تمتلك الولايات المتحدة أكبر عدد من كاميرات المراقبة لكل شخص في العالم، إذ تنتشر الكاميرات في كل مكان، في شوارع المدن، وفي الفنادق، والمطاعم، ومراكز التسوق، والمكاتب.
وبينما يدرك معظم الأميركيين وجود المراقبة عبر الفيديو في الأماكن العامة، وعمليات التتبع عبر الإنترنت والهاتف المحمول، ويريدون من الكونغرس أن يفعل شيئاً حيال ذلك، تظل هناك إشكاليات تتعلق بالأخطار المتعلقة بالتتبع والمراقبة، فكيف يتم تتبع الأشخاص، وهل من حماية قانونية لهم؟ وهل توجد وسائل رقمية لمنع التتبع؟
الأولى عالمياً
مع سعي الحكومات أكثر من أي وقت مضى إلى مزيد من السيطرة على السكان، تكشف بيانات "بريسايز سيكيوريتي"، وهو موقع خاص بأمن المعلومات والكمبيوتر، عن أن الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول عندما يتعلق الأمر بعدد كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة التي تستخدم لأغراض المراقبة والأمن لكل فرد، إذ يوجد لديها أكثر من 50 مليون كاميرا تراقب جميع سكان الولايات المتحدة الذين يزيد عددهم على 335 مليون شخص، ومع ذلك، فإن الصين تتفوق على هذا العدد بأربع مرات، حيث ينتشر لديها أكثر من 200 مليون كاميرا مراقبة مثبتة لسكانها البالغ عددهم 1.448 مليار شخص، ولهذا فإن عدد كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة يبلغ نحو 15 كاميرا لكل 100 شخص، مقارنةً بنحو 15.3 كاميرا في الولايات المتحدة، على الرغم من أن المدن الصينية تتصدر قائمة المدن العالمية التي ينتشر بها أكبر عدد لكاميرات المراقبة لكل مئة شخص.
ووفقاً لموقع "موردور أنتيليجينس" الأميركي، فقد بلغت قيمة سوق أنظمة المراقبة بالفيديو في الولايات المتحدة 10.99 مليار دولار أميركي في عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 21.86 مليار دولار بحلول عام 2026. وتُعد كاميرات المراقبة أكثر شيوعاً بين المؤسسات التجارية التابعة للقطاع الخاص، مثل المتاجر والفنادق والمطاعم ومجمعات المكاتب، كما زادت إدارة أمن النقل الحكومية من تدابير المراقبة والتفتيش في المطارات وسط جائحة "كوفيد-19"، وأنفقت مئات الآلاف من الدولارات لاستخدام تحليلات الفيديو في عمليات فحص المطارات.
مراقبة الوجه
وخلال السنوات الأخيرة، اكتسب الاعتماد المتزايد على نظم التعرف على الوجه، والذي يُعد عاملاً حيوياً للأمن، زخماً هائلاً في السوق، فقد اعتمدت مدينتا شيكاغو وديترويت مراقبة الوجه، حيث يجري مسح الفيديو المباشر من الكاميرات الموجودة في الشركات والمدارس والعيادات الصحية والمباني السكنية، وربطها بمقار الشرطة، ولهذا يضعون إشارة ضوئية خضراء ساطعة بجوار الكاميرات للإشارة إلى أنها جزء من شبكة الشرطة.
كما شهدت مناطق عدة في الولايات المتحدة، تزايد الاعتماد على الكاميرات الأمنية المنزلية الذكية، والتي تعمل تحليلات الفيديو القائمة على الذكاء الاصطناعي على تعزيز كفاءتها، غير أن هذا الانتشار الواسع لكاميرات المراقبة يثير عدداً من المشكلات المتعلقة بالخصوصية، وفقاً لما ذكره تقرير صادر عن اتحاد الحريات المدنية الأميركية في ولاية يوتا، والذي أشار إلى أن مشكلات الخصوصية تتزايد مع تسجيل مزيد من الكاميرات التي تلتقط تفاصيل أوضح لحياة الناس اليومية.
وما يزيد من الجدل أن قطاعات الصناعة الأميركية الرئيسة أصبحت تثق أكثر في المراقبة كوسيلة أفضل لتغيير سلوك الموظفين بهدف تحقيق نتائج أفضل، على الرغم من أن أساليب مراقبة الشركات، يكون لها آثار سلبية للغاية على الموظفين، ما أدى إلى ظهور مشكلات الخصوصية وزيادة التوتر وفقدان الإحساس بالهوية.
وسائل تتبع كثيرة
لا تقتصر وسائل التتبع على كاميرات المراقبة ونظم التعرف على الوجه، فهناك كثير من الوسائل التي تُستخدم في تتبعك، حتى لو لم يبحث عنك أحد، أو لم تكن مرصوداً بسبب سلوك مريب، حيث يمكن لقواعد البيانات المختلفة، ربط بيانات الموقع الذي توجد به من خلال الهاتف الذكي الذي تحمله، وعبر قارئات لوحات الترخيص (اللوحات المعدنية للمركبات والسيارات)، فضلاً عن كاميرات المراقبة وتقنية التعرف على الوجه، لذلك إذا أرادت أجهزة إنفاذ القانون تتبع مكانك وأين كنت، فسيمكنهم ذلك، وإذا تمكنوا من الحصول على أمر قضائي فسيتمكنون أيضاً من استخراج وتحليل جميع بياناتك.
وحتى من دون أمر قضائي، يمكن لوكالات إنفاذ القانون الفيدرالية والمحلية تتبعك من خلال شركات خاصة تعمل كوسطاء بيانات تساعد في مراقبة المواطنين، بحسب ما يشير بيتر كراب أستاذ الإعلام في جامعة كاليفورنيا - إيرفين، فمع تضخم سوق البيانات الشخصية التي يتم تجميعها من المعلومات التي يتطوع بها الأشخاص، وتلك التي يقدمها الأفراد عن غير قصد، عبر تطبيقات الهواتف والأجهزة المحمولة، أو من خلال المعلومات المسروقة من عمليات اختراق البيانات، تحصل الأجهزة الأمنية على المعلومات من الشركات الوسيطة باعتبارهم عملاء لها.
كيف يتم تعقبك؟
سواء كنت تمر تحت أنظار كاميرا مراقبة أو قارئ لوحة معدنية لسيارتك أم لا، فسيتم تعقبك من خلال هاتفك المحمول، إذ يقوم نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" بإعلام تطبيقات الطقس أو خرائط موقعك، وتستخدم شبكات "الواي فاي" موقعك أيضاً، وتتبع الأبراج الخلوية هاتفك، فضلاً عن أنه يمكن للبلوتوث التعرف على هاتفك الذكي وتتبعه.
وعلاوةً على ذلك، فإن بعض الأشخاص يتطوعون بمواقعهم خلال مشاركة الركوب عبر تطبيقات شركات التوصيل مثل "أوبر" و"ليفت"، وغيرهما، أو من خلال بعض الألعاب مثل "بوكيمون جو" أو "إنغريس"، ومع ذلك، يمكن لهذه التطبيقات أيضاً جمع ومشاركة موقعك دون علمك، كما يتميز عديد من السيارات الحديثة بتقنيات المعلومات التي تتعقب المواقع، مثل "أونستار" أو "بلولينك".
من يتحدث إلى من؟
تتشارك أجهزة الهاتف المحمول مع الشبكة المستخدمة، المعلومات حول الأشخاص الذين اتصلت بهم، ومتى فعلت ذلك، ومدة الاتصال ونوع الجهاز الذي تم استخدامه، وليس هذا بجديد، فمنذ أكثر من عقد كشف إدوارد سنودن، المُبلغ عن المخالفات في وكالة الأمن القومي الأميركية، عن أن الوكالة كانت تجمع البيانات الوصفية للمكالمات الهاتفية التي يجريها للأميركيون بكميات كبيرة من أجل تعقب الإرهابيين، الأمر الذي أثار قدراً كبيراً من الذعر العام لدى الشعب الأميركي، بسبب القلق من فقدان الخصوصية.
وأظهر باحثون في جامعة ستانفورد لاحقاً أن سجلات تفاصيل المكالمات، إضافة إلى المعلومات المتاحة عن الجمهور يمكن أن تكشف عن معلومات حساسة، مثل ما إذا كان شخص ما يعاني مشكلة في القلب، وكان جهاز مراقبة عدم انتظام ضربات القلب معطَلاً.
ويمكن أن تكشف معلومات الإرسال في الاتصالات القائمة عبر الإنترنت، أكثر مما تفعله سجلات تفاصيل المكالمات، فعند إجراء مكالمة صوتية مشفرة عبر الإنترنت، قد تكون المحتويات مشفرة، ولكن المعلومات الموجودة في رأس حزمة بروتوكول الإنترنت (آي بي) يمكن أن تكشف أحياناً عن بعض الكلمات التي تتحدثها.
مراقبة ما تكتب من دون إرسال
التتبع أيضاً ملحوظ للجميع عبر الإنترنت، إذ تتميز معظم مواقع الويب بتتبع الإعلانات وملفات تعريف ارتباط الطرف الثالث، والتي يتم تخزينها في متصفحك كلما زُرت أي موقع، حيث يتعرفون عليك عندما تزور مواقع أخرى حتى يتمكن المعلنون من متابعتك، بل إن بعض مواقع الويب يستخدم أيضاً خاصية تسجيل المفاتيح، والتي تراقب ما تكتبه في الصفحة وحركات الماوس والنقرات، حتى إذا لم تنقر على إرسال.
وتعرف متتبعات الإعلانات، متى تصفحت الموقع، والمتصفح الذي استخدمته، وعنوان الإنترنت لجهازك، ويُعد كل من "فيسبوك" و"غوغل" من بين المستفيدين الرئيسين لمتتبعات الإعلانات، ولكنّ هناك عديداً من وسطاء البيانات الذين يفرزون هذه المعلومات ويصنفونها حسب الدين والعرق والانتماءات السياسية وملفات تعريف وسائل التواصل الاجتماعي والدخل والتاريخ الطبي، وكل ذلك بهدف تحقيق الربح.
الأخ الأكبر في القرن 21
في رواية "1984" الشهيرة، التي كتبها جورج أورويل ونشرها عام 1948، وصف دولة تخيلية مستقبلية تراقب كل تصرفات مواطنيها حتى داخل منازلهم، وتذكّرهم دوماً بأن "الأخ الأكبر يراقبهم". وكأن أورويل كان يرى، ولو جزئياً، ما ستصل إليه البشرية، لكن في القرن الحادي والعشرين، يبدو "الأخ الأكبر" مختلفاً بعض الشيء، ففي حين يوافق بعض الأشخاص ضمنياً على فقدان بعض الخصوصية لمصلحة الأمن الذي يتصورونه أو الأمن الحقيقي، مثل الأمن في التجمعات الجماهيرية، وفي الملاعب، وعلى الطريق وفي المطارات، فإن هذه المقايضات تفيد الأفراد بدرجة أقل بكثير من الشركات والوكالات الحكومية التي تجمع البيانات.
وعلى سبيل المثال، فإن عديداً من الأميركيين، الذين يشكون في إحصاءات التعداد السكاني الحكومية، يشاركون عن طيب خاطر في الإدلاء ببياناتهم حين ينخرطون في تمارين الركض على تطبيقات، مثل "سترافا" لتتبع التمارين البدنية، ومع ذلك كشفت هذه المعلومات عن بيانات عسكرية حساسة وسرية، لكن في المقابل أُثير بعض المخاوف عقب إلغاء حق الإجهاض في الولايات المتحدة، في شأن تطبيقات تتبع البيانات التي تربط الوجود الجسدي للسيدات الراغبات في إجراء الإجهاض في ولاية أخرى، بعمليات البحث عبر الإنترنت وبيانات الهاتف، ما يثير تساؤلات حول مَن يمكنه الوصول إلى بيانات التتبع في الولايات التي تحظر الإجهاض؟
وفي عام 2019، قامت وزارة الصحة بولاية ميسوري بتخزين بيانات حول الفترات التي يقضيها المرضى في عيادة تنظيم الأسرة الوحيدة بالولاية، وربطها بالسجلات الطبية للولاية، والتي يمكن أن تكشف بيانات وصفية للاتصالات مثل مَن الشخص الذي يتصلون به، ومتى كان هذا الاتصال ومن أي مكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكثر المتتبعين
وتتيح البيانات المتوفرة على التطبيقات الموجودة على مئات الملايين من الهواتف، تتبع وزارة الأمن الداخلي في أميركا للأشخاص، ومن بين هذه التطبيقات، الأجهزة الصحية القابلة للارتداء التي تشكل أخطاراً كبيرة، إذ يشير الخبراء الطبيون إلى نقص الوعي بأمان البيانات التي يجمعونها، مثل ساعة "فيتبيت" للياقة البدنية.
أكثر مستخدمي التتبع انتشاراً في الولايات المتحدة هي إدارة الهجرة والجمارك المعنية بحماية الولايات المتحدة من الجرائم العابرة للحدود والهجرة غير الشرعية، والتي جمعت قدراً هائلاً من المعلومات، من دون إشراف قضائي أو تشريعي أو عام، حيث أبلغ مركز الخصوصية والتكنولوجيا التابع لمركز القانون بجامعة "جورج تاون" عن كيفية قيام إدارة الهجرة والجمارك بالبحث في صور رخصة القيادة لنحو 32 في المئة من جميع البالغين في الولايات المتحدة، وتتبع السيارات في المدن التي يسكنها 70 في المئة من البالغين، وتحديث سجلات العناوين لنحو 74 في المئة من هؤلاء البالغين.
هل يمكن منع التتبع؟
من الممكن الحد من تتبع موقعك على هاتفك، ولكن ليس تماماً، إذ من المفترض أن يقوم وسطاء البيانات بإخفاء بيانات التعريف الشخصية الخاصة بك قبل بيعها، لكن "إخفاء الهوية" لا معنى له، حيث يمكن التعرف على الأفراد بسهولة عن طريق الإحالة المرجعية لمجموعات البيانات الإضافية، والتي تجعل من السهل إساءة استخدام النظام.
ولأن الهواتف الذكية هي أجهزة كمبيوتر، ولديها عديد من أجهزة الاستشعار، فإن تعقبك من خلالها قد يكون لا مفر منه، حتى لو أغلقت خاصية نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، وفقاً لأستاذة الأمن السيبراني، في جامعة "تافتس" سوزان لانداو، والسبب في ذلك هو أنه لكي يعرض هاتفك المعلومات بشكل صحيح، فإنه يحتوي على أجهزة استشعار متعددة مثل "جيروسكوب" ومقياس للتسارع ومقياس للمغناطيسية، وهي أجهزة تستخدم بياناتها في تتبع المكان الذي تتجه إليه.
خطر خرق البيانات
ينشأ الخطر الأكبر الذي يواجه معظم الأشخاص، عندما يكون هناك خرق للبيانات، والذي يحدث في كثير من الأحيان عبر تسريبها من أحد التطبيقات أو اختراق مكتب ائتمان أو وكالة إدارة المركبات، وهي وكالة حكومية تدير تسجيل المركبات وترخيص القيادة، أو اختراق وسيط سمسرة البيانات الذي يتم تخزينه على السحابة الإلكترونية.
ولا يعرّض هذا الخصوصية للخطر فحسب، بل قد يعرّض عناوينك وأرقام جوازات السفر والبيانات الحيوية وملفات تعريف الوسائط الاجتماعية وأرقام بطاقات الائتمان ومعلومات الصحة والتأمين، وغيرها، للبيع.
تشريعات الحماية
لا يوجد قانون خصوصية أميركي واحد على المستوى الفيدرالي، لكن الولايات تتعامل مع خليط من الإجراءات والقوانين التنظيمية، بينما لا تتوافر قوانين الخصوصية سوى في خمس ولايات فقط، هي كاليفورنيا وكولورادو وكونيتيكت ويوتا وفيرجينيا.
ومع اتخاذ مزيد من الولايات خطوات نحو تمرير قوانين تتعلق بخصوصية البيانات، يظل الدعم الشعبي للكونغرس من أجل تمرير معيار وطني قوياً، حيث قال 83 في المئة من الناخبين إنه يجب أن يكون أولوية "عُليا" أو مهمة.
وبينما يواصل الكونغرس مشاوراته حول إطار عمل وطني في هذا الشأن، أخذت الولايات الأمور على عاتقها، إذ قدمت 20 ولاية على الأقل مشاريع قوانين خصوصية خاصة بها خلال الأشهر القليلة الماضية وفقاً للرابطة الدولية لخبراء الخصوصية.