تناولت الجلسة الأخيرة في قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي انعقدت في مدريد، نهاية الأسبوع الماضي، التهديدات والتحديات من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، بحسب ما جاء على لسان الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، خلال المؤتمر الصحافي الأخير في القمة، الخميس 30 يونيو (حزيران)، مشيراً إلى "التأثير المباشر لانعدام الاستقرار في هذه المناطق في أمن جميع الحلفاء"، ولفت إلى أن المفهوم الاستراتيجي الجديد يحدد الإرهاب باعتباره أحد التهديدات الرئيسة لأمن دول "الناتو".
وللمرة الأولى، اتفقت دول الحلف العسكري على تقديم حزمة "بناء القدرات الدفاعية" لموريتانيا، حيث يشير المفهوم الاستراتيجي الجديد إلى مصلحة استراتيجية في هذه المنطقة بالنظر إلى المخاطر الأمنية التي يشكلها الإرهاب والهجرة غير النظامية في منطقة الساحل والصحراء، كما تم الاتفاق على تقديم دعم إضافي لبناء القدرات لتونس، والاستمرار في دعم الأردن.
اهتمام "الناتو" بدول الجنوب، ليس مستحدثاً، فخلال قمته عام 2004 تأسست "مبادرة إسطنبول للتعاون" لتعزيز التعاون الأمني على أساس ثنائي بين "الناتو" والدول الشريكة في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، بهدف الإسهام في الأمن العالمي والإقليمي على المدى الطويل، وتشارك في المبادرة الإمارات والبحرين والكويت وقطر حالياً، بينما تشارك عمان والسعودية في أنشطة مختارة بإطار المبادرة.
وفى ختام القمة، التي عقدت في مقر الحلف بالعاصمة البلجيكية بروكسل عام 2018، أعلن "الناتو" تخصيص حزمة مبادرات خاصة بدول الجنوب (التي تمتد من موريتانيا حتى الخليج وإسرائيل) تتضمن مبادرات تعاون سياسية وعملية نحو نهج استراتيجي أكثر تماسكاً وتركيزاً على الشرق الأوسط وأفريقيا، باعتبار أن هذه المنطقة تواجه عدداً من التهديدات المعقدة والتحديات، التي تؤثر على أمن الدول عبر الأطلنطي.
ومع ذلك، فإن الحرب الروسية في أوكرانيا دفعت بتغييرات جذرية في استراتيجية "الناتو" تجاه دول الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء.
ووردت الإشارة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا في المفهوم الاستراتيجي الجديد في النقطة الحادية عشرة ضمن التهديدات التي تواجه "الناتو" وشركاءه، التي ذكرت أن الجوار الجنوبي لحلف "الناتو"، لا سيما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل، يواجه تحديات أمنية وديموغرافية واقتصادية وسياسية مترابطة. وتتفاقم هذه المشكلات بسبب تأثير تغير المناخ والمؤسسات الهشة وحالات الطوارئ الصحية وانعدام الأمن الغذائي. ما يمثل أرضاً خصبة لانتشار الجماعات المسلحة من غير الدول، بما في ذلك المنظمات الإرهابية، مشيرة إلى أن هذا الوضع يمكّن "المنافسين الاستراتيجيين" من "التدخل المزعزع للاستقرار.
مالي وتطويق "الناتو"
العبارة الأخيرة تلخص أسباب الاهتمام المتزايد بموريتانيا، التي ترتبط بحدود تبلغ 2237 كيلومتراً مع مالي، المرتبطة بعلاقات أقوى مع روسيا منذ انسحاب القوات الفرنسية قبل أقل من عام. ففي يناير (كانون الثاني)، أعلن متحدث باسم الجيش في مالي وصول جنود روس إلى مدينة تمبكتو في شمال البلاد، لتدريب القوات المالية في قاعدة انسحبت منها القوات الفرنسية، وهو ما أثار حفيظة دول غربية، لا سيما وسط مزاعم بوجود مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة، التي يشار إليها بــ"المرتزقة"، ويتهمها الغرب بانتهاكات حقوقية، وهو ما تنفيه باماكو.
ووفقاً لورقة بحثية صادرة عن صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، مؤسسة أبحاث أميركية غير حزبية تعمل على القضايا المهمة للمصالح عبر الأطلسي، فإن البيئة الأمنية على الأطراف الجنوبية لحلف "الناتو" تمثل تحدياً، فمن ليبيا إلى الشرق الأدنى والخليج العربي، تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على عدد لا بأس به من التهديدات التي تتراوح بين الصراعات الإقليمية إلى هشاشة الدول والإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وهو ما يشكل أيضاً مخاطر مباشرة وغير مباشرة على أمن أعضاء "الناتو" ومجتمعاتهم، بما في ذلك تلك المتعلقة بالهجرة غير المنضبطة وانعدام الأمن البشري وتغير المناخ.
وتقول دراسة صندوق مارشال إن عودة ظهور روسيا والصين في الآونة الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدت إلى زيادة أهمية دور "الناتو" هناك، إذ أشارت إلى أن الوجود الروسي في المنطقة هو سبب منطقي إضافي يعزز ضرورة وجود "الناتو" فيها. محذرة من أن القوى الخارجية الأخرى (مشيرة إلى موسكو وبكين) لديها خطط واضحة حول ما تريده في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن ثم فإن أي فك ارتباط من قبل "الناتو" أو القوى الغربية سيحمل على الأرجح مخاطر هائلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف، "مع الأخذ في الاعتبار المفهوم الاستراتيجي القادم، فإن الطموح الأمني التعاوني المتجدد أمر حتمي إذا أراد (الناتو) التأثير في الاستقرار الشامل للمنطقة".
وبين عامي 2015 و2021، زادت روسيا من الوجود العسكري في جميع أنحاء العالم سبعة أضعاف، مع عمليات في 27 دولة اعتباراً من العام الماضي، وفقاً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في واشنطن. المجموعة العسكرية الروسية الأبرز هي مجموعة "فاغنر"، التي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكيلاً عن الجيش الروسي بينما ينفى الكرملين ذلك. وتقول صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأميركية، "من ليبيا إلى مدغشقر، تمنح العقود الأمنية مع مجموعة (فاغنر) وغيرها لروسيا إمكانية الوصول إلى الموارد المعدنية، وأسس الانطلاق لعمليات الانتشار، ومواطئ قدم كبيرة تتحدى نفوذ الدول الغربية".
إلى جانب ليبيا والسودان، فإن مالي الأحدث من بين أكثر من عشر دول أفريقية غنية بالموارد أقامت تحالفات أمنية مع الكرملين، وفقاً لمسؤولين أميركيين تحدثوا لوسائل إعلام أميركية خلال الأشهر الماضية. ففي مارس (آذار) الماضي، قال الجنرال الأميركي المتقاعد فيليب بريدلوف لوكالة "أسوشيتد برس"، "ما نراه هو روسيا التي تقوم بعمليات استكشافية أكثر بكثير، وتلقي بقوتها العسكرية على نطاق أوسع وأبعد، لا سيما في السنوات الست الماضية".
ومع مواصلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه الشرسة في أوكرانيا، ينظر الأوروبيون إلى أهدافه التوسعية في الشرق الأوسط وأفريقيا على أنها تهديد محتمل طويل الأجل، وليست خطراً آنياً على أوروبا أو منظمة حلف شمال الأطلسي، لكن في الوقت نفسه فإن العمل على بناء التحالفات مع دول الجنوب يعني دفع طموحات الكرملين لإعادة النفوذ الروسي إلى حدود الحرب الباردة. وتقول كريستينا كوش، الزميلة المتخصصة في الأمن الأوروبي لدى صندوق مارشال، عن النفوذ الذي تكتسبه روسيا، "إنه يهدد (الناتو) من الجنوب. لقد شعر الروس بأنهم محاصرون من قبل الحلف، وهم يريدون الآن تطويقه".
دور ألماني أوسع في أفريقيا
من جانب آخر، فإن شراكات روسيا الأمنية مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا تشكل دعماً دبلوماسياً مهماً داخل المؤسسات الدولية، في الوقت الذي يسعى الغرب لعزلها دولياً. فعندما دانت الجمعية العامة للأمم المتحدة الحرب الروسية، انضمت سوريا إلى روسيا في التصويت ضد القرار، وامتنع عدد من الحكومات الأفريقية التي وقعت اتفاقيات أمنية مع روسيا عن التصويت. كما أن تحالف روسيا المتنامي مع الصين يبعث مزيداً من القلق لدى الغرب، ففي فبراير (شباط) الماضي، قالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك، إن الغرب لم يعد بإمكانه تجاهل المنافسة على النفوذ عبر أفريقيا، حيث تنفق الصين المليارات على مشاريع البنية التحتية لتأمين حقوق المعادن، وتوفر روسيا الأمن من خلال المرتزقة المتحالفين مع الكرملين.
والجمعة الماضية، أعلنت باريس انتهاء عمل القوات الخاصة الأوروبية "تاكوبا"، المعنية بجهود مكافحة الإرهابيين في منطقة الساحل بمالي، بسبب التوتر مع القيادة العسكرية الحاكمة في باماكو، حيث تدهورت العلاقات الفرنسية المالية في أعقاب انقلابين متتاليين في مالي، أغسطس (آب) 2020، ومايو (أيار) 2021، أعقبهما رحيل قوة "برخان" الفرنسية. وبحسب الوكالة الفرنسية، فإن قوة "تاكوبا" التي تعد رمزاً للدفاع الأوروبي، تشكلت بجنود من نحو عشر دول أوروبية بلغ عددهم بين 800 و900 من القوات الخاصة، وكانت مكلفة بمساعدة القوات المالية في الحصول على الاستقلال، والسماح لها بالعودة إلى الأراضي التي أخلتها الدولة في مواجهة الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي "القاعدة" أو "داعش".
ويتهم الأوروبيون روسيا، وبالأحرى قوات مجموعة "فاغنر"، بتعطيل العمليات الأوروبية داخل منطقة الساحل. ويقول سين موناغام، الزميل لدى "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" في واشنطن، إن من المرجح أن يكون لنشاط "فاغنر" في منطقة الساحل عواقب على أمن أوروبا، مما يعني دوراً أكبر لـ"الناتو" في المنطقة.
ووفقاً لـ"المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية"، فإن ألمانيا تلتزم دعم الأمن في منطقة الساحل، لا سيما من خلال مشاركتها في بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية في مالي (EUTM) وأخيراً في النيجر، وفي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما"، حيث يشارك أكثر من 1500 جندي ألماني هناك.
ويشير المعهد في تقرير أصدره، الشهر الماضي، إلى أنه في حين أدى وصول قوات الشركة العسكرية الروسية الخاصة "فاغنر" إلى مالي لتعليق عمليات التدريب التي تقوم بها البعثة الأوروبية، فإن ألمانيا أبقت على مشاركتها في بعثة الأمم المتحدة، إذ تعد هذه المهمة حالياً أكبر التزام أمني لألمانيا منذ الانسحاب من أفغانستان في صيف 2021. ويكمل الالتزام الأمني دور برلين في المنطقة، في وقت يقلص الشريك الفرنسي حجمه في سياق المنافسة الاستراتيجية الشرسة بشكل متزايد جنوب الصحراء. كما تعتزم ألمانيا تعزيز تعاونها مع المجتمع المدني وزيادة مساعدتها الإنمائية الرسمية.