يتوقف ضخ الغاز الطبيعي الروسي عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" تحت مياه بحر البلطيق من الاثنين 11 يوليو (تموز)، ولمدة 10 أيام لأعمال الصيانة الدورية واستبدال أو إصلاح توربينات الضخ الثماني التي تشغل الخط، وعلى الرغم من تأكيد شركة "غازبروم" الروسية المملوكة للدولة والموردة الرئيسة للغاز إلى أوروبا، أن خفض الإمدادات عبر خط الأنابيب في الفترة الماضية بنحو 60 في المئة كان حتمياً بسبب تعطل إحدى محطات الضخ، فإن الغرب يتهم موسكو باستخدام الغاز الطبيعي كسلاح في صراعها مع الغرب بسبب الحرب في أوكرانيا.
وبمعايير عملية وتقنية بحتة، هناك منطق في التصريحات المتكررة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الغرب يضر نفسه بنفسه بالعقوبات غير المسبوقة التي يفرضها على روسيا ويقود أوروبا والعالم إلى أزمة طاقة غير مسبوقة. فالعقوبات المتصاعدة على روسيا، التي تقود الولايات المتحدة فرضها، وتشارك فيها أوروبا وأستراليا وكندا واليابان، تعقد بشكل متزايد استمرار إمداد روسيا أوروبا بنحو 40 في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي ونحو 25 في المئة من استهلاكها من النفط.
فشركة "غازبروم" حريصة على توريد الغاز الطبيعي إلى زبائنها في أوروبا، بخاصة عشرات الشركات التي قبلت دفع ثمن الغاز بالعملة الروسية، الروبل، وعلى الرغم من أن روسيا تسعى لإيجاد مشترين لغازها ونفطها في آسيا وغيرها، فإن صادراتها لأوروبا تشكل المصدر الرئيس للدخل من عائدات الطاقة. وحسب أرقام مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف في فنلندا، وصلت عائدات روسيا من صادرات الطاقة في الـ100 يوم الأولى من الحرب في أوكرانيا، التي بدأت نهاية فبراير (شباط) الماضي، إلى نحو 100 مليار دولار، أكثر من 60 في المئة منها جاءت من المبيعات لأوروبا.
العقوبات ورد الفعل
ويوم السبت، أعلنت كندا تعليقاً "مؤقتاً" للعقوبات على قطاع الطاقة الروسي للسماح لشركة "سيمنز إنرجي" بنقل إحدى التوربينات من المصانع في كندا إلى روسيا ليتم تركيبها في إحدى محطات الضخ على خط أنابيب "نورد ستريم 1" المتعطلة، وما كان ممكناً للشركة الألمانية التي تتولى أعمال الصيانة للخط أن تفعل ذلك في ظل العقوبات. وتقول "سيمنز" إنها تعمل حالياً للحصول على "استثناء" من العقوبات الأوروبية للقيام بالمهمة بعد التصريح الكندي.
وانتقدت أوكرانيا، وبعض المغالين ضد روسيا، القرار الكندي الذي برره وزير الاقتصاد الكندي بأنه جاء لصالح ألمانيا لتفادي التوقف التام لإمدادات الغاز الطبيعي الروسي إليها. ومن المهم الإشارة إلى أن الغاز الطبيعي الروسي عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1"، وإن كان يصل إلى ألمانيا، حيث الشركة المستوردة، فإن تعطل تلك الإمدادات يؤدي إلى تضرر الإمدادات لإيطاليا والنمسا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا.
القرار الكندي والقرار الأوروبي المتوقع بتعليق العقوبات على روسيا مؤقتاً، إنما يعكس ما يردده الروس من أن العقوبات عليهم تضر بأوروبا والغرب، وتهدد اقتصاداتهم ربما بالقدر نفسه الذي تهدد به الاقتصاد الروسي، ومن غير الواضح أن كان تعليق كندا والاتحاد الأوروبي المؤقت للعقوبات على روسيا يتعلق فقط بهذا التوربين أم يمتد إلى غيره. فشركة "غازبروم" طلبت تغيير خمس توربينات من بين ثمانٍ تعمل على الخط وتضمن ضخ الغاز فيه بشكل كامل، وهذا ما جعل وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابك يحذر من أن روسيا تستخدم الغاز كسلاح، وأنها قد تمدد فترة توقف الإمدادات عبر الخط لأكثر من 10 أيام. أضاف، "استناداً إلى ما شهدناه من قبل، لن يكون مستغرباً أبداً أنه في حال وجود مشكلة تقنية صغيرة أن تقول روسيا إنه ليس بإمكانها إعادة تشغيل خط الأنابيب".
ورد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على تصريحات الوزير الألماني بالنفي القاطع لأن روسيا لا تستخدم الغاز الطبيعي لممارسة أي ضغط سياسي، ومؤكداً أن عمليات الصيانة دورية ومجدولة من قبل، ولا يمكن لأحد أن "يخترع" الحاجة لإصلاحات ضرورية في الخط.
تجارب سابقة
ومع ذلك، لا يجادل كثير من المعلقين والمحللين في أن سلاح الطاقة أداة مهمة بيد الروس، بخاصة مع استجابة أوروبا للضغوط الأميركية وتضمينها الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا، الشهر الماضي، حظراً تدريجياً لواردات النفط الروسي، والهدف الرئيس من تلك العقوبات هو حرمان الكرملين من الإيرادات المالية التي تمكنه من دعم استمرار الحرب في أوكرانيا، لكن الواضح حتى الآن أن الإيرادات الروسية تتضاعف، على الرغم من تقليل كميات الغاز والنفط التي تستوردها أوروبا نتيجة ارتفاع الأسعار.
وتجد أوروبا نفسها بين فكّي كماشة عدم قدرتها على توفير بدائل كافية للغاز الطبيعي والنفط الروسي من مصادر أخرى حول العالم، وحاجتها إلى إظهار الدعم لأوكرانيا والاستجابة لسياسة التحالف الغربي الذي تقوده أميركا في خنق روسيا اقتصادياً.
ومن التجارب السابقة، التي كادت تؤدي إلى وضع كارثي لسوق الطاقة في أوروبا ما حدث في شهر مايو (أيار) الماضي، حين قطعت السلطات الأوكرانية جزءاً من إمدادات الغاز الطبيعي الروسي عبر أراضيها إلى أوروبا، وأعلنت أوكرانيا وقتها "القوة القاهرة" لتوقف عمل إحدى محطات الضخ على خط أنابيب الغاز البري، وبررت ذلك بأن وجود قوات روسية قرب بنى تحتية في سوخرانيفكا ونوفوبسكوف في منطقة لوغانسك لا يسمح بتأمين التدفق المعتاد للغاز من تلك النقطة، ويتطلب ذلك تحويله إلى نقطة عبور ثانية في سودجا، ونفت مجموعة "غازبروم" الروسية العملاقة على الفور وجود أي قوة قاهرة، مؤكدة أنه من المستحيل تحويل مسار هذه الكميات من الغاز. وأكدت الشركة الروسية أنه لا توجد أي مشكلات تقنية أو شكاوى تبرر التصرف الأوكراني، وأن تحويل تلك الكميات إلى منطقة أخرى غرب أوكرانيا مستحيل تقنياً لأن إعادة البرمجة غير ممكنة عملياً.
وعادة ما تعلن الأطراف المشاركة في أي اتفاقات تجارية "القوة القاهرة" لتفادي تغريمها نتيجة مسؤوليتها عن قطع الإمدادات، ولتفادي تكلفة باهظة نتيجة بوالص التأمين أيضاً، وتستفيد أوكرانيا من مرور الغاز الطبيعي الروسي عبر أراضيها بتحصيل رسوم نقل بالمليارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمر أكثر من 32 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً من نقطة سوخرانيفكا، تمثل نحو ثلث إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وذكرت شركة "غازبروم" لوكالة أنباء "تاس" الروسية أن كميات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا ستتدنى إلى 72 مليون متر مكعب، مقابل تسليم 95.8 مليون متر مكعب في اليوم السابق.
وكان ذلك التصرف من السلطات الأوكرانية في ما يبدو جزءاً من الضغط على بعض الدول الأوروبية التي عارضت الحظر الكامل لواردات الطاقة من روسيا، وهو ما آخر صدور قرار الحزمة السادسة من العقوبات لمدة شهر بسبب الخلافات الأوروبية الداخلية.
سلاح على الجانبين
واستغلال سلاح الغاز الطبيعي وواردات الطاقة وعائداتها إذا يستخدم من قبل الطرفين: روسيا وصقور مواجهتها في الغرب، ومع أن روسيا قد لا تتحمل خسارة توقف نحو نصف صادراتها وفقدان عشرات المليارات من العائدات المالية شهرياً، فإن تطور الأوضاع قد يجعل انقطاع الغاز الطبيعي عن أوروبا احتمالاً وارداً، ومع أن أوروبا لا يمكنها حتى الآن توفير بدائل لواردات الطاقة الروسية، حتى مع زيادة صادرات الغاز الأميركية لأوروبا إلى 15 مليار متر مكعب هذا العام، وتعاقدات جديدة مع قطر والجزائر ومصر، إلا أنها قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع أزمة طاقة حادة قد لا يفيد معها ترشيد الاستهلاك. وبدأت ألمانيا وفرنسا بالفعل تفعيل خطط طوارئ لاحتمال تقنين استهلاك الطاقة، على أن تبدأ أولاً بالمصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة، وربما تمتد إلى البيوت واستهلاك المواطنين.
وسبق أن حذر مدير وكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول، مطلع الشهر الماضي، من هذا الاحتمال، حتى من دون السيناريو الأسوأ المتمثل في الوقف التام لإمدادات الطاقة الروسية. وفي مقابلة مع صحيفة "فاينانشيال تايمز"، مطلع الشهر الماضي، قال بيرول إنه "إذا جاء الشتاء قاسياً وطويلاً، وإذا لم تتخذ إجراءات (في ما يتعلق بجانب الطلب)، فلا أستبعد تقنين استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا، بدءاً من المنشآت الصناعية الكبرى"، وامتداداً إلى غيرها أيضاً، أي إلى استهلاك الأسر في البيوت.
وفي حال توقف إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا، ستبدأ بعض الصناعات كثيفة الاعتماد على الغاز، مثل مصانع حديد الصلب والسماد وغيرها، في تقليل إنتاجها أو حتى التوقف، كما قد تضطر دول أوروبا إلى زيادة الاعتماد على الفحم، الملوث الأكبر للبيئة بانبعاثاته الكربونية العالية، لتشغيل محطات توليد الكهرباء، وإذا استمرت الأزمة إلى فصل الشتاء، ولم تتمكن الدول الأوروبية من ملء مخزوناتها من الغاز الطبيعي، قد تشهد بعض الدول الأوروبية انقطاع التيار الكهربائي وتضرر السكان في منازلهم، وليس فقط الشركات والأعمال.
ملء المخزونات
ولم تصل الأزمة بعد حتى الآن إلى توقف مصانع أو إظلام أوروبا لانقطاع الكهرباء نتيجة عدم توفر الوقود لمحطات توليد الطاقة، لكن المخزونات الأوروبية من الغاز الطبيعي وصلت إلى مستويات متدنية، حتى من قبل الحرب في أوكرانيا وتحديداً نتيجة السحب الكثيف منها منذ صيف العام الماضي 2021.
ولتخفيف وقع أي أزمة محتملة، قررت المفوضية الأوروبية، الشهر الماضي، إلزام الدول الأوروبية بإعادة ملء المخزونات إلى مستوى لا يقل عن 80 في المئة من طاقتها الاستيعابية قبل نهاية الخريف، وبما أن معظم تلك المخزنات عند مستوى النصف، أو أقل، فهناك حاجة لزيادة كميات الاستيراد لإعادة ملئها.
ولأن ألمانيا أوقفت تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" المكتمل، والذي كان سيضاعف ورادات الغاز الروسي لأوروبا، لم يبقَ هناك سوى ثلاثة خطوط، أولها هو خط الأنابيب "نورد ستريم 1"، ثم هناك خط الأنابيب البري للغاز الطبيعي الروسي عبر أوكرانيا، خط "ترانس غاز"، ويمر خط "ترانس غاز" عبر أراضي أوكرانيا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك، أما خط الأنابيب البري الثاني فهو خط "يامال - يوروبا" الذي يمر عبر بيلاروس وبولندا إلى ألمانيا، والكميات المنسابة من تلك الخطوط حتى الآن تؤمن الاستهلاك الأوروبي لكنها تضغط على قدرة الدول الأوروبية لإعادة ملء المخزونات، بالتالي، يمكن أن تتفاقم الأزمة أكثر في فصل الخريف المقبل، حتى قبل أن يأتي الشتاء، حيث يزيد الطلب الاستهلاكي على الطاقة في أوروبا.