أثار خطاب وقرارات رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الفريق عبدالفتاح البرهان بانسحاب الجيش من الحوار السياسي المباشر عاصفة من الجدل في الأوساط السياسية، تجلت في تباين التفسيرات والآراء والمواقف بين الرفض والتأييد.
ما بعد الرفض
وترك رفض تحالف "قوى الحرية والتغيير" (المجلس المركزي) تلك القرارات، استفهاماً مفتوحاً حول ماهية المرحلة التالية التي تتجه إليها الأزمة السياسية السودانية، في ظل الاتصالات الحثيثة التي يجريها التحالف مع قوى الثورة لبناء جبهة وطنية واسعة موحّدة من أجل تصعيد الرفض الجماهيري ودعم وتطوير الاعتصامات المستمرة منذ الـ 30 من يونيو (حزيران)، وصولاً إلى الإضراب السياسي والعصيان المدني.
وامتداداً لإعلان انسحاب الجيش من الحوار أصدر الفريق البرهان لاحقاً قراراً بإعفاء الأعضاء المدنيين بمجلس السيادة الانتقالي، مبقياً على الأعضاء من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وهم مالك عقار والهادي إدريس والطاهر أبو بكر حجر، الأمر الذي رفضه أيضاً تحالف "قوى الحرية والتغيير"، واعتبره تجريداً للوجه الحقيقي لانقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول)، وتحولاً من جانب مجلس السيادة الانتقالي إلى ملامح أكثر عسكرية.
وحول خطوات ما بعد رفض قرارات البرهان، أكد القيادي في "الحرية والتغيير"، المتحدث الرسمي باسم حزب "المؤتمر السوداني"، نور الدين بابكر لـ "اندبندنت عربية" أن "الأيام القليلة المقبلة ستشهد إعلان ميلاد المركز التنسيقي الموحد لقوى الثورة، ليتولى قيادة تصعيد الحراك الجماهيري على الأرض كوسيلة وحيدة لخنق وهزيمة الانقلاب، بعد أن أسفر الضغط الثوري الجماهيري عن تنازلات من الانقلابيين"، منوهاً بأن "نتائج اتصالات التحالف مع قوى الثورة داخل وخارج الحرية والتغيير أوشكت على النضج وينتظر أن تظهر نتائجها قريباً جداً".
ولفت بابكر إلى أن "الرسائل التي حملتها قرارات البرهان السابقة والحالية موجهة في حقيقتها إلى الخارج بدرجة أكبر منها إلى الداخل بغرض ادعاء المرونة، لكنها في الواقع تكشف عن مساعٍ حثيثة للخروج من ورطة الانقلاب".
التصعيد الخيار الوحيد
وأكد بابكر أن "التصعيد الثوري بات الخيار الوحيد المطروح لأن المطلوب هو انسحاب الجيش من الحياة السياسية وليس الحوار، فضلاً عن إصلاح المؤسسات الأمنية وبقية متطلبات الفترة الانتقالية"، مشيراً إلى أن "اللجان الميدانية هي المعنية بترتيبات تتريس الشوارع بالحواجز خلال فترة العيد، بخاصة في المناطق الحيوية، بما لا يعوق حركة وحياة المواطنين".
وعلى نحو متصل، كشف القيادي في "الحرية والتغيير" (المجلس المركزي)، ياسر عرمان عن أن "خطاب البرهان جاء متطابقاً تماماً مع محتوى المذكرة التي دفع بها المكون العسكري سراً إلى الآلية الثلاثية وأطراف من المجتمع الدولي قبل أيام عدة من دون الإعلان عن ذلك". وأشار عرمان إلى أن "المذكرة حددت بوضوح مهمات المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة وعلى رأسها ممارسة السيادة وكثير من جوانب السياسة الخارجية وبنك السودان المركزي، فضلاً عن اختصاصات أخرى".
واتهم عرمان الخطاب بإغفال استثناء حزب "المؤتمر الوطني" المحلول وإهمال ذكر الحركات الموقعة على اتفاق السلام في جوبا، إلى جانب عدم الإشارة بوضوح إلى مهمات المجلس الأعلى للقوات المسلحة المزمع تكوينه، متجاهلاً القضية الوطنية الرئيسة والمتمثلة في بناء جيش مهني واحد يعكس تنوع السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعا عرمان إلى "توجيه المد الجماهيري في كل المدن والقرى نحو العصيان المدني والإضراب السياسي الشامل، ومساندة جهود ومساعي المهنيين ولجان المقاومة والقوى السياسية والمجتمع المدني في الوصول إلى مركز موحد لهزيمه الانقلاب وإقامة سلطه مدنية ديمقراطية، بالتزامن مع عمل دؤوب لكسب دعم المجتمع الإقليمي والدولي لقوى الثورة الباحثة عن الديمقراطية والسلام".
وعلى صعيد تحالف "قوى الحرية والتغيير"، كشف أمينه العام مبارك أردول عقب اجتماع للتحالف، عن دعمه الحوار الذي ترعاه "الآلية الثلاثية" بمشاركة جميع القوى السياسية في البلاد، عدا حزب "المؤتمر الوطني"، مناشداً الجماهير الضغط على القوى السياسية للمشاركة فيه.
واعتبر رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي (الشرعية الثورية) الشريف صديق الهندي أن "خطاب الفريق البرهان يمهد لتكريس حكم ووصاية عسكرية تهيمن على القرار السياسي ومفاصل الحكم حتى بعد تشكيل الحكومة، بخاصة في ما يخص إعلانه إنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة".
وشدد الهندي على ضرورة "إنهاء الانقلاب بصورة واضحة واستمرار مسيرة التحول المدني الديمقراطي"، مطالباً "القوى السياسية بالاستعداد التام للعودة إلى المسار الديمقراطي، سواء عبر حوار الآلية الثلاثية أو بتوافق قوى الثورة، خصوصاً بعد أن هدم خطاب البرهان جدار الثقة مع القوى الثورية وبات الحل بيد الشارع بشروطه وحلوله".
"الثورية" تحذر
في السياق نفسه، حذر الأمين العام للتحالف السوداني الموقّع على اتفاق السلام والقيادي بالجبهة الثورية موسى حسان من أن "الوضع في السودان بات حرجاً ولا بد من وجود منظومة أمنية موحدة بعيداً من شيطنة القوات المسلحة"، وأوضح أن "جيل الشباب الحالي أظهر وعياً متقدماً متجاوزاً خطاب القبلية والإثنية والجهوية، وعلى القوى السياسية احترام تطلعات هذا الجيل أو أن تذهب إلى مزبلة التاريخ".
وحمّل القيادي بالجبهة الثورية مسؤولية الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد لانشقاقات وتشظي المكون المدني الذي كاد يعصف بكل ما حققته الثورة عبر النضال التراكمي الطويل، في وقت لا يعاني المكون العسكري أزمات داخلية، ويبدو أكثر ترتيباً وتماسكاً من كل المكونات السياسية الأخرى، مشيراً إلى أن الكرة أصبحت بعد خطاب البرهان في ملعب القوى السياسية التي تدعي تمثيل الثورة.
ودعا حسان في حديث متلفز إلى التعامل مع الوضع الجديد بمسؤولية تتطلب ضرورة التوافق لإخراج البلاد من أزماتها المتفاقمة، وفك الشراكة بين المدنيين والعسكريين، متهماً تحالف الحرية والتغيير بممارسة الإقصاء ضد عدد كبير من مكوناته خلال فترة سابقة.
وعلى صعيد متصل، يرى المحلل السياسي إبراهيم عبيد الأمين أن تأكيد خطاب البرهان على دعم جهود الآلية الثلاثية والتمسك بها يُلمح من طرف خفي إلى أنه قد يكون جاء محصلة لتفاهمات ومشاورات مسبقة معها، كما يعكس في الوقت نفسه عجز وفشل المجتمع الدولي في دعم التحول الديمقراطي المدني بالبلاد.
وأشار الأمين إلى أن تظاهرات الـ 30 من يونيو قضت على أي احتمال لعودة نوع من الشراكة، مما دفع المكون العسكري إلى محاولة الالتفاف عبر قرارات البرهان الأخيرة لفرض نفسه على العملية السياسية عبر بوابة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مما يعني أنه لم تعد هناك حلول سوى مواصلة تصعيد الحراك الثوري حتى تتحقق مطالب وأهداف الثورة والتحول المدني الديمقراطي.
واعتبر المحلل السياسي أن تكرار مطالب المكون العسكري بضرورة التوافق الوطني "كلمة حق أريد بها باطل، لأن ما يمكن أن يتحقق هو الحد الأدنى من الاتفاق وليس الإجماع المطلق الذي هو حال نادرة في عالم السياسة".
ويشير الأمين إلى ضرورة الحد الأدنى من التوافق السياسي لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية واتخاذ الترتيبات والأطر المؤسسية والقانونية لتنظيم انتخابات ما بعد الفترة الانتقالية، وهو ما يتطلب وجود أحزاب وكيانات وتنظيمات ذات شرعية سياسية مستمدة من قواعد عريضة تغذيها بالقوة والقدرة وشرعية إدارة الانتقال واستكمال هياكله ومؤسساته، وذلك هو السبيل لإبطال مبررات الجيش بأحقيته في إدارة الانتقال.
نحو انتخابات باكرة
وعلى نحو متصل، أوضح أستاذ التحليل السياسي بالجامعات السودانية عبدالرحمن أبو خريس أن "استمرار العجز عن التوافق قد يفرض واقعاً جديداً يستدعي الذهاب إلى انتخابات باكرة، حسماً لطول أمد الأزمة بالنظر إلى الأوضاع والظروف التي تمر بها البلاد، وحفاظاً على ما تبقى من استقرارها وأمنها، وإبعاداً لمآلات قاسية ظل الجميع يحذر منها مراراً وتكراراً".
وأشار أستاذ التحليل السياسي إلى أن "إعلان انسحاب الجيش من الحوار فيه إشارة واضحة إلى عدم نيته الخوض في معترك العملية السياسية وانصرافه إلى مهماته الأساسية في حفظ الأمن القومي وحراسة الدستور، وهي إشارة إيجابية ينبغي على القوى السياسية التقاطها والبناء عليها وتطويرها بدلاً من التشكيك فيها وإساءة تأويلها وتفسيرها، بما يوسع شق الثقة ويزيد الاحتقان وحدّة الصراع".
وكانت جلسات الحوار المباشر التي دعت إليها "الآلية الثلاثية" بين فرقاء الأزمة السودانية المتجذرة في الثامن من يونيو الماضي تم تعليقها إلى أجل غير مسمى، بسبب مقاطعة تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وحزب الأمة ولجان المقاومة وعدد من القوى الثورية المؤثرة. ونجحت وساطة قادها كل من مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية مولي في، وسفير السعودية لدى الخرطوم علي جعفر في ترتيب لقاءات موازية بين تحالف "الحرية والتغيير" والمكون العسكري، غير أن اللقاءات لم تفلح في التوصل إلى صيغة توافقية تعيد إطلاق جلسات الحوار من جديد.
وكانت "الآلية الثلاثية" بدأت العمل مارس (آذار) الماضي بالتشاور غير المباشر مع الأطراف المختلفة، وانضم الاتحاد الأفريقي في الشهر نفسه، والتحقت به أيضاً منظمة شرق ووسط أفريقيا للتنمية (إيقاد)، وشكلت الأطراف الثلاثة آلية ثلاثية لرعاية الحوار السوداني.