يغدق الجزار أبو كريم مع انتهاء أيام العيد كمية لا بأس بها من الماء أمام حانوته، بالتزامن مع وقت غروب الشمس موعد انتهاء تقديم الأضاحي، سعياً منه لإعادة المكان إلى سابق عهده وتنظيفه من الدماء العالقة وبقايا الذبائح.
ويروي أبو كريم أن "العمل لم ينتهِ بعد، فالأضاحي التي ذبحت هذا الموسم كثيرة، وتشي بخير عم الناس، ونال الفقراء نصيبهم من عمل صالح وخيّر". وعلى الرغم من أن عمله ينتهي حين ذبح وتقطيع الخراف وتسليمها إلى صاحبها، "لكن تبقى لدينا الجلود التي يتبرع بها صاحب الأضحية للفقراء، ولا يجوز أن تقدم لنا بحسب الأعراف والتقاليد الدينية التي تحظر إعطاءها لنا كأجرة مقابل العمل".
وفرة بالأضاحي
في غضون ذلك، تدل المؤشرات الأولية على وفرة واسعة بالأضاحي في أيام العيد، ويتحدث الشاب حسن الذي يعمل في مجال تجارة المواشي ويملك قطيعاً من الأغنام والخراف، عن إقبال منقطع النظير مقارنة بالأعوام السابقة للشراء من أصحاب الأضاحي قبل العيد، "إننا نعمل طوال الموسم بشكل متواصل بغية الوصول إلى هذه الأيام المباركة، لقد حققنا ربحاً وفيراً، بينما الأسعار كانت معقولة بالنسبة إلى المقتدرين من السوريين ولا ترهقهم".
في المقابل، وبعد زحمة أثقلت كاهل الجزارين خلال أيام العيد، سيكون لديهم متسع من الوقت للراحة، لكن سيكون لديهم أيضاً تحدٍّ للحفاظ على الجلود وإرسالها إلى من يهتم بها ويقدم على معالجتها.
وترسل الجلود إلى ما يطلق عليه "الدباغات"، حيث يحاول العاملون الحفاظ على الجلد ومعالجته من جديد، وذلك بشكل تقني وفني لتحويل "مصران الخروف"، على سبيل المثال، إلى خيوط خاصة للاستخدامات الطبية، لا سيما توظيفها في مجال العمليات الجراحية.
الفرو الطبيعي لا يقارن
تتيح الجلود الخارجة بكميات غير مسبوقة من عيد الأضحى هذا العام ضخ مزيد من المواد لإنعاش مهنة "الفرواتي"، التي بدأت بالاندثار والتلاشي في أعقاب تحول من امتهنها إلى أعمال التجارة أو حرف أخرى أقل جهداً وتوفر مصدراً أعلى للرزق.
ويروي أصحاب مهنة "الفرواتي" الغارقة بالزمن أنها لا تحقق مصدراً مناسباً للرزق، لا سيما بعد غلاء الجلود والأدوات التي تدخل في صناعتها، علاوة على منافسة الآلة التي تراهن على الإنتاج الواسع بكميات كبيرة على حساب النوعية.
من جهته، يبدي صاحب إحدى ورش الفرواتية محمد خير كثيراً من الصمود بعد تلاشي حرفة أجداده، ويعرب عن أمله باستمرار العمل في هذا المجال بعد مفارقة والده الحياة "إنها ليست مصلحتي الأساسية، بل أعمل بالأقمشة، لكني تأثرت في رؤية ورشة أبي وقد أغلقت أبوابها، لم أرضَ بذلك، وأردت أن أعيد افتتاحها لتستمر من دون توقف".
وأوضح محمد خير "الفرواتي" أن عائلته اكتسبت اللقب من الحرفة ذاتها واشتهرت به، ويشرح "تأتي كميات الجلود ونسعى إلى أن نستكمل إجراءات التجفيف تحت أشعة الشمس، وإضافة المواد وبشر الجلود قبل دخول فصل الشتاء لتكون القطع الجديدة جاهزة لصناعة العباءات ذات الصوف السميك". وأشار إلى أن قطع العباءات المخصصة للرجال والمصنوعة من فرو الخراف تحظى بإقبال محبي هذا النوع، خصوصاً في الطقس البارد، إذ تكسبهم مزيداً من الشعور بالدفء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فن الحياكة المميز
في هذه الأثناء، يحاول "الفرواتي" تجميع ما يمكنه من قطع تعرضت للمعالجة ولأشعة الشمس، وبعد ذلك ترضخ للحياكة لتتحول إلى العباءة العادية، التي تغطي كامل الجسد ما عدا الرأس، أو النصية، أي نصف جسم الرجل. ويقول "بعد حياكة الفرو السميك بطريقة دقيقة وبشكل متين، نقوم بتلبيس هذه العباءات بأقمشة تتفاوت بين السادة من دون أي إضافات أو المطرزة".
كما لا يقتصر تحويل فرو الخراف إلى عباءات وملابس للشتاء فحسب، بل إنها تتحول إلى قطع تزيين في الغرف السكنية أو المكتبية أو الأماكن المغلقة، لما تمنحه من إحساس بالدفء.
وفي الوقت ذاته، يحاول من بقي من "الفرواتية" على قلّتهم في سوريا، البلد الذي عاصر الحرب وهاجر حرفيوه إلى الخارج، أن يعملوا بكل طاقتهم وينافسوا الآلات للبقاء، وتبدو المنافسة صعبة مع الفرو الصناعي الذي يتميز برخص سعره، مقارنةً بالفرو الطبيعي، بالتالي أخذت ورش "الفرواتية" تغلق الواحدة تلو الأخرى بعد أن ضاقت بهم الدنيا.