تبدو علاقة المبدعين بالصيف متعددة الأوجه، ربما يكون فضاء ملائماً لنصوص، إضافة إلى علاقة المبدع نفسه مع طقس الصيف اللاهب حباً وكرهاً، فالبعض يفضل أن يتوقف عن الكتابة والبعض الآخر يكتفي بالقراءة. لا شك في أن الحرارة المرتفعة تؤثر سلباً على المزاج وتزيد الاضطرابات النفسية، لكن هذا لا يمنع أنه فرصة ذهبية لأحد الكتاب حيث العزلة في جزيرة أو على شاطئ البحر لإنجاز نصه الأجمل.
فصل الغبار والأكاذيب
"إنه شهر الغبار والأكاذيب، الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر. الملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف، ويا لها من تسلية أن تلاحظ الموظف من جدية مظهره وهو يؤدي عملاً تافهاً. التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفات، الصادر الوارد، النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسللة من النوافذ المغلقة". هكذا افتتح نجيب محفوظ (1911 - 2006) روايته "ثرثرة فوق النيل"، ليصور سأم بطله أنيس زكي من ضجيج الصيف ولهيبه.
كان محفوظ بارعاً جداً في "الافتتاحيات"، وكثيراً ما اختار الصيف تعبيراً عن الغضب والكراهية، فعل ذلك أيضاً في إحدى أجمل افتتاحياته في "اللص والكلاب" مجسداً شعور بطله سعيد مهران: "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطوياً على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة".
كأنه الصدى ذاته يتكرر في النصين، وكأنها كراهية محفوظ نفسه للصيف حيث اعتاد السفر إلى الإسكندرية وفي مرات نادرة إلى رأس البر، كان بالنسبة له موسم التوقف عن الكتابة والقراءة، بسبب إصابته بحساسية في عينيه ألزمته "النظارة". مع ذلك لم تمنعه فترة الراحة الإجبارية من ترك منجز أدبي ضخم جداً، وكأنه فصل إعادة "شحن البطارية" والتأمل وصياغة النصوص في عقله أولاً.
لغو ويوميات
في عام 1933 أصدر طه حسين (1889 - 1973) كتابه "في الصيف" تحدث فيه عن فرصة "أن يجد المرء وقتاً تزهو فيه روحه"، وهو كتاب أقرب إلى النصوص المفتوحة، خليط من اليوميات والذكريات والتعليقات الحرة. ثم عام 1959 عاد مجدداً ونشر "من لغو الصيف" وهو تجميع لمقالات، حملت إحداها عنوان "من لغو الصيف إلى جد الشتاء"، قال فيها: "وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام" لا يتردد حسين في الكتابين في إظهار مقته للصيف، وهذا مفهوم على طالب مجد ثم أستاذ جامعي مرموق ارتبط نشاطه المهني لعقود بفصول الشتاء والربيع، بينما ارتبط الصيف لديه بفترة الإجازة من التدريس والكسل واللغو.
ثمة دراسات عن تأثير الفصل الذي يولد فيه الإنسان على حياته ونفسيته، ويقال، إنه يحبه أكثر من سواه. فهل ولادة محفوظ وطه حسين في الشتاء سبب عدم حبهما للصيف؟ أم الأمر- كما نفهم من تحليل طه حسين- له علاقة بالعمل والإنجاز، فكلا الرجلين من أصحاب المشاريع العظيمة، ومن الطبيعي ألا يسعدا كثيراً بالكسل والفراغ ومباهج الصيف التي تروق لآخرين مثل البحر والرحلات والإجازات.
البنات والحب
من أوائل الروايات العربية التي اختارت الصيف عنواناً وفضاء لها رواية إحسان عبد القدوس (1919 - 1990) "البنات والصيف" التي سرعان ما تحولت إلى فيلم صدر عام 1960 يشير عبد القدوس في البداية "عندنا لا نقول: الربيع، إننا نقول: الصيف" والقصد أننا لا ننتبه إلى الفصول الأربعة بل نختزلها في الفصلين الأكثر استحواذاً على الطقس وهما الصيف والشتاء.
اعتمدت الرواية على قصص خمس بنات من وحي الصيف والإجازة والبحر والحب وتجارب الحياة الجديدة، ففي استهلال قصة البنت الأولى يقول: "كانت تسير وحدها على شاطئ سيدي بشر ساعة الغروب، مرتدية بنطلوناً من قماش (لاستكس) في لون الليل، و(بلوز) في لون قشر البرتقال، وفي قدميها (صندل) بلا كعب.. والبنطلون ضيق.. ضيق". إن عبد القدوس يربط الصيف هنا، عكس محفوظ وطه حسين، بالأنوثة والمرح والحب والملابس الخفيفة المبهجة والمغامرة.
نكسة وحرب وطفولة
اختار إبراهيم عبد المجيد أن تكون أولى رواياته بعنوان "في الصيف السابع والستين" وهذا طبيعي إثر النكسة التي وقعت في عز الصيف. وبعد أكثر من نصف قرن ومع تداعيات ما يسمى "الربيع العربي" انتشرت ظاهرة روايات الصيف والحرب، منها "صيف مع العدو" للكاتبة السورية شهلا العجيلي، التي رشحت لجائزة البوكر وتتناول تأثير ما جرى في سوريا على الناس. يتغلغل الصيف بين سطور الرواية في أكثر من مدينة منها الرقة وكولونيا في ألمانيا، واللافت أنه يحضر أيضاً في المشاهد السعيدة المستعادة من عصر ما قبل الحرب، حيث نقرأ: "ننتشر في الحارة، ما إن تبدأ العطلة الصيفية، مثل عصافير فرت من قفص، لا شيء يوقفنا أو أحد، لا صراخ الجيران علينا لنبتعد عن سياراتهم، أو من تحت شبابيكهم... جرينا في الطرقات، ركبنا دراجاتنا الهوائية، وتفننا بالتشكيلات" (ص16).
لسبب ما يحضر الصيف فضاء للحرب والقتال والإرهاب، أكثر من الشتاء. وثمة دراسات كثيرة تربطه بارتفاع معدلات العنف والجرائم والتحرش والعنف المنزلي، بالتالي يبدو اختياره فضاء للحروب منطقياً. ربما يكون السبب في ذلك إلى الزحام والحرارة المرتفعة وكثرة اختلاط الناس على عكس الشتاء حيث تفضيل البقاء في المنزل.
نصوص عالمية
لا نملك إحصاء دقيقاً عن أكثر فصول العام حضوراً في عنونة وفضاء النصوص العالمية، لكن من المؤكد أن هناك كتباً شهيرة لا تنسى ارتكزت على الصيف لأسباب جمالية مختلفة منها وهج الحب أو الحرب أو الشقاء الإنساني أو المرح واللهو. وسنحاول الإشارة بإيجاز إلى بعضها.
"حلم في منتصف ليلة صيف" مسرحية كتبها شكسبير (1564 - 1616) قبل أكثر من أربعة قرون، وهي من أعماله الكوميدية الرومانسية، وهنا نتذكر فكرة إحسان عبد القدوس عن الصيف باعتباره فصل الحب والمرح. الفارق أن إحسان اختار "البحر" فضاء للهو وشكسبير فضل "الغابة". اللافت في ترجمة حسين أحمد أمين للمسرحية أشارته إلى وقوع أحداثها أواخر أبريل وأول مايو، أي قبل موعد الصيف (الرسمي) معتبراً عنوانها بذلك ينطوي على خدعة. وهذا يعيدنا مجدداً لفكرة عبد القدوس عن هيمنة فصلي الشتاء والصيف على وعينا بالزمن.
من بعد شكسبير لدينا نصوص كثيرة برز الصيف في عناوينها مثل ثلاثية "الصيف الجميل" للإيطالي تشيزاري بافيزي. مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الأعمال التي يهيمن عليها زمن الصيف ربما لا تعنون به بالضرورة مثل رواية "إلى الفنار" للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف (1882 ـ 1941).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أشهر المبدعين الذين يحتل الصيف فضاء وزمناً معظم نصوصهم الفرنسي الحائز على جائزة نوبل، ألبير كامو (1913 ـ 1960) صاحب كتاب بعنوان "الصيف"، إضافة إلى أشهر رواياته "الغريب"، فهو منذ صفحاتها الأولى يشير إلى الصيف مراراً: "ركبت الأتوبيس في الثانية. كان الجو حاراً". وعند ارتكاب البطل لجريمته، اعتمد السرد على موتيفات صيفية، فالمسدس "راح يلمع تحت الشمس"، و"كان رأسي يدق بفعل الشمس"، "كانت كل تلك الحرارة تثقلني وتعوق تقدمي"، كأن العنف والقتل يتطلب صيفاً حاراً.
أيضاً كانت الروائية الفرنسية مارغريت دوراس (1914 - 1996) مولعة بالصيف في نصوصها ومنها روايتها "العاشرة والنصف مساء في الصيف" حيث تدور أحداثها على شاطئ البحر في إحدى الجزر، وكذلك روايتها القصيرة الشهيرة "العاشق" التي تنطلق من الصيف: "نحن في فصل وحيد حار، ورتيب، نحن في المنطقة الطويلة الحارة من الأرض، لا ربيع، ولا تجدد". ربما كان اختيارها مثالياً بحكم أن الأحداث تدور في بلد آسيوي ساخن مقارنة بالجو الأوروبي البارد والرمادي، وربما لأن حرارة الصيف تغذي جنون الحب.
يحضر الصيف لدى أهم الكتاب الأميركيين وعلى رأسهم وليم فوكنر (1897 - 1962) صاحب "ضوء آب" وكذلك أشهر رواياته "بينما أرقد محتضرة"، واختير الصيف بذكاء للتعبير عن شقاء المزارعين في الجنوب الأميركي آنذاك.
لعل أفضل تلخيص لعلاقة المبدعين مع الصيف تلخصه قصة الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز (1927 - 2014) "صيف السيدة فوربس السعيد"، وهي قصة ساخرة عن مربية ألمانية عهد إليه أب برعاية طفليه في جزيرة يونانية، حيث كل المؤشرات تدل على صيف مبهج سعيد، لكن كان للسيدة فوربس رأي آخر، إذ جعلته رعباً على الطراز القوطي.