اكتسب فندق "بارون" وسط مدينة حلب، شمال سوريا شهرة واسعة بين السوريين، بما ضم بين أضلع جدرانه، أحداثاً ومواقف مثّلت ذاكرة سياسية لا تمحى، وحافراً اسمه بين أسماء الأمكنة الخالدة في بلد تزدحم فيه التطورات السياسية من دون توقف، ومختصراً في ردهاته عمر حقبة سياسية جاوزت القرن من الزمن.
بارون حلب
في شارع اسمه "بارون" بمدينة الشهباء كما يطلق على حلب، ينتصب بناء مؤلف من ثلاث طبقات بأحجاره البيضاء القديمة، بدا متعباً من الأحداث التي شهدها، فيما أنهكته الحرب السورية الأخيرة حين وقع قريباً على مرمى من خطوط تماس نزاع مسلح في المدينة.
ويلفت نظرك تناغم تصميم بنائه الهندسي مع بقية أبنية مجاورة له، على الرغم من تفرده بسوره الحديدي مع ساحة صغيرة ومقرنصات على شرفاته المطلة، تتداخل معها زخرفات حجرية، يعتبرها السوريون أشبه بكتاب توثيقي لبداية العصر السياسي الحديث.
زعماء ورؤساء
احتضن الفندق قادة وزعماء ورؤساء وملوكاً من العرب والغرب ونبلاء وأمراء، ودارت في ردهات الفندق وقاعاته أحاديث ومؤتمرات وخطط سياسية وعسكرية منذ الحرب العالمية الأولى والثانية. ويعدّ من الفنادق السورية النادرة التي يحمل في أرجائه كماً من ذاكرة وقائع سياسية ومواقف لشخصيات بارزة زارته، منها جمال عبد الناصر الذي ألقى به خطاب الوحدة بين سوريا ومصر، ومن شرفة غرفته التي حملت الرقم 215 ألقى الملك فيصل خطاب استقلال بلاد الشام بعد الثورة العربية الكبرى.
وزاره كل من القادة والرؤساء ومنهم، حافظ الأسد حين كان وزيراً للدفاع، وشارل ديغول، وولي عهد الملك السويدي، والمشير عبد السلام عارف، ومختار ولد دادا رئيس موريتانيا، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وغيرهم.
حالة المكان
يبكي فندق "بارون" اليوم نفسه بعد ما ناله من هجران، لم يهدأ قط في ما سبق من حركة مرتاديه، لا يهدأ صباحاً من فرط زواره، ورواده من كبار الأمراء والملوك ورجال الأعمال والساسة، ولا يغفو ليلاً سَهَراً وطرباً ناهيك أن أم كلثوم نزلت به.
ترشدنا روبينا مظلوميان المشرفة الحالية على شؤون الفندق، إلى بهو رئيسي يضم في زوايا القاعة مجموعة من أواني الخزف القديمة قدمت أثناءها للملوك والقادة، وتشير روبينا بيدها إلى فاتورة حملت إمضاء بخط يد "لورانس العرب" الشخصية الاستخبارية البريطانية الشهيرة، ونزل بالفندق لفترة طويلة.
وحافظت السيدة روبينا، وهي من العائلة المالكة للفندق على المكان خلال الحرب الأخيرة منذ 2011، ومكثت بداخله هي وعائلتها مع عدد من أسر وعائلات كانت وما زالت تعمل بالفندق. وتفصح بقولها "أنه لم ينزل أي زائر منذ ذلك الوقت، بعد توقف حركة السياحة، بسبب الحصار والحرب الدائرة، وبعد الانفراج عادت معظم الفنادق الحديثة بترميم منشآتها لاستقبال الزوار، لكن بقي فندق بارون قيد الترميم والصيانة".
مصير الفندق
وينتظر الفندق مصيراً مجهولاً بعد أحاديث وتسريبات عن نيّة ورثته من عائلة مظلوميان بيعه، ولم تثبت بعد صحة ما يتداول عن استحواذ الفندق من قبل رجال أعمال معروفين. ومن المتوقع كما تشير الأحاديث أن يهدم لإشادة بناء حديث، الأمر الذي يستبعده مؤرخو المدينة، حيث لاقى الكثير من الاعتراضات من سوريين يأملون أن يبقى المكان على حاله، مطالبين بتحويله إلى متحف.
مشرفة الفندق روبينا من جهتها لا تأبه كثيراً لما يؤول إليه "بارون" فندق حلب الأشهر عبر التاريخ، على الرغم من توجسٍ وحزنٍ في داخلها لما سيحلّ بمصير محتوم للمكان في نهاية المطاف.
العناية لا تتوقف
الفندق يبدو مكاناً مهجوراً وأشبه ببيت للأشباح، زادت كوارث الحرب ثقله، إلا أن السيدة مظلوميان ما زالت تتعامل إلى الآن مع تفاصيل المكان كسابق عهده بكثيرٍ من العناية، محافظة على (بروتوكولات) الفندق الصارمة حتى أثناء متابعتها لفرق الصيانة والترميم التي تعمل من دون عجل. وبلهجة عربية (مكسرة) لكونها تنحدر من عائلة أرمنية هي عائلة "مظلوميان" تتخلّلها كلمات فرنسية تشرح المرأة الستينية حكاية الفندق، وما يزخر به من أحداث "مؤسسه الأخوين مظلوميان عام 1911 ويتألف مما يزيد على 40 غرفة، وما زال الفندق يحتفظ بغرف المشاهير الذين حلّوا به".
مقتنيات المشاهير
يختلج في النفس إحساس رهبة ممزوجة بالإثارة والتشويق إبان معرفتك أنك في الغرفة (213) التي نزلت بها آغاثا كريستي، مع زوجها عالم الآثار والمستشرق متر ماكس فالوين زائرة مدينة حلب، وكتبت هنا أشهر رواياتها "جريمة في قطار الشرق السريع"، ولك أن تتخيل كيف كانت تكتب هذه الروائية البوليسية أشهر رواياتها الشيقة في تلك الغرفة.
ما زال يحافظ الفندق على آثار المشاهير ومقتنياتهم، في الغرفة (202) يمكن مشاهدة صورة للورانس العرب معلقة. وتجتهد مشرفة أعمال الفندق وبما بقي معها من الموظفين بالمحافظة على هذا التقليد، فأسرّة وغرف المشاهير ما زالت في قمة أناقتها وترتيبها.
وهكذا يبدو حال البناء القديم بمستقبل غامض بين أن يعود للعمل كسابق عهده أو يطرح للاستثمار. ومع كل السيناريوات المحتملة، يأمل السوريون في أن يفتح الفندق ذراعيه لاستقبال الناس والتعرف إليه عن قرب، خصوصاً أنه يحتوي مقتنيات لمشاهير من العرب والأجانب، أو تحويله إلى متحف بعد أن ضم ذاكرة سياسية يزخر بها المكان.