لعل أدق وصف لما جاء في بيان قائد الانقلاب في السودان عبد الفتاح البرهان، الاثنين الماضي 4 يوليو (تموز)، هو أنه بيان مليء بالفخاخ السياسية والتخطيط الماكر، كما نبه إلى ذلك أكثر من محلل سياسي سوداني. فالواضح أن الغموض الذي أراده من صاغوا البيان للبرهان ليتلوه على جماهير الشعب السوداني كوصفة لحل أخير، كان في الحقيقة أوضح وصفة مسمومة لتفجير الواقع السياسي السوداني المحتقن بالتناقضات المكشوفة.
فحين يقرر قائد الانقلاب، انسحاب الجيش من الآلية الثلاثية المنظمة للحوار، واقتصار مهامه على الأمن والدفاع، ثم يعلن، في الوقت نفسه، أن ذلك من أجل تشكيل حكومة مدنية من الكفاءات الوطنية، ماذا يمكننا أن نفهم من هذا الكلام؟
فإذا كان قرار انسحاب الجيش من الآلية الثلاثية أمراً مفهوماً ومطلوباً يصب في الاستجابة لشعار الثوار: "العسكر للثكنات" فما الذي يدعو البرهان إلى أن يكون هو المحدد لشكل الحكومة المدنية المقبلة؟
وحين يشترط البرهان، أنه، بعد تشكيل الحكومة التنفيذية، سيتم حل مجلس السيادة ثم تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ثم تستكمل مهام أخرى للمجلس الأعلى بالاتفاق مع الحكومة التي يتم تشكليها (طبعاً من دون أي ذكر لمجلس سيادة جديد بحسبان أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو البديل لمجلس السيادة) يا ترى ما هذه المهام؟ ثم حين يدعو البرهان مكونات الشعب المختلفة (من دون أن يستثني حزب المؤتمر الوطني، حزب البشير كما فعل في بيانه الانقلابي في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي للانخراط في الحوار، ثم يقول بعد ذلك (حق التعبير عن الرأي مكفول للجميع) ما الذي نفهمه من نقاط هذا البيان سوى أنه فخ سياسي تم تدبيره للتخلص من أعباء أعيت الانقلابيين ووعود عجزوا عن تنفيذها منذ إعلان بيانهم الانقلابي يوم 25 أكتوبر الماضي، حين قال البرهان، يومذاك، إنه سيتم تشكيل حكومة وبرلمان في أقل من أسبوعين، ولم يتم تكوين لا هذه ولا هذا حتى بعد مضي أكثر من 8 أشهر على انقلابه، سوى حكومة حمدوك الذي سرعان ما قدم استقالته منها في 2 يناير (كانون الثاني) الماضي وحتى اليوم!
وبالتأمل في هذ البيان المفخخ، نرى بوضوح، أن ثمة نية مبيتة للهروب إلى الأمام من المشكلات والمصائب التي جلبها انقلاب البرهان منذ 8 أشهر، وأن قائد الانقلاب بهذا البيان يريد أن يرمي بالمشكلة التي عجز عنها (تكوين الحكومة والبرلمان) كقنبلة موقوتة في ملعب قوى الثورة المدنية والأحزاب السياسية، ظناً منه أن في ذلك ما يعفيه من جريمة الانقلاب وتداعياته الخطيرة في كل جوانب حياة السودانيين أمنياً وسياسياً واقتصادياً، من ناحية، وأن ذلك ما سيدعوه، بعد المهلة التي قررها لتكوين الحكومة، لإعادة إنتاج انقلاب جديد (قد لا يكون هو جزءاً منه) بعد مضي شهر، بإعادة تصدير الجيش كحام للشرعية ليثبت عجز القوى السياسية عن تشكيل حكومة خلال مهلة الشهر، من ناحية ثانية.
ومن أكبر الدلائل التي كشفت زيف ما جاء في بيان البرهان، المحاولات المتكررة لبعض القوى العسكرية لفض الاعتصامات الأربعة، التي نظمتها قوى الثورة لتكون اعتصامات دائمة في الخرطوم بعد يوم 30 يونيو (حزيران) من أجل إسقاط الانقلاب بعد ساعات من تلاوة البرهان لبيانه!
لكن سرعان ما جاء الرد من طرف القوى الثورية الرافضة لمضمون ذلك البيان، لا سيما المؤتمر الصحافي الذي عقدته قوى الحرية والتغيير حين فند قادة تلك القوى جميع الحيل والحجج الواهية التي كمنت وراء نصوص هذا البيان كقنابل موقوتة وفخاخ منصوبة لتفجير الوضع السياسي، وكان رد قوى الحرية والتغيير من أقوى الردود على ذلك البيان.
لقد كشف بيان قائد الانقلاب النهاية المحتومة لانقلابه، وكانت هذه الخطوة المكشوفة للعب في الوقت بدل الضائع، ككل مرة، أنها تمثل هروباً جديداً من مشكلات قديمة ومآزق حقيقية ظل المكون العسكري يهرب منها منذ أن حامت حوله تهم ظلت تلاحقه بالتورط في تدبير مذبحة فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في 3 يونيو (حزيران) عام 2019 قياساً على سيناريو آخر في المنطقة.
وفيما تشير كل الدلائل، إلى أن الوضع المأزوم الذي أصبح عليه انقلاب 25 أكتوبر اليوم، إنما هو من النتائج السريعة لتداعيات مليونية 30 يونيو الماضي، الذي أشرنا في مقالنا السابق إلى بعض السيناريوهات المحتملة لذلك اليوم، ولمحنا في المقال: إلى أنه ربما تبتدع لجان المقاومة استراتيجيات جديدة من أجل سقوط الانقلاب، وهو ما حدث بالفعل عبر إقامة الاعتصامات الأربعة الكبرى في الخرطوم من طرف اللجان كاستراتيجية دائمة في خطتها إسقاط الانقلاب، وفي الوقت ذاته كفضاء حر يسمح بكثير من النقاشات حول وحدة قوى الثورة وبحث سبل تلك الوحدة التي كلما اُقترب من تحقيقها أصبح سقوط الانقلاب وشيكاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لهذا جاء بيان البرهان كأثر من آثار وتداعيات 30 يونيو ليكون مؤشراً قوياً لقوى الثورة حول ضرورة الوحدة والبحث الحثيث عن عنوان واحد كبير كجبهة جمهورية تستقطب جميع قوى الثورة عبر برنامج موحد لإسقاط الانقلاب الذي بدأ يترنح. فالخطة المكشوفة التي دل عليها بيان البرهان هدفها، خلط الأوراق في الساحة السياسية بطريقة تؤدي إلى تنصل المكون العسكري من جريمة الانقلاب بوضع القوى المدنية في حالة من المواجهة والاستقطاب مع القوى المؤيدة للانقلاب إلى جانب الإخوان المسلمين الذين لهم مصلحة وازنة في خلط الأوراق.
لكل ذلك، فإن المؤتمر الصحافي لقوى الحرية والتغيير، الثلاثاء الماضي، في رده على بيان البرهان، أشار بوضوح إلى عدم الاستجابة لدعوات البيان بالانخراط في التعاون مع ما دعا إليه، كما أن بعض قادة قوى الحرية والتغيير في ذلك المؤتمر بشروا بقرب ظهور نتائج إيجابية لصالح قوى الثورة، ربما ستكون ثمرة للنقاش الذي يدور هذه الأيام بين القوى الثورية حول ضرورة وحدة مركزية للعمل الثوري المشترك، وطبيعة البرنامج الموحد لقوى الثورة من أجل إسقاط الانقلاب.
إشكالية الحزب الشيوعي في الثورة السودانية
ولعل من أهم الإشكالات المتصلة بموضوع الثورة السودانية، ما ظل يتماهى معه الحزب الشيوعي عبر خطاب ثوري يحاول من خلاله، دائماً، الإيحاء بصوابية سياسية خاصة بوصفته وبرنامجه للعمل الثوري الذي يقوم على رؤية طهورية ذات تصورات أقرب إلى أن قطعية عن نتائج محتملة لواقع سياسي شديد السيولة بطبيعته، فيما تعمل تلك الرؤية على تخوين قوى ثورية أخرى مخالفة لرؤيتها عبر بيانات ضد بعض أحزاب الثورة السودانية الكبرى، حتى في مواقيت حرجة (مثل البيان الذي أصدره الشيوعيون في ذروة 30 يونيو، متهمين فيه كلاً من حزب الأمة وحزب المؤتمر السوداني بأنهما من أنصار الهبوط الناعم) أي التسوية بأي ثمن مع سلطة الانقلاب، فيما يتوهم هذا الحزب في المطلق ووفق أجندته الحزبية القديمة، أن أي حل تسهم فيه قوى خارجية، دولية أو إقليمية، لا يعتبر حلاً حقيقياً، وأن الحل الحقيقي هو ذلك الحل الذي يكمن في قدرة المجتمع السوداني والقوى الثورية على تحقيقه من دون تدخل من أي طرف خارجي؟ بطبيعة الحال هذه دعوى فارغة المضمون، لأن جميع قوى الأحزاب السودانية اليوم تدرك أن الخراب الذي سمم به نظام الإخوان المسلمين مكونات المجتمع السوداني ودمر به المجال السياسي وبنية الدولة لثلاثين عاماً، هو خراب كبير لا يمكنه أن يفرز قدرة للسودانيين اليوم.
الآن وهنا، لوحدة ذاتية من دون تعاون خارجي تكمن فيه مصالح متبادلة، ذلك أن أجندة الحزب الشيوعي لا تزال ترى في أي خارج مؤامرة مستمرة، من دون الانتباه للفوارق الكبرى التي أحدثتها متغيرات نظم إدراك، ووسائط وشبكات أزمنة ثورة المعلوماتية والاتصال في تعبيرها عن عالم متغير فارق نمط الثورات الكلاسيكية وأصبحت معايير نجاح الثورات فيه دالة على نمط لشبكة علاقات بالغة التعقيد على نحو يقتضي تفكيراً في الثورة من خارج صندوق التفكير في نموذج الثورات الكلاسيكية! وفي تقديرنا أن الوضع الذي أصبح عليه الحزب الشيوعي يحتاج إلى إدارة نقاشات من جميع قوى الثورة في جدوى ما يطرحه هذا الحزب في سرديته الثورية، بخاصة أن بعض لجان المقاومة لها تأثر بمنظومة التعبئة التي تعكسها تكتيكات الحزب الشيوعي في الخطاب التعبوي ذي الصيغة الفنية والجمالية (الشعارات والأناشيد التي كتبتها ذات يوم رموز وأيقونات فنية في الشعر والغناء انتموا لهذا الحزب) لكن هذا الخطاب التعبوي لا ينطوي على تخطيط سياسي صلب، فيه تفكير سائل وإدراك ذو بصيرة حول مفاهيم القيمة والماهية والتحول والمصير التي تتحكم في إنتاج الواقع السياسي داخلياً وخارجياً، والقوانين التي تتصل بهما.
وغني عن القول، إن خطاب الحزب الشيوعي في تقديرنا هو بمثابة شيك بلا رصيد في بنك العمل السياسي الراهن. ولحسن الحظ، فقد ظهرت كتابات عميقة في إدانة فائض النقد المجاني الذي يمارسه الحزب الشيوعي في حق الأطراف السياسية الفاعلة، مثل مقال رصين كتبه المفكر السوداني هشام عمر النور، وبعض الإيحاءات النقدية في بعض مقالات بكري الجاك، وهي كتابات في تقديرنا ستلفت كثيرين في لجان المقاومة إلى الانتباه لما يمارسه الحزب الشيوعي عبر تكتيكاته السياسية المستغرقة في تقديرها لذات حزبية متجاوزة، ومن ثم الكف عن الانسياق وراء شعاراته العدمية، لأن أي تفكير عميق في مآلات ما يمكن أن تفضي إليه شعارات وتكتيكات الحزب المسرنمة، سيكتشف خطورة ما تنطوي عليه أفكاره القديمة من تزييف لكثير من حقائق الواقع. لهذا، نرى من الأهمية بمكان أن تجري قوى الحرية والتغيير والقوى المدنية وكثير من الباحثين والمفكرين السودانيين حوارات ثورية مفتوحة ومطولة مع لجان المقاومة حول طبيعة العمل المشترك لإسقاط الانقلاب، مع تقديم ضمانات برنامج موحد، وذلك في تقديرنا لا يتم إلا بإجراء نقاشات مفتوحة وحوارات عصف ذهني مكشوف مع لجان المقاومة والقوى الثورية حول نقد جدوى الأجندة السياسية للحزب الشيوعي وتفكيك بنيتها البسيطة وشعاراتها المجوفة، وإن حدث ذلك على نحو واسع فسيصب في تمتين وتقوية نسيج البرنامج الثوري للجبهة الجمهورية باتجاه إسقاط الانقلاب.
ربما تعين على الشيوعيين السودانيين اليوم، أن يتأملوا عميقاً في مقولة القائد الشيوعي الفيتنامي الكبير "هوشي منه" حين قال، "إذا وجدت نفسك في نقطة تتقاطع فيها بمكان واحد مع العدو فلتنظر إلى وجهك في المرآة؟" أي لتمارس نقداً ذاتياً في أدوات صراعك الثورية، وربما لم يدرك الحزب الشيوعي السوداني بعد، أن أجندته للعمل السياسي في الثورة السودانية اليوم تجلب الدقيق إلى طاحونة "الإخوان المسلمين"؟!