تقول الحكاية، ونعرف أن الحكايات لديها دائماً ما تقوله من دون أن يكون شرط ذلك تصديق الحكايات جميعاً. تقول إن لحن ذلك البوليرو الذي سرعان ما سيصبح واحداً من الألحان الأشهر في تاريخ القرن العشرين، ولد ذات يوم حين توجهت الراقصة الأوكرانية الأصل إيدا روبنشتاين إلى الموسيقي الفرنسي موريس رافيل طالبة منه أن يكتب لها قطعة موسيقية خاصة بها، تقدم على إيقاعها رقصاً كان تصميمه يدور في ذهنها، لكنها أبلغته مسبقاً أن المكافأة المالية ستكون متواضعة. فأجابها رافيل بأنه، في مثل تلك الحال سيكتب لها جملاً موسيقية قصيرة جداً كي لا يكلفها الأمر غالياً. وكانت النتيجة ذلك اللحن الذي اشتهر بكونه يتألف في نهاية الأمر من جملة موسيقية واحدة تتكرر طوال ما يزيد على 20 دقيقة على وتيرة واحدة ولكن تبعاً لإيقاعات متنوعة ومتصاعدة يؤمنها ضباط الإيقاع. وبهذا ولد، تضيف الحكاية، ذلك اللحن الذي لا يضاهيه في شهرته عند بدايات الربع الثاني من القرن العشرين سوى القليل جداً من الأعمال. والآن لا بد قبل الحديث عن هذا "البوليرو" من تفحص النتيجة على ضوء الحكاية، أو بالأحرى، الحكاية على ضوء النتيجة.
الحقيقة العارية
والواقع أن أي تفحص من هذا النوع سيضعنا أمام حقيقة عارية، وهي أن الحكاية المتداولة هذه تفتقر إلى أي قدر من الصحة في إطارها الحدثي، وذلك لأسباب لا يمكن المماراة فيها. ففي المقام الأول لم تكن إيدا روبنشتاين فقيرة كي تطلب من الموسيقي "مراعاتها في السعر". فهي كانت راقصة كبيرة، لكنها كانت من الثراء بحيث لا تتوقف عن دعم وتمويل إبداعات كثر من فنانين يلجأون إليها. كذلك كان رافيل نفسه مغرماً بها ويعتبرها ملهمة له ما يعني أنه ما كان من شأنه أن يقبض منها مكافأة مقابل لحن يقدمه لها، ثم إن المشروع بأكمله كان يصاغ لحساب فرقة الروسي المقيم حينها في باريس، سيرغاي دياغيليف وبتمويل من الفرقة ما يعني أن رافيل لن يقبض من إيدا في الأحوال جميعاً بل من المنتجين الممولين لـ"الباليهات الروسية" التي كان دياغيليف ينشرها في الأرجاء الأوروبية وتلقى نجاحات هائلة، ثم هناك في المشروع أيضاً الراقص الكبير نيجنسكي الذي كان اسمه وحده كافياً لتحقيق أرباح مذهلة. ومن الواضح بالنتيجة أن هذا الجانب من الحكاية أسطوري لا يصمد أمام أي تفحص جدي.
بوليرو لمحو كل ما سبقه
ولكن في المقابل يمكن القول، إن كل الباقي صحيح. بدءاً من التركيب التقني للبوليرو وصولاً إلى الرقص العظيم الذي به أتحفت إيدا جمهورها فارتبط اسمها بالعمل على الدوام، مروراً بالإلهام المدهش الذي اتبعه رافيل في ابتكاره لهذا العمل. وهو كان مدهشاً إلى درجة لم يعد ثمة معها مجال للحديث عن أي بوليرو آخر في تاريخ الموسيقى، بحيث بدا وكأن رافيل ليس فقط ملحن هذا العمل البديع بل كذلك مبتكر هذا النوع. ونعرف أن الاسم الذي بات يطلق على هذا العمل منذ ظهوره هو "البوليرو" بأل التعريف ما يعزز الشعور بأنه فريد لا نظير له في تاريخ الموسيقى، كما أن أي عمل مشابه أتى من بعده وفي السياق ذاته لم ينل من الاهتمام ولو جزءاً مما ناله لحن رافيل، ناهيك بأن رافيل نفسه وعلى الرغم من تنوع إنتاجاته الموسيقية وخوضه العديد من الأنواع من الأوبرا إلى الموسيقى الأوركسترالية والقداس بقي اسمه مرتبطاً بالبوليرو. فماذا نقول في هذا السياق عن إيدا روبنشتاين التي على الرغم من وفرة ما أنتجته وكثرة ما رقصته لم ينفصل اسمها يوماً عن ذلك البوليرو الذي بات قيدها و"سجن حياتها"، بحسب ما قالت يوماً نصف مازحة/ نصف جادة؟
بدايات أندلسية؟
ولكن بعد هذا كله، ما البوليرو، وما هذا البوليرو بالتحديد، ولماذا نذكر تعابير مثل "إعجاز" و"رائع" و"فريد"، وما إلى ذلك حين الحديث عنه؟ هذا ما سنحاول هنا الخوض فيه، وإن بإيجاز من الصعب أن يفيه حقه، ولكن قبل ذلك يجب تحديد تاريخ معين كانت فيه بداية ظهور هذا اللون الموسيقي الراقص. وهذا التاريخ هو عام 1780 حين "استنبط" الراقص الإسباني الشهير عن ذلك كاريزو إيقاعاً مليئاً بالهارمونيا لعله جاء به من المناطق الجبلية في الأندلس مضافراً إياه مع غناء دينامي وإيقاع يتم ضبطه من طريق الكاستانييت. وهكذا بعد تجارب كاريزو الأولى التي فتنت الجمهور المديني راح كل من الموسيقيين الإسبانيين أيضاً خوان مارغيا وفرناندو سور يلحنان مشاهد راقصة كان الغيتار محورها أول الأمر، لا سيما مع سور الذي خلف عدة رقصات بوليرو لثلاثة أصوات، فبات للبوليرو عند نهايات القرن الثامن عشر ليس فقط حضوره بل مكانته الكبيرة في الرقص الإسباني. وعلى تلك الحال وجده موريس رافيل (1875 – 1937) الذي اعتاد خلال العقود الأولى من القرن العشرين زيارة إسبانيا واستلهام فنونها ذات الدينامية التي تكاد تكون شرقية. ومن هنا حين طلبت إيدا روبنشتاين من رافيل أن يخصها بلحن ترقص عليه وجد نفسه ينساق من فوره خلف رغبته الجامحة في تلحين بوليرو إسباني الهوى إنما فرنسي الهوية هو "البوليرو" الذي قدم للمرة الأولى عام 1928 على خشبة دار الأوبرا الباريسية لينطلق مرة واحدة بمكانة إيدا وشهرتها إلى الذرى.
حياة مستقلة لعمل استثنائي
وحتى وإن كان هذا العمل قد ارتبط دائماً بذكرى ذلك التقديم الأول باسم إيدا روبنشتاين بالتالي، فإن الأهم من ذلك أنه سرعان ما راح يعيش تاريخه الخاص كعمل راقص ولكن أيضاً كعمل موسيقي قائم في ذاته. ولعل ما أسهم أكثر من أي عنصر آخر في ذلك الاستقلال هو الشكل البسيط الذي اتخذه اللحن متصاعداً في جملته الهارمونية المفردة التي ينطلق بها العمل على آلة ناي أول الأمر بالكاد يمكن تبينها، ليتضخم الأداء على كل آلة من الآلات تباعاً ثم على مجموعة ثلاثية ورباعية من الآلة نفسها، ومن ثم إلى تأدية الجملة عبر عدة أنواع من الآلات في كريشندو مثير يضبطه إيقاع طبول تبدأ بدورها بالظهور تباعاً متفردة ثم متضافرة أكثر وأكثر بالتدريج حتى نهاية تختلط فيها الآلات جميعاً من دون أن تتبدل الجملة الموسيقية أي تبدل حتى وإن خالطها بين الحين والآخر ما قد يبدو خروجاً عنها في إمعان بالتصعيد قل نظيره، بمعنى أن القطعة تمر من اللحن البطيء والناعم عند نقطة الانطلاق إلى الصخب وحركة التسريع التي تعلن النهاية، يمر عبر ما يشبه "كتالوغ" لشتى الآلات الموسيقية المعروفة، بل حتى مروراً بآلات عرف رافيل كيف يدخلها إلى الأوركسترا الكبيرة بشكل مفاجئ. ويقول مؤرخو سيرة رافيل ومنهم رولان – مانويل، إن رافيل وبعد أن اختبر عمله هذا كاملاً للمرة الأولى وقد أسند قيادة الأوركسترا إلى صديقه والتر سترارام وقف يبتسم بحسرة وهو يتمتم: "هاكم عمل موسيقي من المؤكد أنه سيكون عصياً على البرمجة في أي حفل موسيقي أوركسترالي"، لكن التاريخ سيثبت لرافيل وبسرعة كم كان على خطأ في ذلك الحكم المتسرع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل التفسيرات وصولاً إلى التصوف
فالحقيقة، أن النجاح الهائل والفوري لذلك العمل الذي لم يكن صدفة أن يسمى "البوليرو" مع أل التعريف، كان من الضخامة بحيث طغى على كل الموسيقى الراقصة التي كتبت في زمنه، بل الأعجب من هذا أن الأزمان التالية راحت تعطي لهذا البوليرو تفسيرات متناقضة. فهو أول الأمر ومع رقص إيدا روبنشتاين اعتبر عملاً رومانطيقياً، ثم لاحقاً حيث تلقفه السينمائيون وجعلوه عماد أفلام لهم اتخذ مسحة إيروتيكية تعتمد على التشابه بين التصعيد الموسيقي والتصعيد الجنسي، ثم في ثمانينيات القرن العشرين حين تلقفه موريس بيجار وتعامل معه كعمل موسيقي مشرقي يتناسب مع بدء اهتمامه بالإسلام إلى درجة اعتناقه، وهو الذي قدم استعراضاً راقصاً يدور من حول موسيقى بعض أغاني أم كلثوم، عرف كيف يضفي عليه مسحة صوفية بديعة. وهكذا أثبت فن موريس رافيل بعد أكثر من 60 عاماً على موته، أن فنه عالمي بامتياز وحمال معان وتفسيرات حتى وإن كانت بدايته طلباً خجولاً من تلك الفنانة الثرية التي رقصت على إيقاعه ذات لحظة غير دارية أنها تدخل الخلود معه.