يقدم المرشحان اللذان يتنافسان على منصب رئيس الوزراء المقبل للمملكة المتحدة وعوداً كبيرة في شأن إنقاذ اقتصاد البلاد، لكن الأوضاع الحالية والبيانات المتاحة تشيران إلى أن المهمة لن تكون سهلة.
ريشي سوناك وليز تراس يخوضان السباق النهائي على زعامة حزب المحافظين، بالتالي ليحل أحدهما محل بوريس جونسون بعد استقالته في وقت سابق من هذا الشهر، لكنهما يواجهان صراعاً شاقاً لإنعاش اقتصاد يكافح تضخماً قياسياً ونمواً ضعيفاً ونقصاً في العمالة.
ابتداءً من العام الماضي أدى الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة وأزمة سلاسل التوريد إلى زيادة التضخم العالمي، إذ خرجت اقتصادات العالم من عمليات الإغلاق الوبائي. وأدى الهجوم الروسي على أوكرانيا في أواخر فبراير (شباط) الماضي إلى تفاقم الوضع. ومع ذلك، فإن المشكلات الاقتصادية للبلاد أعمق بكثير من أزمات العامين الماضيين، إذ من المتوقع أن يشهد الاقتصاد البريطاني ركوداً في العام المقبل، مع نمو صفري في عام 2023، وهو أسوأ أداء متوقع في مجموعة السبع، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ووعد سوناك وتراس بمعالجة التضخم لمساعدة الأسر المثقلة بأعباء أسوأ أزمة غلاء معيشة منذ عقود. وقال كلاهما إنهما سيخفضان الضرائب - وإن كان ذلك على نطاقات زمنية مختلفة للغاية - ويعيدان تقييم علاقة المملكة المتحدة مع أكبر شريك تجاري لها، وهو الاتحاد الأوروبي.
لكن أستاذ الاقتصاد المشارك في كلية لندن للاقتصاد إيثان إيلزيتزكي يعتقد أن النقاش حول القيادة لا يزال "منفصلاً" عن طبيعة وحجم التحديات الاقتصادية، فالركود الذي استمر لعقد من الزمان في مستويات الإنتاجية لن يتم حله بسهولة. أضاف، "ليس لدى أي منهما خطة حقيقية باستثناء خفض الضرائب. الأمر كله يتعلق بمستوى الضرائب. هذه أسئلة مهمة، لكن لا يوجد حل سهل في ما يتعلق بخفض الضرائب للمشكلات العميقة التي نواجهها هنا".
في حين أن بعض الصعوبات التي يعانيها خامس أكبر اقتصاد في العالم ستكون إلى حد كبير خارج سيطرة سوناك أو تراس، فقد قدما وعوداً جريئة للبريطانيين، لكن إلى أي حد يمكنهما إنعاش الاقتصاد البريطاني الذي يعاني سلسلة أزمات حادة وخانقة؟
"نحن نستورد" التضخم المرتفع
وفق بيان حديث، قال وزير المالية السابق للحكومة سوناك إن معالجة التضخم أكبر أولوياته، فقد سجل تضخم أسعار المستهلكين السنوي في المملكة المتحدة أعلى مستوى له في 40 عاماً الشهر الماضي ليصل إلى 9.4 في المئة. وهذه هي أسرع زيادة بين دول مجموعة السبع، لكن خياراته محدودة، إن لم تكن معدومة، بالنظر إلى مدى تعرض المملكة المتحدة بصفتها مستورداً رئيساً للوقود لأسعار الطاقة العالمية.
يقول الاقتصادي لدى "دويتشه بنك" سانجاي راجا، "إننا نستورد هذا التضخم". وقد رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة خمس مرات منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي في محاولة لترويض الأسعار المتصاعدة. ومن المتوقع أن يصل التضخم إلى 11 في المئة في وقت لاحق من هذا العام، وهو ما يقلص من قدرة إمكانية ترويض الأسعار خلال الفترة المقبلة.
وقال راجا، "لا تستطيع المملكة المتحدة كاقتصاد صغير ومنفتح، أن تفعل كثيراً، إنها لا تستطيع توفير وتعويض هذه السلع للحد من الزيادة في الأسعار لتعويض هذا التضخم". وتنفق الدولة على استيراد السلع أكثر مما تجنيه من صادراتها. وساعد ارتفاع تكاليف الوقود المملكة المتحدة على زيادة العجز التجاري بنسبة 8.3 في المئة، وهو أكبر عجز منذ أن بدأ مكتب الإحصاء الحكومي في حفظ السجلات في عام 1955. أضف إلى ذلك ضعف العملة، حيث فقد الجنيه الاسترليني ما يقرب من 12 في المئة من قيمته مقابل الدولار الأميركي منذ بداية هذا العام، ويمكن للدولة أن تتوقع زيادة تكاليف وارداتها، بينما يمكن أن تصبح صادراتها أكثر تنافسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول المديرة المؤقتة في "بروغل" ماريا دمرتزيس، وهي مؤسسة فكرية اقتصادية، "هناك أموال كثيرة تنفق تتجاوز إجمالي العائدات والدخل العام بكثير". وأشارت إلى أن المملكة المتحدة غطت بشكل فعّال في مدخراتها لمساعدتها على امتصاص صدمات الأشهر القليلة الماضية، وهذه مشكلة فقط إذا استمرت لفترة أطول.
لكن أسعار الطاقة العالمية لا تظهر بوادر تذكر على التباطؤ في المدى القريب. فقد أدت تكاليف الغاز الطبيعي بالجملة المذهلة إلى ارتفاع فاتورة الطاقة السنوية لملايين المنازل في المملكة المتحدة بنسبة 54 في المئة هذا العام. ومن المتوقع أن ترتفع الفواتير مرة أخرى في الخريف لتصل إلى 3000 جنيه استرليني (3572 دولاراً)، وفقاً لشركة أبحاث الطاقة "كورنوال إنسايت".
وقد شد البريطانيون أحزمتهم رداً على ذلك، إذ أنفقوا أقل في محلات البقالة وتخلوا عن اشتراكات البث المباشر. وأظهرت بيانات رسمية هذا الأسبوع، أن الأجور الحقيقية - أجور العمال التي تأخذ التضخم في الاعتبار - عانت أكبر انخفاض لها منذ أكثر من عقدين بين مارس (آذار) ومايو (أيار) الماضيين.
خفض الضرائب يعني خفض الإنفاق العام
فيما تأمل تراس في تقديم شريان حياة للعمال والشركات، ووعدت بخفض ضرائب الدخل وإلغاء زيادة الضرائب المخطط لها على الشركات العام المقبل، لكن زيادة الإنفاق يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التضخم وتقويض جهود بنك إنجلترا لإبطاء الاقتصاد لترويض الزيادات الجامحة في الأسعار. كما وعد سوناك بخفض الضرائب، ولكن بمجرد السيطرة على التضخم.
وقدر معهد الدراسات المالية "آي أف أس"، أن إجمالي التخفيضات الضريبية التي أجرتها تراس ستصل إلى 30 مليار جنيه استرليني (36 مليار دولار). ولم تضع أي خطط لكبح جماح الإنفاق العام لتعويض انخفاض الإيرادات الضريبية. وهي رسالة جذابة للملايين الذين يكافحون لتغطية نفقاتهم، لكن منتقديها يقولون إن هذه الخطوات ستزيد من التضخم وتزيد الدين العام، الذي يسير على الطريق الصحيح ليصل إلى 100 مليار جنيه استرليني (120 مليار دولار) هذا العام.
وفي يونيو (حزيران) الماضي دفع التضخم مدفوعات فوائد الدين العام إلى أعلى مستوى منذ أن بدأت الحكومة في الاحتفاظ بالسجلات قبل 25 عاماً. وقالت مؤسسة الخدمات المالية في مذكرة بحثية حديثة، "بالتأكيد، خفض ضريبة الدخل سيعزز الحوافز لدخول العمل وكسب مزيد، على الرغم من أن هذه التأثيرات لن تكون كافية تقريباً لجعل الإصلاح يدفع لنفسه". وقال معهد الدراسات المالية، "خفض الضرائب يعني انخفاضاً في الإنفاق العام".
الاقتصاد يعاني تراجع الإنتاج
وعلى الرغم من الارتفاع الطفيف في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة في مايو الماضي، فإن المخاوف من انزلاق البلاد إلى الركود لم تختفِ بعد. ومع ذلك، فإن أحد أكبر محركات النمو، وهي الإنتاجية، تعاني من الركود منذ الأزمة المالية في عام 2008.
قال الاقتصادي الأوروبي والبريطاني في بنك "يو بي أس" دين تيرنر، "يكمن جوهر النمو الاقتصادي في نمو الإنتاجية. تقيس الإنتاجية الناتج لكل وحدة من رأس المال أو العمالة أو المدخلات الأخرى". ووفقاً لمكتب الإحصاء الوطني، وفي العقد حتى عام 2007، نما إنتاج المملكة المتحدة لكل ساعة عمل بمعدل 1.9 في المئة في المتوسط كل عام، لكنه انخفض إلى 0.7 في المئة في العقد الذي تلا الأزمة المالية، وهذا هو ثاني أبطأ نمو في مجموعة الدول السبع بعد إيطاليا.
ويرى تيرنر أن المملكة المتحدة ستحتاج إلى "إعادة التفكير في نموذجها الاقتصادي الكامل" لتعزيز الإنتاجية. وأضاف، "حقيقة الأمر هي أننا لا نقوم باستثمارات كافية، ولا نقوم بما يكفي من البحث والتطوير في المملكة المتحدة، وهذا أمر يعوق نمو إنتاجيتنا". وستكون الإنتاجية الأعلى فرصة جيدة للعمال، كما يمكن للشركات أن تنتج مزيداً للعدد نفسه من الموظفين، وأن تدفع لهم رواتب أعلى.
في تقريرها الشهري، قالت مؤسسة "ريزوليوشن"، إنه على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم، فإن متوسط الأجور ليس أعلى اليوم مما كان عليه قبل عام 2008. وأوضحت أن مزيداً من الاستثمار في الابتكار والبحث والتطوير وتوفير التدريب الوظيفي للقوى العاملة من شأنه أن يقطع شوطاً في تعزيز الإنتاجية، فضلاً عن تشجيع الهجرة. ومع ذلك، لا يوجد أي مقترح من مقترحات تراس وسوناك "سيضع ولو تأثير طفيف في التحديات الهيكلية العميقة التي تواجهها المملكة المتحدة".