كانت سياسات الحياد الكربوني من أهم العوامل التي أسهمت في انهيار سريلانكا اقتصادياً وسياسياً، وهي الدولة الفقيرة التي احتلت أعلى المراكز عالمياً في تطبيق سياسات التغير المناخي متفوقةً بذلك على أغلب الدول الأوروبية. قيادة سريلانكا الهاربة لم تتبنَ سياسات الأمم المتحدة حرفياً فقط وإنما قررت أيضاً أن تحقق الحياد الكربوني بحلول 2050 وأن تتوقف عن استخدام السماد الصناعي وأن تخفض نسبة نفايات النتروجين بمقدار النصف بحلول 2030. بعبارة أخرى، أصبحت سريلانكا ملكية أكثر من الملك فدفعت الثمن غالياً وتخلى عنها مَن دفعها إلى الهاوية.
قيادة سريلانكا وعدت بأن تحول البلاد إلى جنة خضراء فحولتها إلى جحيم. قيادة سريلانكا وعدت بأن تحمي الغابات وتتبنى الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء. الآن لجأ الناس إلى قطع أشجار الغابات وحرقها بسبب عدم توافر الوقود من جهة وارتفاع أسعاره من جهة أخرى. باختصار، أدت السياسات الخضراء إلى عكس أهدافها تماماً!
وقبل الخوض في التفاصيل لا بد من التذكير أن مادتي النفط والغاز تدخلان في تركيب آلاف السلع، ولا يوجد شيء نستخدمه يومياً إلا وفيه شيء من النفط والغاز. كما يجب التذكير بأن سريلانكا منتجة للأرز ومصدِّرة للشاي. مشكلات سريلانكا تعني في النهاية ارتفاع أسعار الأرز والشاي على المستهلك الخليجي.
نظرية مالتوس
قبل اكتشاف النفط بنحو 60 سنة في أواخر القرن الثامن عشر كتب توماس مالتوس نظريته التي قال فيها إن عدد السكان يتزايد بشكل مستمر، وإن الموارد الطبيعية بخاصة الإنتاج الزراعي، لا يزيد بالنسبة نفسها، الأمر الذي سيؤدي إلى مجاعات وكوارث ثم انخفاض عدد سكان الأرض بسبب الجوع.
لاقت نظرية مالتوس رواجاً كبيراً لدى المثقفين حول العالم. ويرى البعض أن نظرية مالتوس أسهمت بطريقة أو بأخرى بظهور الشيوعية وانتشارها. كما أسهمت في تبني الصين لسياسة الطفل الواحد. إلا أن البيانات التاريخية تثبت خطأ مالتوس وكل مَن اتبعه. زادت الموارد وزاد الإنتاج الزراعي وزاد عدد السكان بشكل هائل فاق كل التوقعات وقتها، ولم تحصل المجاعات التي تكلموا عنها. وكل المجاعات المحلية التي حصلت حول العالم في الـ 100 سنة الأخيرة لم تكن نتيجة نقص الغذاء عالمياً، بل على العكس كان هناك وفرة، ولكن السياسية وعوامل أخرى منعت وصول هذه الأغذية إلى أماكن المجاعة بشكل كافٍ.
ما الذي أسهم في زيادة الإنتاج الزراعي وتوافر الغذاء لعدد السكان المتزايد؟ أسهمت عوامل عدة أهمها المكننة من جهة وتوافر السماد الصناعي من جهة أخرى. ولكن المكننة تحتاج إلى نفط والسماد يأتي غالباً من الغاز. باختصار، أدت صناعة النفط إلى ثورة زراعية أسهمت في زيادة عدد السكان حول العالم بشكل كبير، كما أسهمت في توفير الحبوب وغيرها بأسعار رخيصة، وخفضت من مستويات الفقر عالمياً. كما أسهمت عوامل أخرى في زيادة الإنتاج الزراعي نتيجة التقدم العالمي الذي مكن من استخدام بذور ذات إنتاجية عالية بمدخلات أقل ومقاومة للأمراض.
خلاصة القول إن السماد الكيماوي المستخرَج من الغاز والنفط لعب دوراً كبيراً في توفير الغذاء للأعداد المتزايدة من البشرية بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت مجلة "فورين بولسي" الأميركية قد نشرت مقالاً ذكرت فيه مفارقة وهي أن مَن يستخدم السماد العضوي عالمياً للحصول على الغذاء هم أفقر الناس وأغنى الناس إلا أن نسبتهم بسيطة، بينما أغلب سكان العالم يعتمدون على غذاء منتج من السماد الكيماوي. وسبب اعتماد أفقر الناس على السماد العضوي لأنهم ليس لديهم المال الكافي لشراء السماد الصناعي، بينما يعتمد الأغنياء على الغذاء المنتج من السماد العضوي لأنهم يستطيعون دفع أثمانه العالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سريلانكا وسياسات التغير المناخي
الغريب في الأمر حالياً أن القلاقل السياسية والتظاهرات الكبيرة تحصل في البلاد الزراعية المصدرة للحبوب والمواد الغذائية سواء كانت في بلاد نامية مثل سريلانكا أو متقدمة مثل هولندا وإيطاليا. المحتجون هم المزارعون أنفسهم وليس المستهلكين الذي يدفعون أسعاراً تاريخية ثمناً للوقود والغذاء في مختلف أنحاء المعمورة.
ما تفسير ذلك؟ ربما لأن عدم توافر السماد وارتفاع أسعاره الشديد وارتفاع أسعار الوقود، هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المزارعين، أو على الأقل مسألة الإفلاس أو عدم الإفلاس، أو خسارة المزرعة لصالح البنك، المزرعة التي تناقلتها العائلة لأجيال. أما بالنسبة إلى المستهلك فهي مسألة ارتفاع أسعار غالباً ونقص في الإمدادات والخيارات في بعض البلاد، ولكنه يستطيع إدارة الوضع. بعبارة أخرى، هي مسألة حياة أو موت بالنسبة للمنتِج، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمستهلك.
منعَ الرئيس السريلانكي غوتابايا راجابكسا في أبريل (نيسان) من العام الماضي، استخدام السماد الكيماوي في سريلانكا وطالب باستخدام السماد العضوي. نتج من ذلك انهيار إنتاجية المحاصيل إلى السدس تقريباً، وانخفض إنتاج الأرز والشاي والمطاط وجوز الهند. الأرز هو الغذاء اليومي للسكان بينما يُعد الشاي المصدَر الأساس للعملة الصعبة. وهنا لا بد من ذكر أن الرئيس راجابكسا جاء إلى السلطة في عام 2019 بوعد تحويل سريلانكا إلى الاعتماد الكامل على السماد الطبيعي خلال عشر سنوات، وبدعم من منظمة مدنية مكونة من عديد من الخبراء بما في ذلك الخبراء الزراعيون، أُسست في عام 2016 للترويج لسياسات التغير المناخي. تبين الآن أنه تم منع أغلب الخبراء الزراعيين السريلانكيين من عضوية المنظمة!
وعلى الرغم من تراجع الحكومة عن قراراتها لاحقاً، وتقديم إعانات للمزارعين بخاصة مزارعي الأرز، إلا أن كمية السماد التي وصلت إلى المزارعين كانت قليلة جداً، والإعانات لم تكن كافية للتعويض عن الخسائر، كما انخفضت إمدادات الأغذية لدرجة قيام الحكومة بإنفاق نحو 450 مليون دولار لشراء الأرز بأسعار مرتفعة من الأسواق الدولية بعد أن كانت سريلانكا مكتفية ذاتياً. وتفاقمت الأمور وازدادت حدة التظاهرات حتى اقتحم المتظاهرون القصر الجمهوري وهرب رئيس الدولة.
ما حصل في سريلانكا يتكرر في دول أخرى. فها هم المزارعون الهولنديون يغلقون الطرق احتجاجاً على تطبيق سياسات الحياد الكربوني وانخفاض كميات السماد الصناعي، ومطالبة الحكومة لهم بتخفيض أعداد البقر والحيوانات الأخرى. ما العلاقة بين سريلانكا وهولندا؟ سريلانكا كانت مستعمرة هولندية!
كما تبنت الحكومة سياسات عدة لمحاربة التغير المناخي أدت في مجموعها إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. السبب الرئيس أن الحكومة أرادت إعادة هيكلة الديون، وافق صندوق النقد الدولي وفق شروط عدة أهمها أن تتبنى سريلانكا سياسات التغير المناخي. بعبارة أخرى، تم ربط الديون بسياسات التغير المناخي وهو أمر حذرتُ منه في مقالات قديمة عندما ذكرت أن سياسات التغير المناخي ستحل محل الإرهاب في تصنيف الدول، وأن التجارة الدولية والتمويل ستتم بناءً عليها.
باختصار... متطرفو التغير المناخي ادعوا حماية الناس بتبني سياسة خضراء، فكانت هذه السياسات الخضراء هي الرصاص الذي قتل الناس.. أم أعين متطرفي التغير المناخي.