حفلت الذاكرة الشعبية اليمنية بعدد من الطقوس المرتبطة بموسم الحج، تحضر غالبيتها في طريقة توديع واستقبال زوار مكة من خلال عادات وعبارات وأغانٍ مشحونة بمشاعر الحب والشوق ودعوات العودة بالسلامة، اختلجت فيها مشاعر الخوف بالرجاء مع لحظات الاستبشار المتبوع بليالٍ من الفرح العارم.
مقاومة الزمن
وتختلف العادات المرتبطة بهذه المناسبة باختلاف مناطق اليمن وتنوعها الجغرافي، ففي العاصمة صنعاء، يمكن اعتبار حضور "المدرهة" (الأرجوحة) وصمودها حتى يومنا هذا، العنوان الأبرز لما تبقى من طقوس اليمنيين الملاصقة لشعيرة بالحج وعيد الأضحى خصوصاً، وهي تحافظ على حضورها البهيج على الرغم من الزمن ومتغيراته.
وما إن يتجه الحجيج صوب مكة حتى تبرز عادات التوديع التي يغلب عليها طابع الخوف والحزن والرجاء خشية أن يصيب الحاج مكروهاً، من بينها ظهور المدرهة في الحارات إلى جوار منازل الحاج التي يردد المحيطين بجوانبها أهازيج الإنشاد الديني التي تُسمّى بـ"الموالد"، فيما يتدرهون جيئة وذهاباً كطقس ارتبط بحجيج هذه المدينة التاريخية، يمارسه الكبار والصغار والذكور والإناث على السواء مع أقرباء وأصدقاء وجيران الذاهب إلى مكة.
أهزوجة الفرح العائد
والمدرهة عبارة عن أرجوحة كبيرة تصنع من أعواد الأشجار كالأثل والطلح، وتربط أعمدتها بحبال تُسمّى بـ"السلب"، ويحرص ناصبوها على توثيق أعمدتها خشية انكسارها، لأن ذلك يحمل اعتقاداً ينذر بالشؤم من أن الحاج في خطر كما هو الفكر السائد المتواتر وتنصب تعبيراً عن فرحة الأهالي بعودة حجيجهم بعد قطعهم سفراً طويلاً تعرضوا خلاله للمشقة والمخاطر نظراً إلى تنقلهم بوسائل نقل تقليدية قديمة.
يعود تاريخ تقاليد المدرهة إلى فترة زمنية قديمة. ووفقاً لإبراهيم الدروبي من سكان صنعاء، فإن طقوس المدرهة قديماً تبدأ عقب سفر الحاج قبل موعد الحج بثلاثة أو أربعة أشهر، نظراً إلى التنقل الشاق والعسير بواسطة قوافل الجمال. أما اليوم مع تطور النقل السريع، فتنصب عقب عيد الأضحى يصاحبها ترديد المتأرجحين موشحات الدعاء بالقبول وعودة الحاج إلى بيته سالماً.
علامات المحبة
وبحسب الدروبي، يعلق الأهالي على المدرهة ملابس من غترة أو عمامة الحاج الذكر، أو قطعة من قماش ملابس المرأة الحاجة، وتُسمّى المدرهة باسمهما وتستمر بعد عودة الحجيج من مكة نحو شهرين، تعبيراً عن الابتهاج بإتمام الفريضة، إذ يتسامر الزوار مع الحاج قاصاً عليهم شعائر الحج والمخاطر والحكايات التي صادفها في طريقه.
أغانٍ ووصية الوداع
عن المعنى الذي تحمله هذه اللعبة، يوضح الدروبي أن حركة الأرجوحة ذهاباً وإياباً وارتفاعاً وانخفاضاً، محاكاة وتجسيد فعلي لقلق أهل الحاج وشوقهم إليه، خصوصاً أن الحاج كان يكتب وصيته قبل سفره، نظراً إلى وفاة كثير من الحجاج في الطريق أو أثناء أداء مراسمه.
أما الأغاني والأناشيد التي يرددها المتحلقين حولها، فيذكر أنها كلمات يغلب عليها الشجن والشوق والحزن، ومنها:
يا مبشر بالحج بشارتك بشارة
هنيت لك يا حاجنا فزت بالغفراني
زرت قبر المصطفى وتلمس الأركاني
والصلاة والسلام على الرسول
يا من سمع يصلي على النبي العدناني
وغيرها كثير.
فيما كنا نبحث عن رصد لهذه الطقوس بات جلياً تراجعها كثيراً وخفوت حضورها.
يقول الدروبي إن الحرب والأوضاع الأمنية والاقتصادية عملت بشكل كبير على خفوت هذه العادة، نظراً إلى الظروف الصعبة التي يعاني منها اليمنيون، خصوصاً أن كثراً منهم لم يعودوا قادرين على أداء هذه الفريضة إلا من حضور قليل، تحديداً في صنعاء القديمة.
بين التوديع الحزين والعودة المبهجة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين يحظى موكب الحاج بمراسم توديع كبيرة تتخللها أناشيد الدعاء، تحمل عودة الحاج البشرى العارمة للأهالي والجيران وأبناء منطقته الذين يخرجون إلى ضواحي المدن أو القرى في استقباله على نحو مهيب، تتخلله الأغاني والعادات الاحتفائية كما هي الحال في مناطق مشرق اليمن.
يقول مدير مكتب الثقافة في مديرية عسيلان التابعة لمحافظة شبوة، ناجي عيضة شماخ إن أبرز مراسم هذه المناسبة تلك المرتبطة بلحظات توديع واستقبال الحاج التي ترتبط بأهله وجيرانه.
ويوضح، "قديماً كان الأهالي يخرجون في قوافل لتوديع الحاج وتجهيز ركائبه وزاده ومائه بواسطة وسائل السفر القديمة كالجمال ويودعونه إلى مشارف عزلهم بعد أن يطمئنوا أنه مضى في رحلته بصحبة رفقة كافية ولا يفوتهم أن يرسلوا معه كمية كافية من الزبيب البلدي والبن والكعك والهدايا لمن يريد في الحج".
وعند العودة، يظل الأهالي يترقبون مجيء الحاج أسابيع طويلة وعند علمهم بالموعد، يخرجون كبارهم وصغارهم، نساءهم ورجالهم مصطحبين الطبول والمزامير ومرددين أغاني الاستبشار والفرح البهيج ثم يباشرون بذبح الجمال والأغنام وتوزيعها على أهالي المنطقة، فيما يصطف الجميع بما في ذلك الأطفال للسلام على الحاج في جو غامر.
مباركات لا تتوقف
يضيف شماخ "تتوالى الأفراح لأسابيع، إذ يتسابق كل بيت لدعوة الحاج وتقام له الولائم تكريماً وفرحاً بأدائه الفريضة وعودته سالماً".
بالنظر إلى عادات اليوم، يروي أنها اختلفت باختلاف الزمان والمكان، فالحاج يعود بسهولة ويسر إذ يشارك الجيران أهالي الحاج في التحضير بتزيين البيت وتجهيز الولائم، وما إن يبدأ ظهور الحجاج حتى يتم إطلاق المفرقعات والألعاب النارية، وفي القرى والمناطق البعيدة يطلق الرصاص الحي في الهواء بكثافة، تعبيراً عن الفرحة بقدوم الحاج الذي يباشره المستقبلون بنثر الورود والفل وتهنئته بأداء الفريضة.
يتابع "عقب ذلك، تتوافد جموع المهنئين، فيحضر بعضهم كبشاً كتهنئة للحاج الذي يقوم هو الآخر بتوزيع ماء زمزم والتمر المديني والسبحات والمصاحف كهدايا رمزية جاء بها من مهبط التوحيد، وتستمر هذه الأجواء البهيجة لمدة شهر والجميع في سعادة غامرة".
وليمة وبخور ومنازل بيضاء
وفي محافظة حضرموت، لا تختلف مراسم الاحتفاء، خصوصاً تلك المرتبطة باستقبال الحاج.
يقول هشام باجابر من أهالي المكلا، المركز الإداري لحضرموت، إنه بانتهاء شعائر الحج، يبدأ الأهالي في المساجد والأحياء بترديد أناشيد تستبشر قدوم الحاج مثل:
يا مكبارة كبري وعلقي باللبان.
ويوضح "عند توديع الحاج، يحرص أهاليه على إقامة الوليمة التي يذبحون فيها كبشاً سميناً، وبعد الوليمة يبدأون ترديد المواويل والموشحات وقراءة الفاتحة لتوديع الحاج طالبين منه الدعاء في الأراضي المقدسة، في حين يباشر الأهالي بطلاء منازلهم الطينية بالنورة البيضاء للدلالة على صفاء القلوب ونقائها وفرحاً واستبشاراً بسفر الحجيج".
من بين العادات التي قل حضورها في المجتمع الحضرمي وفقاً لباجابر، قيام الأطفال في ليلة عرفة بعجن الطين بالماء فيصنعون منه مداخن صغيرة ويشعلون فيها بخور اللبان ويغنون هذه الأهزوجة:
يا عيد عرفة ويا عرفة متى تجين؟
الكبش مرصون والقفة مليانه طحين
وتعني أن الأهالي جهزوا ذبيحة الوليمة وما يكفي من طحين الخبز في "القُفة" التي هي إناء تقليدي مصنوع من سعف النخيل لحفظ الخبز.