تعرف تونس هذه الفترة مرحلة اقتصادية صعبة، والأسبوعان الأولان من يوليو (تموز) 2022، سيكونان حاسمين، فإما أن تتنفس البلاد الصعداء بنجاحها في إقناع وفد صندوق النقد الدولي بواقعية وجدية البرنامج الإصلاحي الاقتصادي والحصول على الموافقة المبدئية، وإما فشل مهمة وفد مفاوضي تونس والدخول حقاً في نفق مظلم يصعب الخروج منه، ويوشك وفد "النقد الدولي" على إنهاء مهمته في البلاد التي انطلقت منذ الرابع من يوليو، في زيارة رسمية، تستغرق أسبوعين، للدخول في مفاوضات رسمية بخصوص البرنامج الإصلاحي الاقتصادي الذي طرحته حكومة نجلاء بودن.
وستتركز المفاوضات، التي يقودها من الجانب التونسي مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي، بشأن برنامج مساعدة للبلاد التي تمر بأزمة اقتصادية خانقة، في موازاة عجزها عن تقديم خطة إصلاحية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، ويقدر مختصون أن يبلغ حجم القرض الذي تطمح تونس إلى الحصول عليه نحو أربعة مليارات دولار مقسمة على أربع سنوات بمعدل مليار دولار كل سنة، يتم تقديمه بحسب تقدم تنفيذ الإصلاحات المقترحة، وسبق لصندوق النقد الدولي أن أوقف، في 2019، صرف الشريحتين الثالثة والرابعة لقرض سابق لتونس على أثر عدم التزام البلاد بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المتفق عليها.
زيارة حاسمة
ويُجمع مختصون في الاقتصاد على أن زيارة وفد "الصندوق" إلى البلاد للتفاوض في برنامج الإصلاحات الاقتصادية تعد حاسمة ومفصلية، وفي تصريحات لـ"اندبندنت عربية" بينوا أن المهمة لن تكون سهلة، وأنه على مفاوضي تونس إقناع الوفد الدولي بجدية برنامج الإصلاحات الاقتصادية، ومعلوم أن البلاد تعيش وضعاً اقتصادياً ومالياً حساساً جداً، والإفلاس يتهددها في ظل تراجع عديد من المؤشرات الاقتصادية، وتوالي التخفيضات السيادية للبلاد من قبل وكالات التصنيف الائتماني "فيتش رايتنغ" و"موديز" في نحو عشر مناسبات منذ عام 2011. يشار إلى أن وكالة "فيتش" خفضت، في تقرير منذ نحو أسبوع، توقعاتها في شأن الديون السيادية لعدد من البلدان من "التحسن" إلى "الحياد"، وشملت القائمة تونس وبلداناً أخرى تواجه انعكاسات سلبية على اقتصادها بسبب الحرب الأوكرانية.
وعجزت تونس عن الخروج إلى السوق العالمية للاقتراض لثلاثة أعوام متتالية بسبب تفاقم مستوى الدين الذي بلغ 105.7 مليار دينار (35.2 مليار دولار) والمخاطر المحيطة، وارتفاع نسبة الفائدة المفترضة، ما دفع الحكومات المتعاقبة إلى الاقتراض من السوق الداخلية، في حين ووجه إقبال البنوك المحلية على السندات التي تصدرها الخزانة بانتقادات بسبب تأثيرها العكسي في تمويل الاستثمار، والمؤسسات الصغرى والمتوسطة، التي ترزح تحت صعوبات مالية بسبب الأزمة الصحية والاقتصادية الخانقة، وتسعى البلاد للحصول على أربعة مليارات دولار لسد عجز الموازنة والخروج إلى السوق المالية العالمية للاقتراض.
خطة إصلاحية
واقترحت الحكومة على صندوق النقد الدولي خطة إصلاح تنص على تجميد فاتورة رواتب موظفي القطاع العام، وخفض دعم سلع أساسية، وإعادة هيكلة شركات عامة، لكن الاتحاد العام التونسي للشغل رفض خطة الإصلاحات الحكومية، التي طالب بها "النقد الدولي".
في الأثناء، أكد الرئيس التونسي قيس سعيد، خلال استقباله مدير قسم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، في 21 يونيو (حزيران) 2022، "ضرورة إدخال إصلاحات كبرى"، لكنه لفت إلى وجوب "مراعاة الأبعاد الاجتماعية".
وأشار فريق "الصندوق"، الذي زار تونس في مارس (آذار)، إلى "التحديات البنيوية الكبرى" التي تواجه البلاد في ظل "اختلالات عميقة في الاقتصاد الكلي، ونمو ضعيف للغاية على الرغم من إمكاناتها القوية، ومعدل بطالة مرتفع للغاية، واستثمار ضعيف للغاية، وتفاوتات اجتماعية".
أمل وحذر
وحسب وجهة نظر آرام بلحاج أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، فإن المفاوضات لن تكون سهلة وستكون معقدة نسبياً، مبرراً هذه المسألة بأن وفد صندوق النقد الدولي سيدخل في التفاوض بشأن تفاصيل البرنامج الإصلاحي بطريقة دقيقة جداً تصل إلى مرحلة التفاصيل الصغيرة، مشيراً في الوقت عينه إلى أن الوفد سيطلب من مسؤولي تونس بقيادة محافظ البنك المركزي التونسي تقديم مختلف سيناريوهات وتفاصيل كيفية إصلاح كتلة الأجور المرتفعة، والإحالة على التقاعد المبكر بطلب المبالغ المخصصة لهذه العملية، وطريقة تمويل التقاعد المبكر، كما سيطلب الطرق العملية والواقعية لإصلاح الشركات الحكومية التي تعرف عجزاً مالياً متفاقماً، علاوة على كيفية إصلاح وإعادة هيكلة منظومة الدعم وبخاصة طرق توجيه الدعم إلى مستحقيه، وإذ اعتبر أن المفاوضات لن تكون سهلة، رجح بلحاج أن صندوق النقد الدولي، عموماً، بات يتعامل بنوع من الليونة مع عديد من الدول التي تعرف صعوبات، مبرراً ذلك بالأوضاع العالمية الراهنة التي هيمنت عليها الحرب الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي وأحدثت أزمة غذائية حقيقية، واستدل في هذا الخصوص بحصول الموافقة المبدئية من "الصندوق" على الملف اللبناني الأكثر سوءاً من نظيره التونسي. وشدد بلحاج على أن تونس دخلت في أهم مرحلة مع "النقد الدولي"، التي وصفها بالمصيرية، مؤكداً في الوقت نفسه أن الأمل يبقى قائماً لموافقة هذه المؤسسة الدولية على التوجهات الإصلاحية الاقتصادية التونسية للحصول لاحقاً على درجة الموافقة المبدئية، على أن تقع الإحالة لاحقاً على مجلس إدارة "الصندوق" لإصدار البيان النهائي بشأن تونس بالموافقة على منحها الشريحة الأولى من القرض المقدر بنحو أربعة مليارات دولار.
الأمور صعبة جداً
من جانبه، قال عبد الرحمن اللاحقة الأستاذ في كلية الاقتصاد والتصرف بتونس إنه على المستوى التقني فإن من الصعب الوصول إلى اتفاق، نظراً إلى المخاطر العالية التي يعرفها الاقتصاد التونسي في هذه الفترة، واعتبر أن صندوق النقد الدولي قد يكون متسامحاً قليلاً مع تونس لتفادي دخول البلاد في فوضى اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، وأكد صعوبة مهمة وفد مفاوضي البلاد بجدوى البرنامج الاقتصادي الإصلاحي الذي لم تقدم فيه الحكومة مصادر تمويل الخطة الإصلاحية التي تتطلب، في نظره، موارد مالية جد كبيرة لتنزيله على أرض الواقع بخاصة في نقطة إصلاح منظومة الدعم وإصلاح الشركات الحكومية التي قاربت خسائرها أربعة مليارات دولار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان بدوره أن البلاد تواجه مشكلة مصداقية وثقة مع الأطراف المانحة لها، مشيراً إلى أن هناك شكاً كبيراً في قدرة حكومة نجلاء بودن على القيام بالإصلاحات. وقال إن النقاشات مع صندوق النقد الدولي مع أي دولة لا تتجاوز عادة أكثر من أربعة إلى خمسة أسابيع، مشيراً إلى أن جهاد أزعور التقى برئيس الدولة ليعلمه ''أنه لن يكون هناك أي تقدم في المحادثات أو المفاوضات قبل أن تقوم السلطات التونسية بالإصلاحات اللازمة، ولا سيما إصلاح الوظيفة العمومية أو ما يُسمى بكتلة الأجور وليس مستوى الأجور في الوظيفة العمومية، وإصلاح منظومة الدعم، وإصلاح الشركات الحكومية"، مضيفاً، "يجب على الدولة أن تعيد النظر بصفة جذرية بنمط الإنفاق الذي وصل بها إلى هذا الطريق المسدود''.
الضامن
مقاربة رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية كانت مغايرة، وربطها أساساً بالجانب السياسي، موضحاً أن الرئيس التونسي سيكون الضامن الحقيقي لارتفاع حظوظ البلاد في نيل موافقة صندوق النقد الدولي. وقال إن "مشروع الدستور الجديد للبلاد ينص على أن رئيس الدولة سيكون هو من يعيّن رئيس الحكومة وأعضاءها، ولن يكون هناك دور للبرلمان في العملية، وصندوق النقد لن يواجه معارضة أو رفضاً من البرلمان الجديد الذي سيتكون من أحزاب لم تشارك في سير المفاوضات". وأوضح أن حجر العثرة الذي كان أمام "الصندوق" هو رفض اتحاد الشغل الذي غير نسبياً من موقفه بإعلانه المشاركة في الاستفتاء المزمع إجراؤه في 25 يوليو 2022، ولفت الشكندالي إلى أن الاتحاد قدم مقترحات جديدة في سير المفاوضات، مشدداً على أن المسألة السياسية ستكون مفصلية، إذ إن الرئيس التونسي قد أعطى ضمانات لصندوق النقد الدولي.
قرار سياسي
وعلمت "اندبندنت عربية" من مصادر مقربة من ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أن هناك قراراً سياسياً من أصدقاء تونس لإعانة البلاد في مفاوضاتها، حتى تتمكن من الخروج من وضعها الاقتصادي والمالي، ونيل جواز العبور إلى الأسواق المالية الدولية لتعبئة الموارد المالية الضرورية.