كان هناك شيء مألوف ومروّع في طريقة احتفالنا بالنهاية المفترضة للحرب العالمية الأولى قبل مئة عام. [لا أقصد فحسب الاقتصار على استعادة شارات الحرب هذه]: سيل الخشخاش [صار النبات هذا رمزاً للحرب العالمية الاولى، إثر حرب الخنادق في حقول الخشخاش] والأسماء المألوفة [للمعارك الكبرى]: معركة المونس ومعركة السوم، ومعركة ييبريس ومعركة فردان".. لا بل ما أقصده هو الصمتُ شبه الكامل عن كل أولئك الذين ماتوا في الحرب العالمية الأولى ولم تكن عيونهم زرقاء مثلنا، ولا كانت سحنتهم وردية اللون مثلنا، أو من لا تزال معاناتهم متواصلة من الحرب الكبرى حتى يومنا هذا. وحتى ملاحق الأحد [في الصحف] التي تجرأت على التغريد خارج سرب الجبهة الغربية، لم تتطرق سوى لماماً إلى الآثار المترتبة على الحرب في بولندا الجديدة، وتشيكوسلوفاكيا الجديدة، ويوغوسلافيا الجديدة، وروسيا البلشفية، مع ذكر عابر لتركيا.
ولم تكتب كلمة واحدة عن المجاعة الكبرى أو حملة تجويع عرب المشرق، وهي حملة أودت بحوالى 1.6 مليون قتيل، على وقع النهب التركي وحصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وما يثير الدهشة أكثر أني لم أجد إشارة واحدة إلى الجريمة الأكبر ضد الإنسانية في الحرب العالمية الأولى، لا أعني قتل القوات الألمانية في عام 1914 الرهائن البلجيكيين، بل الإبادة الأرمنية التي ارتكبها حليف ألمانيا العثماني التركي، وراح ضحيتها مليون ونصف مدني مسيحي في عام 1915.
ولكن ماذا عن الوثيقة الرئيسية في الحرب العالمية الأولى بالشرق الأوسط، أي وعد بلفور عام 1917، الذي وعد بوطن قومي لليهود في فلسطين وحكم على العرب الفلسطينيين (وكانوا أغلبية في فلسطين في ذلك الوقت) بالبقاء لاجئين على الدوام؟ أو ماذا عن اتفاق "سايكس- بيكو" في العام 1916، الذي فتت الشرق الأوسط و أخلّ بـوعد الاستقلال العربي؛ وماذا عن تقدُّم الجنرال اللنبي نحو القدس وتدشينه أول استخدام للغاز [سلاح الغاز] في الشرق الأوسط - وهو ما ينساه اليوم المعلقون الأحبّة-؟ نحن مصدومون بوحشيةِ التاريخ السوري والعراقي الحديث، ولكننا ننسى- أو لا نعرف- أن رجال اللنبي أطلقوا قذائف الغاز على الجيش التركي في غزة. في غزة دون غيرها من الأماكن! [سلاح] الغاز الذي اقتصر ذكره في الذاكرة الجماعية في نهاية الأسبوع الماضي على الجبهة الغربية.
تحتوي مقابر من سقطوا من الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في كل من الشرق الأوسط وأوروبا، على عشرات الآلاف من قبور المسلمين، منهم جزائريون ومغاربة وهنود، إلا أنني لم أر ولو صورةً لواحد منهم [في ذكرى الحرب] أو للعمال الصينيين الذين ماتوا على الجبهة الغربية وهم يحملون قذائف القوات البريطانية، أو للجنود الأفارقة الذين قاتلوا وماتوا من أجل فرنسا في معركة السوم. وفقط في فرنسا، يبدو أن الرئيس ماكرون تذكر، على نحو ما يفترض به، أبرز سمات النزاع هذا: أكثر من 30 ألف رجل من جزر القمر والسنغال والكونغو والصومال وغينيا، ماتوا في الحرب الكبرى [الحرب العالمية الأولى].
وكان ثمة نصب يكرم هؤلاء في ريمس [الفرنسية]. ولكن الألمان شنوا هجومًا عنصريّاً وعنيفًا على الجنود الفرنسيين السود الذين شاركوا في احتلال ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى جزاء اغتصاب الألمانيات وتهديد مستقبل العرق الألماني. وكل هذا غير صحيح طبعاً [يخالف سردية الجبهة الغربية]. ولكن حين اجتاحت جحافل هتلر فرنسا في1940، فعلت الحملات الدعائية النازية ضد هؤلاء الرجال فعلَها. فارتكبت قوات الفيرماخت [القوات المسلحة الألمانية] في ذلك العام مذبحة ذهب ضحيتها أكثر من ألفي جندي فرنسي أسود، ودُمّر النصب هذا [الآنف الذكر]. وأعيد بناء النصب مجددًا، وافتُتح في ذكرى الاحتفال بمرور مئة عام على اتفاق الهدنة.
كما أن هناك مفارقات في عدد الموتى، فمن بين 4000 جندي مغربي أرسلوا إلى معركة المارن في عام 1914، وجميعهم مسلمون، نجا 800 فقط، وغيرهم مات في معركة فردان. ومن جنود الجنرال[الفرنسي] هوبير ليوطي البالغ عددهم 45 ألف جندي مغربي، سقط 12ألف منهم بحلول عام 1918.
ولاحظت المجلة الفرنسية الصغيرة "جون أفريك"، أن قبور كثير من الموتى المغاربة [في الحرب الأولى] لا تزال إلى اليوم تحمل علامة نجمة الخلافة العثمانية التركية وهلالها. وعلى رغم أن المغاربة كانوا من رعايا الإمبراطورية العثمانية، الا انهم قاتلوا في سبيل فرنسا ضد حلفاء تركيا من الألمان. ولم تكن النجمة والهلال يوماً يوماً الرمز الرسمي للمسلمين. وعموماً، كان المغاربة قد رسموا علَمهم قبل الحرب الكبرى.
ولكن لا شك في أن الرموز الحقيقية للحرب العالمية الأولى ونتائجها المستمرة والدموية، هي في الشرق الأوسط. و في المقدور تتبّع آثار تكون النزاعات في المنطقة، وتحديداً في سوريا والعراق وإسرائيل وغزة والضفة الغربية والخليج، الى حربنا الكبرى.
واتفاق سايكس بيكو قسَّم العرب. والحرب، بعد أيام على إنزال غاليبولي، مكّنت الأتراك من القضاء على أقليتهم المسيحية الأرمنية. وأحب النازيون مصطفى كمال أتاتورك لأنه "طهَّر" [قضى على] أقلياته، وعندما توفى أتاتورك، اتشحت الصفحة الاولى من صحيفة الحزب[النازي]، "فولكيشير بيوباختر"، بالسواد [حداداً عليه].
وتعمّد الفرنسيون تقسيم لبنان وسوريا ونظمهما الإدارية المذهبية بعد أن حصلوا على تفويض بعد الحرب لحكم بلاد الشام.
وساهم في تأجيج الانتفاضة العراقية ضد الحكم البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، الاشمئزاز من وعد بلفور.
وعدت الى مكتبة والدي الراحل- والدي الذي طبعته الحرب الأولى، والذي حارب في معركة السوم الثالثة في 1918- وبحثتُ في طيّات كتب التاريخ القديم ووقعت، بغضب وحزن، على ما كتبه ونستون تشرشل عن "هولوكوست" الأرمن (وهو وصف الإبادة بهذه الكلمة). ولكنه، مع ذلك، لم يستطع رؤية مستقبل العالم العربي حتى في مجلداته الأربعة عن الحرب الكبرى في عام 1935. واقتصر تناوله مسائل الشرق الاوسط على مقالة يتيمة عن الإمبراطورية العثمانية السابقة المشتعلة في ملحق من صفحتين في صفحة 1647 بعنوان "مذكرة حول إرساء السلام في الشرق الأوسط".
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين فهم لا يزالون يستيقظون كلَّ صباح على غبار وقذارة مخيمات نهر البارد وعين الحلوة وصبرا وشاتيلا في لبنان. وكأن بلفور لم يوّقع وثيقةَ الحرمان ونزْعِ الملكيةِ هذه في 1915، بل في الأمس القريب. أما في النسبة إلى هؤلاء اللاجئين، الذين ما زالوا يقبعون في أكواخهم [البائسة]، في وقت تطالع [أيها القارئ] هذه الكلمات، فالحرب العالمية الأولى لم تنته أبدًا، ولا حتى اليوم، في الذكرى المئوية لـ "نهاية" الحرب العالمية الأولى.
© The Independent