هل كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي متأثراً بالجنرال الفرنسي شارل ديغول، حين قام بالرد على الإشاعات الروسية، عن فرار القيادة الأوكرانية، عبر بث فيديو على "إنستغرام" وهو يتجول في الشارع برفقة مساعديه، أم أن نشر هذا المقطع يعود إلى ماضي زيلينسكي الحيوي كممثل كوميدي سابق؟ في كل الأحوال، اعتبر الفيديو الذي شاهده 15 مليون شخص بمثابة حيلة دعائية بارعة على طراز خطاب ديغول في 18 يونيو (حزيران) 1940 عبر راديو لندن، حين دعا إلى عدم وقف القتال ضد ألمانيا النازية.
فاجأ زيلينسكي عبر نظرته الشبابية وشعبيته المحدودة قبل الحرب، العالم كله بموقفه، إذ خلال أربعة أشهر منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، تمكن على الرغم من كل الصعاب المحيطة به، أن يتحول من رئيس دولة في بلد مبتلى بالفساد، إلى قائد حرب فرضت عليه، وجعلت أنظار العالم كله تلتفت نحوه.
يجسد زيلينسكي تناقض الأقدار، كيف لهذا الممثل الكوميدي ومقدم البرامج السابق، الذي يدير البلاد منذ عام 2019 أن يؤدي الدور المصيري الأصعب المنوط به خلال الحرب؟ من هذا الرجل الذي اقتحم عالم السياسة ويتكأ على أكتافه جزء من المصير الأوروبي؟
شهرة مدوية
أصبح زيلينسكي حاضراً في كل مكان: في نشرات الأخبار، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي وعبر مؤتمرات الفيديو مع رؤساء الدول والبرلمانات في البلدان الأوروبية. الشهرة التي حققها، تم التعبير عنها في صدور عدد كبير من الكتب التي تتناول حياته ومواقفه قبل الحرب وبعدها، ومنها أربعة كتب صدرت حديثاً وفي دفعة واحدة، في فرنسا، تتفق جميعها على أن هذا الرجل هو رجل المواقف الصعبة، رجل الأعمال، رجل النزاعات والتسويات، رجل الدولة. وأن المسافة التي تفصل بين ما كان من الممكن أن يحققه، وما قام به حقاً، تسمح للكتاب والمحللين بتقييم المسار الذي وصل إليه على أرض الواقع.
أوكرانيا في الدم
لم يكن التواصل مع الجماهير سلوكاً مفتعلا بالنسبة لزيلينسكي، فهو لطالما كان مدفوعاً عبر فنه كي يكون حاضراً على مستوى شعبي وجماهيري، هذا من ضمن الأسباب التي جعلت كلماته قوية التأثير.
في كتاب "أوكرانيا في الدم"، الصادر عن دار "روشيه" يسرد المؤلف غالغر فيونيك قصة فولوديمير زيلينسكي، ومن خلاله يروي أيضاً أجزاء من تاريخ أوكرانيا وطبيعة شعبها، مع وصف دقيق للصعود والتحول المذهلين لرئيس، ممثل سابق، سعى عبر فنه للتواصل مع الناس، وصار عليه أن يغدو قائد حرب مفروضة. هكذا "تحول تشارلي شابلن إلى تشرشل"، كما يرى فيونيك. ويقول: "لكي تفهم، عليك أن تسأل مدير مدرسته، في "كريفي ريه"، المدينة الصناعية في الجنوب الشرقي حيث نشأ. عليك أن تسأل أصدقاءه وزملاءه في "كفارتال" وشركة الإنتاج الخاصة به، وكذلك البرلمانيون داخل حزبه. وفي المعارضة عليك سؤال علماء السياسة والمؤرخين والباحثين والصحافيين... من دون إغفال المناطق الرمادية في حياته، ثم الغموض الذي حافظ عليه عن قصد بين المرشح الحقيقي للرئاسة والشخصية الافتراضية للرئيس التي جسدها على الشاشة في مسلسل "خادم الشعب".
عمليات سرية
يمضي كتاب "Service Action" (دار روبير لافون)، في نسق مختلف عن الكتابة التحليلية والتاريخية، ليكتب مؤلفه فيكتور ك. بشكل روائي تخييلي عن أحداث وافتراضات واقعية، وعبر أسلوب يحمل التشويق والإثارة ليطرح تساؤله: "ماذا لو تم اغتيال زيلينسكي؟"
مثل كل الحروب، يكون الخوف الأكبر من القضاء على رأس الحربة، بالتالي إنهاء أي مقاومة محتملة. هذه هي الفكرة المحورية التي استند إليها الكاتب الفرنسي، متوقفاً في تحليلاته عند الوحدة الخاصة المسؤولة عن العمليات الأكثر سرية، والتي ينحصر دورها في حماية زيلينسكي.
عند فجر 24 فبراير (شباط) 2022، حين قامت القوات المسلحة الروسية بشن حرب على أوكرانيا، قرر رئيس الجمهورية الفرنسية في باريس إشراك فرنسا في حرب سرية جنباً إلى جنب مع الأوكرانيين، لذا يعهد الرئيس إلى قائد جيش الإنقاذ، العقيد كورالي دو سنوييرز الملقب بـ"أثينا"، والمسؤول عن حالات الطوارئ الأولى، بتوفير المعلومات عن مسرح العمليات، وتسليم الأسلحة إلى القوات الأوكرانية.
لكن قبل كل شيء، يطلب الرئيس من "أثينا" القيام بمهمة بالغة الحساسية، وهي: منع اغتيال فولوديمير زيلينسكي. ومن أجل ذلك، ولمواجهة الأعمال البربرية المرتزقة لمجموعة "فاغنر" التي أرسلتها موسكو، من باماكو إلى سان بطرسبورغ ثم إلى شوارع كييف، يتم نشر قوات سرية خاصة تتنكر وتخفي هويتها للقيام بأكثر العمليات خطورة.
ماذا يدور في رأس البطل؟
منذ 24 فبراير 2022، في تمام الساعة السادسة صباحاً، لم يعد يرى زيلينسكي إلا وهو يرتدي بنطلوناً مموهاً مع تي شيرت أخضر زيتوني، أو بني، وسترة من اللون الكاكي. وعلى الرغم من محاولات اغتياله، فإنه اختار البقاء في "بانكوفا"، مقر الرئاسة في قلب كييف، العاصمة الأوكرانية. وكأن الرئيس، في اختياره لهذا الزي يتحدث للعالم بأسره عن شجاعة أوكرانيا وثباتها.
في كتابهما السيري عن زيلينسكي "في رأس بطل" الصادر عن دار روبير لافون، يرى المؤلفان ريجي جينتي وستيفان سيوهان أن كل شيء تغير منذ اندلاع الحرب، لم يعد الديكور البهي لمبنى المقر الرئاسي كما كان من قبل، لقد أصبح ذا طابع سوريالي، أكياس الرمل تسد النوافذ، والحراس استبدلوا زيهم الرسمي بسترات واقية من الرصاص... من هناك يدير زيلينسكي حواراته مع الصحافة العالمية، جالساً على أدراج مدخل قصر الحكم، إنه المكان الذي تحول فيه هذا الرجل إلى أمير حرب، مجسداً البطولة والمقاومة لشعب يصارع الحياة والموت من أجل حريته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعتبر المؤلفان أن زيلينسكي يمتلك موهبة خطابية وبلاغية حقيقية يتحاور من خلالها مع شعبه، ليس ليؤثر على الأوكرانيين فقط، بل ليغزو قلوب الناس وأفكارهم خارج حدود بلده. المفارقة الكبيرة لوضعه، أن الممثل القديم الذي دفع ضريبة شعبويته وعدم أهليته للحكم من قبل، أصبح اليوم محبوباً لدى الأغلبية الأوكرانية، بوصفه المخلص وحامي البلاد. ومما يذكر الكتاب، أن تناقض هذا الرجل يكمن في أنه دخل عالم السياسة بهدف إرساء قواعد السلام، ومن ثم وجد نفسه في قلب الحرب، أصبح رئيس أوكرانيا بنسبة 73 في المئة من الأصوات، بعد أن أعاد تنشيط حملته بهجمات على الفساد وسلطة النخب. ومنذ الغزو الروسي، أصبح الرجل القوي في البلاد، الذي يقف في وجه فلاديمير بوتين.
مع الكتاب الرابع "من أجل أوكرانيا"، يضيف الرئيس الأوكراني، الذائع الصيت وتراً آخر إلى قوسه من خلال ضم نفسه إلى عالم الكتاب. فقد جمع الكتاب، الصادر عن دار "غراسيه" 23 خطاباً للرئيس زيلينسكي، تم اختيارها من بين أهم تلك الخطابات التي ألقاها منذ عشية الحرب، أولاها خطبته في 21 فبراير حين توقع الهجوم. ودعا شعبه رسمياً إلى التوحد من أجل وحدة الأمة. ومنها أيضاً خطبته في الكونغرس الأميركي والجمعية الوطنية، وكذلك في البرلمان البريطاني، حين حذر زيلينسكي الغرب مطلقاً عبارته الشهيرة: "إذا سقطت أوكرانيا، فسوف تسقط أوروبا". اعتبر الناشر أن هذه الخطب غير معروفة جيداً، ويقول: "في الواقع، لم يسمع أحد من قبل أكثر من بضع عبارات، منها على التلفزيون أو في الراديو أو على وسائل التواصل الاجتماعي، لذا فهذه الخطب في الواقع مشهورة عالمياً، لكن مضمونها غير معروف لدى العالم، لذا وجدت أنه من المهم وضعها بين دفتي كتاب، كمساهمة توثيقية لهذه المرحلة المهمة من التاريخ".