لطالما فتنت الجريمة الناس ووقعوا في حالة عشق ممنوع وشغف مكروه بكل ما يتعلق بها وبتفاصيلها، والجاني والمجني عليه والمحقق والقاضي والمحكمة والحكم. في الماضي كانوا يركزون جل اهتمامهم على مشهد العقوبة الذي لم يكن يتوفر سواه، فالحكم يصدر في قاعة المحكمة ويجري تنفيذه خلف أسوار السجون.
اليوم صارت الأخبار متفجرة، وقلما تخلو الصفحة الأولى لأي جريدة من خبر أو اثنين عن جرائم، ومن أكثر القضايا إثارة لجدل الرأي العام في المجتمعات الأحكام الصادرة في قضايا. ويشير أستاذ علم الجريمة البريطاني جوليان روبرتس في كتابه "رأي عام، الجريمة، والعدالة الجنائية" إلى أن الرأي العام أصبح ضالعاً في عالم الجريمة.
الرأي العام يدلو بدلوه
هل كانت الغرامة الموقعة كافية؟ هل كان حكم المؤبد قاسياً؟ هل الجاني كان يستحق الإعدام أم بضع سنوات رأفة بأسرته؟ أسئلة كثيرة كان الرأي العام يطرحها في إطار رد الفعل على القضايا المصيرية الكبرى.
واستمر الوضع في التطور إلى أن أصبح الرأي العام يدلو بدلوه في الجريمة وطريقة تنفيذها وأسلوب القبض على المشتبه فيه وسير التحقيقات، ثم مجريات القضية وتعبيرات وجه القاضي وردود فعل الأهل ومرافعة النيابة والمحامي، وصولاً إلى النطق بالحكم.
وباتت منصات التواصل الاجتماعي تلعب دوراً محورياً في جعل الرأي العام طرفاً فاعلاً بالجريمة، فكثير من الحوادث التي تهز المجتمعات دارت رحاها على هواء الأثير الرقمي العنكبوتي مباشرة، ولا يتطلب الأمر سوى تصادف مرور شخص في مكان الجريمة وقت اعتداء شخص على آخر أو مجموعة على شخص أو عملية دهس أو طعن وربما ذبح، فيصور ما يجري ويبثه عبر المنصات.
عقب البث مباشرة يبدأ الرأي العام الإدلاء بدلوه، ومع تعاظم استخدام الـ"سوشيال ميديا" وزيادة أعداد المستخدمين، زاد الإدلاء بالآراء لدرجات غير مسبوقة.
الأشهر القليلة الماضية شهدت عدداً من الجرائم التي هزت الشارع المصري، واتضح أنها لم تهز الشارع فقط لفداحتها، ولكن هزته لفرط الإغراق في إصدار الأحكام على المشتبه فيهم والجناة والمجني عليهم وذويهم والشهود والمارة الذين تصادف وجودهم في مكان الجريمة، وكذلك القاضي والمحامون والمفتي إذا أحيلت أوراق القضية له.
اهتزازات متتالية
قبل أسابيع قليلة، اهتز الشارع المصري وامتدت اهتزازاته وراء الحدود جراء وقوع جريمة طعن وذبح، وقعت ضحيتها طالبة جامعة المنصورة نيرة أشرف على يد زميلها محمد عادل.
وعلى الرغم من فظاعة الجريمة، التي وقعت في وضح النهار على مرأى ومسمع من المارة وطلاب الجامعة وطالباتها، فإن الرأي العام تحول من متابع ومتألم ومتعجب إلى مشارك ومصدر أحكام تتراوح بين البراءة والإعدام والسجن المشدد أو المخفف، ومقيم لإجراءات العدالة بدءاً بالتحقيقات مروراً بالمرافعات وانتهاء بإصدار الأحكام.
شهد المجتمع المصري العديد من قضايا الرأي العام في العقود القليلة الماضية، وذلك من نوعية القضايا التي يصدر فيها الناس أحكاماً تسبق حكم القضاء، ومنها ما يناقض حكم القضاء بعد صدوره، على الرغم من مبدأ "لا تعليق على أحكام القضاء".
ومن هذه القضايا على سبيل المثال لا الحصر، القضية التي تم الحكم فيها بالبراءة لصالح رجل الأعمال المصري وعضو مجلس الشورى سابقاً صاحب باخرة "السلام 98" ممدوح إسماعيل، وهي الباخرة التي غرقت في عام 2006 وعلى متنها نحو 1400 مسافر، غرق منهم ما يزيد على ألف شخص في رحلتهم من ميناء ضبا السعودي إلى ميناء سفاجا المصري.
فداحة الحادث
فداحة الحادث لم تنافسها سوى فداحة ما خلصت إليه لجنة تقصي الحقائق، قدر كبير الإهمال الذي يقترب من حد العمد، لا سيما إهمال هيئة السلامة البحرية في تطبيق القواعد والقوانين والأعراف الدولية لضمان سلامة الركاب، مع تجاوز الحد الأقصى المسموح به في عدد الركاب (سعة الباخرة كانت 500 راكب فقط)، وحالة معدات الإنقاذ المتهالكة وعدم خضوعها للفحص الدوري وغيرها جعل الرأي العام يتوقع صدور أغلظ الأحكام على "المتهمين"، وعلى رأسهم صاحب الباخرة ممدوح إسماعيل.
وحين صدر حكم ببراءته شهد الشارع المصري أحد أبرز محطات التحول من مرحلة المتابعة إلى المشاركة في تحديد الأحكام والاعتراض على الصادر منها.
في عام 2006 كان عدد مستخدمي الإنترنت في مصر أقل من مليون من بين 73 مليون مصري، لكن في عام 2022 بلغ عدد المستخدمين 74.5 مليون شخص من مجموع 105 ملايين مصري. نسبة كبيرة من هذه الملايين الناشطة على الشبكة العنكبوتية تشارك بشكل أو بآخر في الحوادث الكبرى التي تشغل الرأي العام.
في حادثة طالبة المنصورة، التي ما زالت تفرض نفسها على الساحة، ظهر الرأي العام طرفاً في الجريمة البشعة منذ لحظة تنفيذها.
فالعشرات الذين وقفوا بهواتفهم المحمولة يصورون ما يجري منذ نزول الطالبة من الميكروباص مروراً باعتراض الشاب القاتل طريقها ثم طعنها وأخيراً ذبحها، ومن ثم تحميل الجريمة على منصات التواصل الاجتماعي، طرف في الجريمة. والعشرات الذين هرعوا لاستطلاع ما يجري بين محاولة إنقاذها وتلقينها الشهادة والإمساك بالطالب، وتصوير كل ما سبق وتحميله على أثير الإنترنت، طرف ثانٍ في الجريمة.
والجماهير العريضة التي تابعت الأثير العنكبوتي وحللت محتوياته، بين مندد بمن وقف يصور من دون التدخل لمنع الجريمة، ومؤيد للتصوير الذي يعد دليل إدانة دامغاً يقدم للعدالة، طرف ثالث في الجريمة.
ثم تطور الوضع لتكبير صورة الضحية الغارقة في دمائها، ثم بدء إصدار أحكام شعبية غير مسبوقة حول ملابسها (تي شيرت نصف كم وبنطلون جينز)، واعتبارها دليل إدانة لها وتخفيفاً من فداحة ما أقدم عليه القاتل على المحكمة أن تنظر له بعين الاعتبار، ومن ثم ظهور فريق مناهض في الرأي العام مطالباً بالتوقف عن إدانة المجني عليها وتبرئة الجاني استناداً إلى الأدلة التي وصفها بعضهم بـ"الداعشية" نظراً إلى تطرفها وعنفها البالغين، جميعهم طرف رابع في الجريمة.
تمدد الضلوع الشعبي
تمددت قاعدة ضلوع الرأي العام طرفاً محورياً حين أطل المحامي المخضرم المثير للجدل فريد الديب (79 سنة) برأسه، ليتم تداول تدوينات وتغريدات عنكبوتية حول قبوله – وفي أقوال أخرى قراره - الدفاع عن قاتل المغدورة.
وهلل جانب من الرأي العام فرحاً بضلوع الديب، وهو الجانب المتعاطف والمدافع والمبرئ للمتهم، بينما ندد الجانب الآخر بالرجل الذي ارتبط اسمه بقائمة طويلة من القضايا الأكثر إثارة للجدل وسخونة واحتقاناً وإشعالاً للرأي العام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرتبط اسم الديب بـ"محاكمة القرن" أو محاكمة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك وأسرته في سلسلة القضايا التي اتهموا فيها عقب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، وتمكن من الحصول على البراءة لهم في "كوكتيل" القضايا والاتهامات الموجهة لهم، بدءاً بقتل المتظاهرين والتلاعب في البورصة مروراً بالفساد وبيع الغاز المصري وانتهاء بالقصور الرئاسية وهدايا "مؤسسة الأهرام" وغيرها.
وإذا كانت "محاكمة القرن" هي الأخرى إحدى المحطات الرئيسة التي رسخت الرأي العام طرفاً في القضاء والمرافعات والأحكام، فإن سلسلة القضايا المدوية التي يحملها الديب في جعبته يمكن اعتبارها كلها قضايا ضلوع الرأي العام طرفاً على الرغم من أنف القضاء والجناة والمجني عليهم.
الديب ترافع عن الإسرائيلي الذي اتهم بالتجسس لصالح تل أبيب عزام عزام في عام 1996، وعن رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى في قضية التحريض على قتل الفنانة سوزان تميم، وعن السياسي الهارب حالياً أيمن نور بعد اتهامه بتزوير توكيلات لحزبه السياسي في أعقاب الانتخابات الرئاسية التي خاضها أمام الرئيس السابق الراحل مبارك في عام 2005، وغيرها من القضايا التي تتوافر فيها عوامل إثارة وجذب الرأي العام.
الرأي العام يدلو بدلوه ويعبر عن رأيه، وهذا حق تكفله الدساتير عادة. الدستور المصري في مادته رقم 65 ينص على أن حرية الفكر والرأي مكفولة، وأنه لكل إنسان حق التعبير عن رأيه قولاً أو كتابة أو تصويراً أو غير ذلك من وسائل النشر، لكن وسائل النشر، لا سيما العنكبوتية تحولت إلى منصة قضاء وجلاد ونيابة ومحامين في السنوات الأخيرة.
يغضب ويثور ويحكم
الرأي العام في الأحوال العادية يغضب ويثور لدى وقوع جرائم تنضح بظلم للضعيف أو فساد من الكبار أو توغل من الأقوياء أو خيانة من ضعاف نفوس، لذلك تجذب جرائم وقضايا بعينها اهتماماً جماهيرياً واسعاً يصل أحياناً إلى درجة تجريم المحامي الذي يدافع عمن يعتبره الرأي العام مجرماً أو مذنباً أو ظالماً أو خائناً.
المحامي فريد الديب قال إبان الثورة العارمة للرأي العام على الأثير العنكبوتي بعد تردد أنباء عن دفاعه عن قاتل الطالبة نيرة أشرف: "أنا لا أدافع عن جريمة، بل أدافع عن متهم بارتكاب جريمة، وهناك فارق كبير بينهما، وظيفتي العمل على تطبيق صحيح القانون، ومجابهة عدم تطبيق أحكامه بشكل صحيح على المتهمين في القضايا المختلفة، هذا هو عملي، عملي ليس إرضاء الرأي أو الرأي الآخر".
العنوان مقابل الحقيقة
الرأي والرأي الآخر في الجرائم وارد، لكن توحش كليهما وخروجه عن حدود التعاطف أو التعبير أو الرأي إلى درجة تكييل الاتهامات يميناً ويساراً يتعدى مرحلة التعبير عن الرأي بكثير.
في كتابهما "الجريمة والإعلام: العناوين في مقابل الحقيقة" تشير المؤلفتان روزالين ميراسكين وشيلي فاور دوماش إلى أن معرفة الجمهور بالجرائم مستمدة في الأساس من طريقة تصويرها وتقديمها في وسائل الإعلام، وأن وسائل الإعلام تؤثر بشكل واضح ومباشر في الرأي العام تجاه الجرائم التي تحدث والعقوبات التي تصدر ويتم تطبيقها، وأن على وسائل الإعلام أن تعي أن عناوينها وطريقة تغطية الجرائم وتفاصيلها تؤثر في مواقف الجمهور من هذه الجرائم.
لكن كان هذا حتى سنوات قليلة مضت، وتحديداً في عام 2010 سنة صدور الكتاب. فحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، ظلت عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية للمؤسسات الصحافية والقنوات التلفزيونية المصدر شبه الوحيد لبث الأخبار، وبينها الجرائم. ويعني هذا أن طريقة نشر خبر الجريمة وسرد تفاصيلها خضع بشكل أو بآخر لمعايير متشابهة، وهو ما أدى إلى رأي عام متناغم وردود فعل متشابهة تجاه هذه الجرائم إلى حد كبير.
انقلاب الهرم المجتمعي
في ورقة بحثية عنوانها "تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حقوق المتهمين في الأردن: هل الرأي العام مهم؟" يشير نائب عميد كلية القانون في جامعة العين الإماراتية طايل محمود الشياب إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في ظهور الإعلام المجتمعي الذي يسمح بتبادل الأفكار بحرية وسهولة. وقد ساعدت الوسائل في انقلاب التسلسل الهرمي الاجتماعي التقليدي رأساً على عقب، إذ أصبحت المؤسسات الحكومية أقل قوة والناس ممثلون في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر قوة.
ويحذر الشياب من أن نشر بعض الجرائم يخلق بعداً اجتماعياً خطيراً في عقلية الفرد والجماعة إذا كان لتكوين رأي عام، فالنشر لتكوين الرأي العام يشكل أحياناً ضغطاً على القضاء وجميع أطراف الدعوى. وقد يؤدي ذلك إلى آثار عدة مثل مس قرينة البراءة، أو التأثير على سرية التحقيقات أو أحكام الإدانة وغيرها مما قد يلحق الضرر بالقضية وأطرافها.
وأشار الشياب إلى أن الجريمة من أعلى الموضوعات إثارة للاهتمام والتداول على منصات التواصل الاجتماعي، معتبراً أن النشر والتعليق المستمرين من أقوى الأساليب المتبعة لتكوين الرأي العام المجتمعي، لكن الإفراط فيهما من دون قواعد أو ضوابط (على منصات التواصل الاجتماعي) يؤدي إلى حشد العقول من خلال التركيز على سرد حقائق معينة وتفصيلها بالصوت والصورة والكلمة بعد أن كانت مقتصرة على شكل وتفاصيل شبه متطابقة من قبل.
المؤكد أن الرأي العام في حالة تغير وتبدل، وأن الـ"سوشال ميديا" باتت تصنع من المجرم بطلاً، وتجد له بدل المبرر عشرة، وتحول المجني عليه دليل إدانة لنفسه، وتصبغ تفاصيل الجريمة بألوان أعراف وعادات قد تكون خاطئة أو مفاهيم دينية متطرفة. وقد ترجح كفة المشاعر الطاغية أو العاطفة الجياشة بدلاً من الأدلة والبراهين، وتترك العنان لنزعات الانتقام السياسي أو الغل الطبقي أو الحرمان الاقتصادي تتملك الرأي العام في إصدار الأحكام الشعبية في الجرائم والحوادث.