أصبحت الرواية الحديثة في كثير من نماذجها تخبر عن نفسها فيما هي تخبر عن العالم، وتحيل على ذاتها فيما تحيل على الخارج، جامعة بين الإبداع والتأمل في الإبداع جمع تآلف وانسجام. ولم ينشأ هذا النمط من الرواية عن رغبة في التعليم والتوجيه، وإنما نشأ عن اقتناع بأن العمل السردي هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمّل ذاته باستمرار. فالرواية الحديثة باتت تنهض بوظيفة مزدوجة: الوظيفة الأولى تتمثل في إشارة الرواية إلى ما هو خارج عنها، والإيماء إلى الواقع الذي صدرت عنه. أما الوظيفة الثانية فتتمثل في إشارة الرواية إلى ذاتها، من أجل فضح لعبتها السردية، وكشف آلياتها وقوانينها الداخلية، أو التعليق عليها. أي أنّ السرد الحديث أصبح موضوعاً وتأملاً في الموضوع، ما فتئ يتنقل بين نصّ العالم وعالم النصّ، ساعياً إلى لفت انتباهنا إلى مدلولاته من ناحية، وفي الوقت نفسه إلى لفت الانتباه إلى دلالاته، منتهكاً بذلك ميثاق القراءة الذي يقوم على التفريق بين الأنواع والأجناس، مؤسساً فضاء جديداً يسوده الالتباس، بحيث نجد السرد والتفكير في السرد يتداخلان ويترافدان.
الخطاب الواصف
لعل المتأمل في رواية "شنقرارا" للكاتبة التونسية راضية الشهايبي الصادرة عن "كلمات" في الشارقة، يلحظ قيامها على هذا الموضوع، موضوع التفات الرواية إلى نفسها لتتحدث عن "سيرتها"، كاشفة من خلالها عن أسرار الكتابة ولطائفها الخفية. وهذه الظاهرة، ظاهرة التفات النص الأدبي إلى نفسه، أطلق عليها النقاد مصطلح "النص الواصف"، وهذا المصطلح جاء ترجمة قلقة لمصطلح Metadiscours الفرنسي الذي يشير إلى الخطاب الروائي حين ينعكس على نفسه ويستدير إلى حضوره الذاتي.
رواية الكاتبة راضية الشهايبي أنموذج للرواية التي تروي سيرتها الذاتية، وتقول تاريخها، وتصور مراحل تخلقها، فاتحة فضاء الكتابة الروائية على أفق من الأسئلة لا يحدّ منتهاه. وبعبارة أخرى نقول: إن الرواية باتت الشخصية الأولى التي منها تتحدر الأحداث، وإليها تؤول. لا شك في أن هناك شخصيات أخرى تنهض داخل الرواية بأدوار كثيرة، لكن هذه الشخصيات تظل مساعدة وربما هامشية، أمّا شخصيّة الرواية فهي مدار الأحداث وهي منطلقها ومنتهاها. وليس غريباً أن تنهض الأشياء بدور البطولة في الرواية الحديثة، فقد كان ذلك من خصائص الرواية الجديدة كما جسدها جورج بيريك في روايته "الأشياء"، حيث أصبحت البضائع الاستهلاكية شخصيات الرواية وأبطالها.
وإنه لأمر ذو دلالة أن نجد هذه الرواية تدور على هذا الموضوع، وهو موضوع فكري وفني في المقام الأول، في حين أن معظم الروايات التونسية التي ظهرت بعد 2011 جنحت إلى المواضيع الاجتماعية والسياسية، فهي تعدّ في هذا السياق ضرباً من الاستثناء. فالروائية راضية الشهايبي كانت في الواقع ترصد تطور الرواية التي مالت إلى تأمل ذاتها في العديد من نماذجها، مستعيدة أسطورة نرسيس، وباحثة عن أفق في الكتابة جديد.
ومنذ البدء أسارع إلى القول إن هذه الرواية لا تخضع لقواعد السرد التقليدي، فالزمن فيها لا يخضع لمنطق التتابع الخطي بل بات متعرّجاً مرّة، مرتدّاً على نفسه في الكثير من المرّات. ومعمارها الفني انحرف هو أيضاً عن مألوف البناء القصصيّ واختار بناء مخصوصاً يتسم بالتفكك، وكل ذلك جاء في لغة مفعمة بالمجاز، مثقلة بالرموز، منطوية على شحنة انفعالية لافتة. الرواية كل الرواية، يلفها ضباب شفيف يجعل كل الشخصيات والأحداث مجموعة أطياف وظلال، تبين وتغيب، تتراءى وتختفي. وقد أسهمت لغة الكاتبة المثقلة بالرموز والإيحاءات في خلق هذا الغِلالة من الغموض التي تلف كل العمل. رواية الكاتبة تذكرني بلوحة "متجول فوق بحر من الضباب" لفنان الرومانسية الألمانية كاسبر ديفيد فريدريك، حيث الضباب يلف الأرض بطبقة من البياض، فلا نرى غير كتل باهتة لا يمكن معرفة طبيعتها.
المرأة والكتابة
منذ الفصل الأول تعلن "شنكرارا" عن حلمها القديم الجديد، حلم "ملاقاة كاتبها لتؤلّف رواية لها في الحياة"، فهي تنتظر "من يُسكنها فكرَه ويكسوها لغته، فحياتها العاصفة جديرة بأن تتحول إلى رواية لا تقل غرابة وتشويقاً عن كل الروايات التي عرفتها، صحيح أنّ لديها مخطوطاً أودعته بعض "قصصها" وأسرارها، لكنه يظل في حاجة إلى كاتب متمرس يحول مادّته الأولى إلى عمل فنّي.
اتصلت "شنقرارا" بعدد من الكتاب منهم: مصطفى الراعي الذي يصرّ على أنه روائي، على الرغم من أنه لم ينه أيّة رواية. واتصلت أيضاً بأستاذ الفلسفة سميح المدوري، وبالصحافي الشاب رمزي العوان الصحافي المغرور، وبأنور ممتاز السكير، والروائي الأجنبي فيليب. لكنهم فشلوا جميعاً في كتابة سيرتها، وبقيت الرواية حلماً يراود الجميع، بقيت وعداً لا يتحقق، وكأن قدر هذه الرواية أن تظل غير مكتملة، وكأنّ في اكتمالها موتها.
شخصية شنقرارا
لا تسرد الرواية سيرة الرواية فحسب، وإنما تسرد سيرة شخصيات تلك الرواية وأبطالها، فإذا القصة تتناسل من قصة في ضرب من التداعي الذي لا يرد. وتظل أهم الشخصيات وأولاها بالتأمل شخصية "شنقرارا"، هذه المرأة الغامضة الواضحة، القريبة البعيدة، التي تعدّ مزيجاً عجيباً من الواقع والخيال، من الحس والوجدان. بعضها موصول بالسماء، وبعضها موصول بالأرض، كلامها مفعم بالإشراقات الصوفية والوثيات الشعرية. تتكلم حيناً بلغة المقدس حيث الإشارة تقوم مقام العبارة، وتتكلم حيناً آخر بلغة الأرض حيث تحضر الجارحة والغريزة والحس. عاشت هذه المرأة حياة مضطربة أفضت بها إلى الجنون وبات حلمها الأول، كما أشرنا سابقاً، تحويلَ حياتها إلى رواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لهذه الأسباب مجتمعة كانت "شنقرارا"،أكثر الشخصيات استقطاباً لاهتمام المتقبل لأنها شخصية مركبة ملتبسة، تثير خيال المتقبل وعقله. شخصية نعرفها ولا نعرفها، نأتلف معها حيناً ونختلف معها في كثير من الأحيان، لكننا في كل الأحوال ننظر إليها بتعاطف، وربما رأينا أنفسنا في سلوكها وردود فعلها.
لا شك في أن هناك عدداً آخر من الشخصيات اقتسمت مع "شنقرارا" غنيمة البطولة، نكتفي بالإشارة إلى إحداها، وهي شخصية مراد الذي اكتشف وكشف لنا جوانب جديدة من شخصية "شنقرارا"، وأطلعنا على بضعة من أسرارها، فمن خلال الكنش الذي ظفر به تمكن من الحفر في ماضي المرأة العاصف، وشيئاً فشيئاً تمكن من ترتيب ما خطته على كنشها وتعهد الدكتور منصور بنشر العمل.
هكذا تنتهي الرواية من غير أن تجيب على كثير من الأسئلة التي بقيت معلقة داخلها، فالخاتمة لم تضع حداً لتدفق أحداث الرواية ووقائعها، كلا فالرواية تستمر بطريقة أخرى. أعني تستمر في ذهن المتقبل ووجدانه، فهو الذي سيرتب، في آخر الأمر، أحداثها وسيقترح نهاية محتملة لها.