بعد أن ألغت المحكمة العليا الأميركية حق الإجهاض الذي ظل سارياً على مدى نصف قرن، ثارت أسئلة عديدة حول طبيعة التغييرات القانونية الأخرى التي قد تصدرها المحكمة خلال الفترة المقبلة، بخاصة أن القضاة الستة الذين عينهم رؤساء جمهوريون ويسيطرون عليها الآن نفد صبرهم، ورفضوا إلى حد كبير النهج الحذر لرئيس المحكمة جون روبرتس، ويعتقدون أنه يتعين عليهم إرساء القانون كما يرونه، حتى عندما يتطلب الأمر نقض سابقة طويلة الأمد، فما أبرز القضايا التي يتوقع أن تغير المحكمة مسار القانون فيها؟ وكيف يمكن أن تؤثر في المجتمع الأميركي؟
الحق في الخصوصية
منذ أن أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمها في قضية "رو ضد وايد"، الذي ألغى الحق في إجراء عمليات إجهاض على الصعيد الوطني واستمر منذ عام 1973، برزت مخاوف كثيرة من أن ينسحب هذا الحكم الذي هزّ أرجاء الولايات المتحدة إلى قضايا أخرى ترتكز على التفسير القانوني نفسه، وهو المفهوم الدستوري للخصوصية، وتشمل القضايا التي تستخدم هذا الإطار قضية "جريسوولد ضد ولاية كونيتيكت" عام 1965، التي أكدت الحق في استخدام وسائل منع الحمل، وقضية "لورانس ضد ولاية تكساس" عام 2003، التي منعت الولايات من مقاضاة الأزواج من الجنس نفسه بسبب ما اعتبرته سلوكاً جنسياً خاصاً، وقضية "أوبرجفيل ضد ولاية تكساس" عام 2015، التي شرعت زواج المثليين على الصعيد الوطني في البلاد.
وتصاعدت هذه المخاوف نتيجة ما خلص إليه القاضي صمويل أليتو، الذي كتب رأي المحكمة بأغلبية "6-3" في القضية التي أسقطت حق الإجهاض على المستوى الوطني والمعروفة باسم "دوبس ضد جاكسون"، وأشار إلى أنه نظراً إلى عدم ذكر الحق في الخصوصية أو الإجهاض في الدستور، فقد تم اتخاذ قرار خاطئ في قضية حق الإجهاض عام 1973، لكنه كتب أيضاً أنه لا ينبغي أن يُفهم أي شيء في هذا الرأي على أنه يلقي بظلال من الشك على السوابق التي لا تتعلق بالإجهاض، الأمر الذي فسره المراقبون أنه يستهدف طمأنة البلاد بأن تآكل الحقوق الأخرى غير محتمل.
السبب الثاني للشك في أن المحكمة على وشك إلغاء الحق الدستوري في زواج المثليين أو الزواج بين الأعراق أو الوصول إلى وسائل منع الحمل، يأتي مما أشار إليه القاضي بريت كافانو في رأي متفق عليه بأن تلك الحقوق آمنة، لكن ما لم يغير كافانو رأيه، أو يقرر روبرتس إلغاء تلك السوابق، فلن تتوافر أغلبية للقيام بذلك، ومع ذلك، فقد أوضح رأي منفصل أصدره قاضي المحكمة العليا كلارنس توماس أنه يتعين إعادة النظر في جميع سوابق الإجراءات القانونية الجوهرية للمحكمة مثل حقوق وسائل منع الحمل والعلاقات الجنسية المثلية وزواج المثليين، وهو ما أدى إلى إطلاق أجراس الإنذار بين المدافعين عن الخصوصية في جميع أنحاء البلاد.
قوانين الانتخابات
غير أن هذه ليست في الواقع القضايا الساخنة التي من المحتمل أن تنظر فيها المحكمة قريباً، فهناك عدد من القضايا الخلافية الساخنة الأخرى مثل قوانين الانتخابات والعمل الإيجابي وتنظيم الأعمال وحماية المؤسسات الإعلامية من دعاوى التشهير، وجميعها قضايا مثيرة للجدل.
ووفقاً لما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" فقد وافقت المحكمة على الاستماع إلى قضية حول ما إذا كان بإمكان ولاية ألاباما رسم خريطة للدوائر الانتخابية لمقاعد مجلس النواب الأميركي تجمع العديد من الناخبين السود في دائرة واحدة للكونغرس، ما يضعف سلطتهم السياسية بشكل كبير، إذ إن نحو 27 في المئة من سكان ألاباما هم من السود، بينما تضم الولاية سبع مناطق سكنية.
غير أن الأكثر أهمية وجدلاً هو قرار المحكمة، الأسبوع الماضي، بالموافقة على الاستماع إلى قضية قد تحد من قدرة محاكم الولايات على مراجعة كيفية قيام المجالس التشريعية للولايات بترسيم الدوائر الانتخابية والإشراف على الانتخابات بطريقة أخرى، وهو ما حذرت هيئة التحرير في صحيفة "واشنطن بوست" من أنه يمكن أن يغير ديمقراطية أميركا بشكل جذري، على اعتبار أن الاستماع إلى قضية "مور ضد هاربر" في ولاية نورث كارولينا، قد يفضي إلى تآكل حقوق التصويت وزيادة احتمالية التدخل في الانتخابات، ويعود موضوع الخلاف هنا إلى أن المحكمة العليا في نورث كارولينا ترى أن دستور الولاية يمنع التلاعب الحزبي في ترسيم الدوائر الانتخابية، بينما ساق مقدمو الالتماسات إلى المحكمة العليا الأميركية حُجة تقول إن محاكم الولايات لا ينبغي أن يكون لها أي دور في إبطال قواعد الانتخابات الفيدرالية التي وضعتها الهيئات التشريعية للولايات، وفي حين لم تجد هذه النظرية التي تستند إلى فكرة أن التشريع مستقل في الولاية سوى القليل من التعاطف من أساتذة القانون والدستور، إلا أنها اكتسبت المزيد من الاهتمام من مجموعة القضاة المحافظين في المحكمة الدستورية العليا، فقد عبر أربعة منهم في الأقل عن استعدادهم للنظر في الفكرة، وهو ما ستكون له عواقب هائلة حال تبني المحكمة العليا الأميركية له حسب ما تقول "واشنطن بوست".
وتذكر الصحيفة بما كتبه رئيس المحكمة العليا جون روبرتس في قرار صدر بأغلبية خمسة إلى أربعة قضاة قبل ثلاث سنوات، بأن المحاكم الفيدرالية لا يمكنها أن تفعل شيئاً لمنع النوع نفسه من التلاعب الحزبي الشديد في ترسيم الدوائر الانتخابية، مؤكداً أنه لا داعي للخوف لأن محاكم الولاية لها الحق في التدخل لحماية حقوق المواطنين.
ومع ذلك، يبدو الأمر مختلفاً الآن، مع رغبة روبرتس والقاضية إيمي كوني باريت في التراجع عن هذا الوعد، ما قد يعني أن المجالس التشريعية في الولايات، التي تشكلت أصلاً نتيجة لهذا التلاعب الحزبي الثقيل في رسم حدود الدوائر الانتخابية، يمكن أن تغير الدوائر الانتخابية الخاصة بالكونغرس متى شاءت لضمان حصول حزب واحد على الأفضلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا وافقت المحكمة العليا على تبني هذه العقيدة فقد ينتهي الأمر إلى تقييد يد الحكام وغيرهم من المسؤولين الحكوميين والمحليين المسؤولين عن إجراء الانتخابات، وهو ما ينذر بفوضى إذا وضعت الهيئات التشريعية قواعد مرهقة للتصويت في المنافسات الانتخابية الفيدرالية بشكل يتعارض مع القواعد الأقل تقييداً في المنافسات الانتخابية للولايات.
العمل الإيجابي
ويشير مفهوم "العمل الإيجابي" إلى مجموعة من القوانين والسياسات والممارسات داخل الحكومة أو المنظمات بهدف المساعدة على تضمين مجموعات معينة من الناس على أساس النوع، أو العرق، أو الميول الجنسية، أو المعتقد، أو الجنسية في مجالات العمل المختلفة التي تكون فيها ممثلة تمثيلاً ناقصاً، مثل التعليم والتوظيف، ويبدو أن المحكمة العليا الأميركية في طريقها لإصدار أحكام قريباً تتعلق بقوانين وسياسات "العمل الإيجابي"، فقد وافقت المحكمة على الاستماع إلى قضيتين، إحداهما تتحدى استخدام العرق في القبول في جامعة عامة هي نورث كارولينا، والأخرى في جامعة خاصة وهي "هارفارد"، إذ تشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن مسؤولي الجامعة الذين تحدثت معهم قلقون بدرجة كبيرة من أن المحكمة ستحظر نهج القبول الحالي الخاص بهذه الفئات ذات التمثيل الضئيل مقارنة بما كانوا عليه في الماضي، وإذا حدث ذلك فمن المرجح أن ينخفض عدد الطلاب السود في الكليات المختارة، بما يدحض الحجة الأساسية للعمل الإيجابي وهي محاولة تحقيق نوع من العدالة وبخاصة على أساس العرق في القبول بالجامعات، وفي التوظيف في مجتمع لا تزال فيه العنصرية وعدم المساواة العرقية حاضرة بقوة.
وما قد يساعد المحكمة العليا الأميركية في اتخاذ قرارات مغايرة أن "العمل الإيجابي" لا يحظى بشعبية في الولايات المتحدة حتى في الولايات الليبرالية مثل كاليفورنيا عندما يطرح الأمر سياسياً على ورقة الاقتراع في استفتاءات الولاية، وقد تكون إحدى المشكلات أن العمل الإيجابي التقليدي وضع كل تركيزه على العرق، مع القليل من الاهتمام بالطبقة الاقتصادية، وهو ما ألحق بفكرة "العمل الإيجابي" الضرر من الناخبين البيض والآسيويين وحتى اللاتينيين، وهو ما قد يسهّل على القضاة المحافظين حظر سياسة طالما عارضوها، بخاصة أن رئيس المحكمة القاضي روبرتس كتب ذات مرة، "السبيل لوقف التمييز على أساس العرق هو التوقف عن التمييز على أساس العرق".
تنظيم الأعمال
ومن بين القوانين الخلافية التي سوف تنظر فيها المحكمة العليا الأميركية، ما يسمى بقوانين تنظيم الأعمال، فبينما كانت تميل المحكمة إلى اتباع نهج عدم التدخل في هذه القوانين، فقد تغيّر هذا الاتجاه في الفترة الأخيرة، بعدما تحولت المحكمة إلى اليمين بالقضاة الثلاثة الذين عينهم الرئيس السابق دونالد ترمب، وقد تذهب المحكمة الحالية إلى أبعد من ذلك، بخاصة في ما يتعلق بسياسة المناخ، وتحكم بأن الوكالات الفيدرالية لا يمكنها الحد من التلوث ما لم يمنحها الكونغرس تفويضاً محدداً للقيام بذلك، ومن المنتظر أن تبدأ المحكمة العليا في الاستماع إلى قضية واحدة تتعلق بقانون المياه النظيفة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
حماية الإعلام من دعاوى التشهير
وبالإضافة إلى القوانين السابقة هناك حكم تاريخي للمحكمة العليا يبدو آمناً في الوقت الحالي، بعدما أعلنت المحكمة العليا في الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) الماضي، أنها لن تنظر في قضية تطعن في الحكم الصادر عام 1964 والمعروفة باسم "نيويورك تايمز ضد سوليفان"، وهو حكم ساعد في حماية المؤسسات الإعلامية من دعاوى التشهير التي يرفعها مسؤولون حكوميون، غير أن اعتراض القاضي كلارنس توماس على رفض المحكمة تحويل الدعوى من محكمة أدنى يثير المخاوف من إمكانية عودتها مرة أخرى للظهور، وجادل القاضي توماس بأن هذه القضية هي واحدة من حالات عديدة تظهر كيف سمحت صحيفة "نيويورك تايمز" للمنظمات الإعلامية ومجموعات المصالح بإلقاء شائعات زائفة على الشخصيات العامة مع إفلاتها من العقاب.
وجاء قرار المحكمة بعدم مراجعة الأمر، على أثر تكهنات كثيرة بأنها كانت تستعد للقيام بذلك، وبخاصة عندما رفضت المحكمة الاستماع إلى قضية تشهير رفعها الممثل الكوميدي بيل كوسبي في عام 2019، واستغل القاضي توماس حينها الفرصة لإثارة قضية "نيويورك تايمز ضد سوليفان"، ولكن بعد ذلك بعامين، أبدى القاضي نيل غورستش استعداده لمراجعة هذه السابقة التاريخية، وبدأ محامو المدعين بالتشهير في توجيه التماسات للمحكمة العليا بهدف التخلص من الحماية التي تتمتع بها صحيفة "نيويورك تايمز" ووسائل الإعلام عموماً.
وتأتي هذه الحماية بفضل المعيار الذي أنشأته القضية، وهو "تعمد الضرر الفعلي" الذي يتطلب من الموظفين العموميين في دعوى التشهير، إثبات أن الطرف الجاني نشر عن قصد كذبة أو تجاهل بشكل متهور حقيقة الأمر أو زيفه، وقد تم توسيع هذه العقيدة لاحقاً لتشمل الشخصيات العامة لا الموظفين العموميين فقط، وهي فئة تضم المشاهير وقادة الأعمال وغيرهم، ومن هنا أصبح هذا المعيار هو ما يحمي الجميع من "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" إلى "فوكس نيوز" ووسائل الإعلام المتخصصة.
ويخشى البعض من أن يكون رفض المحكمة العليا النظر في القضية مجرد ارتياح مؤقت، لأن المدافعين عن الشخصيات العامة التي تسعى إلى مقاضاة وسائل الإعلام من المرجح أن يستمروا في تقديم الالتماسات من أجل مراجعة المحكمة العليا القضية، على أمل أن تؤدي قضية مختلفة إلى الفوز بتأييد الأصوات الأربعة الأخرى إضافة إلى صوت القاضي توماس لإسقاط الحكم السابق، إذ تتكون المحكمة العليا الأميركية من تسعة قضاة، ويكفي تصديق خمسة منهم لتمرير الحكم.