الملف اللبناني في أي لقاء له في المنطقة والعالم.
إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نظرت إلى لبنان، فرأت "الدولة والمجتمع على شفير الانهيار"، بحسب بربارا ليف مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، وقررت "ألا تسمح بذلك"، فواصلت دعم الجيش، وبادرت إلى التوسط لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لكي يستثمر لبنان ثروته الغازية والنفطية في البحر، وأقنعت مصر والأردن بضخ الغاز وإرسال الكهرباء إلى لبنان وضمنت التمويل من البنك الدولي، لكن السلطة ماطلت وترددت، وسط ادعاء "محور الممانعة"، الذي تقوده إيران، بأن أميركا تمارس "الحصار" على لبنان وتريد انهياره وتلعب لعبة العدو.
الأشقاء العرب بقيادة السعودية طلبوا من لبنان ما يجب أن يطلبه لنفسه ويفعله سريعاً عبر مذكرة من الكويت، "حكومة وإصلاحات تفتح باب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وباب الاستثمارات والمساعدات العربية والدولية، وتوقف "حزب الله" عن التهجم المستمر على الرياض والمنامة وأبوظبي وعن التدخل في الشؤون الداخلية العربية، و"زعزعة الاستقرار" وعن مساعدة الحوثيين في اليمن على إطلاق الصواريخ والمسيّرات على السعودية والإمارات العربية، وتهريب المخدرات"، لكن السلطة لم تفعل شيئاً، بل استمرت في تغطية ما يقوم به "حزب الله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحين قام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بجولة على مصر والأردن وتركيا، فإن البيانات المشتركة الصادرة عن لقاءاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك عبد الله الثاني، والرئيس رجب طيب أردوغان أعادت التذكير بالمطالب العربية من لبنان، ولم يتبدل شيء في بيروت.
الواقع أن ما يريده الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليون هو المساعدة على إنقاذ لبنان من مشكلتين كبيرتين، "مشكلة داخلية هي السياسات التي قادت إلى ما سماه البنك الدولي "الكساد المتعمد" في واحدة من أكبر ثلاث أزمات اقتصادية ضربت العالم منذ القرن الـ19، ومشكلة خارجية هي سحب لبنان من موقعه العربي إلى "المحور الإيراني"، بالتالي تغيير هويته وتاريخه وانتمائه العربي، بحيث يشمل الأذى لبنان والعالم العربي.
لكن ما يحدث في بيروت على أيدي المافيا الحاكمة والمتحكمة هو تعميق الأزمات، والحيلولة دون تأليف حكومة لا يسيطر عليها "الثنائي الشيعي"، وتحالف "حزب الله" وتيار الرئيس ميشال عون. أكثر من ذلك، فإنه دفع البلد إلى فراغ رئاسي بعد الخريف لا أحد يجهل أنه يقود إما إلى واقع غير شرعي، وإما إلى لبنان آخر.
لكن لبنان الحقيقي صعب على الهضم، لا على الإصلاح، واللبنانيون السياديون، ومعهم الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليون، قادرون على إنقاذه من المشكلتين الكبيرتين، وهذا ليس الإنقاذ الأول، ومسكين من يتخيل أنه يستطيع تغيير التاريخ ولو تحكم حيناً بالجغرافيا.