يقال في مستويات مختلفة في العالم العربي أن هذا السياسي ليبرالي أو أن كاتب مقالة رأي في الصحيفة يحمل آراءً ليبرالية، أو أن هذا الحزب أو تلك السلطة ليبرالية أو تدعو إلى انتهاج الليبرالية سياسة وفكراً وتطبيقاً، على أن نبع الليبرالية المفترضة هذه هو الولايات المتحدة تليها الدول الأوروبية، وهي التي تقف في مواجهة الأنظمة الشمولية أو التوتاليتارية الشمولية أو نظام الحزب الواحد، كما في الصين وروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، أو الأنظمة الثيوقراطية الدينية كما النظام الإيراني.
ما معنى "الليبرالية"؟
استخدام عبارة "الليبرالية" غالباً ما يطابق في العالم العربي، الشخص المؤثر أو صاحب الرأي أو الحزب أو الحكومة أو الحاكم الذي يدعو إلى حرية الرأي والتعبير وإلى تطبيق الديمقراطية العددية كوسيلة للحكم، والذي يدعو إلى الازدهار والنمو والتقدم على حساب العقائد النهائية والتي ترى أنها أوجدت حلولاً نهائية لمشكلات الإنسان، والليبرالي هو الذي يعتبر أن أصل قوانين الطبيعة وقوانين الحياة ومسارها هو ليبرالي حر، وما التدخل في هذا المسار ولأي سبب من الأسباب إلا تدخلاً في المسار الليبرالي الطبيعي الذي يفرضه توازن القوى والمصالح داخل الدول، كما تُصنع الانتصارات السياسية في الولايات المتحدة وانجلترا، أي أن المرشح لمنصب حساس ومهم ما عليه إلا أن ينافس خصمه بالدعوة إلى الليبرالية، إلا في حال الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تخلى عن جزء من الليبرالية في موضوع التأمين الصحي الطبي للأميركيين فوقف بوجهه الجمهوريون ومنظمات صحية أميركية كبرى وذوي المصالح والنفوذ، وبقي مشروعه لمدة طويلة محل رد وصد تحت شعار الليبرالية، أي رفض تدخل الدولة في أي من شؤون مواطنيها الذين يجب أن يخضعوا لقوانين السوق التي تنص غالباً على جملة آدم سميث الشهيرة "دعه يعمل، دعه يمر"، والتي تفيد بأن من يعمل يحصل على حقوق غير مقدسة ولا ثابتة أو مسلم بها، بل يحصل على قدر عمله من فوائد السوق الاقتصادي الحر.
والفرق في هذه الخطوة مع النظام الشيوعي مثلاً أنه يختصر بجملة "من كل بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته"، وهذا ما يرفضه الليبراليون اقتصادياً، أي أن يعمل شخص ليحصل آخر على فوائد عمله، بهدف أن يحصل الجميع في المجتمع الشيوعي على التقديمات نفسها، مهما كان نوع عملهم، فيصبح الأستاذ الجامعي اللامع في الطبقة الاجتماعية نفسها، ويحصل على التقديمات نفسها التي يحصل عليها عامل النظافة مثلاً.
الأممية الليبرالية: السلام والحرب والديمقراطية
ولكن الليبرالية يمكن نقاشها أيضاً في مستوياتها الفكرية التي نشأت عنها، وذلك بعدم اعتبارها تطبيقاً لقوانين الطبيعة، بل فكرة بذاتها اخترعها البشر في مرحلة ما من مراحل تقدمهم وتكاثرهم على سطح الكوكب الأزرق، وبالتالي يمكن لليبرالية نفسها أن تخضع للنقاش في إيجابياتها وسلبياتها، فكيف الحال لو طال النقاش موضوعي الحرب والسلام بحسب الليبرالية، ومتى تكون الحرب واجبة ومتى يكون السلم هو المطلوب والمفروض، وهذه أمور كلها تخضع للنقاش في المجتمعات الليبرالية اليوم، وتحديداً بعد حرب أوكرانيا التي وضعت المجتمعات الأوروبية والغرب عموماً أمام أسئلة كثيرة تبدأ بالاقتصاد وتصل إلى النظم السياسية الغربية نفسها، وأحد هذه النقاشات فتحه مايكل دبليو دويل الذي شغل منصب الأمين العام المساعد والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان، وتضمنت مسؤولياته المكتب التنفيذي للأمين العام والتخطيط الاستراتيجي والتواصل مع قطاع الشركات الدولية والعلاقات مع واشنطن، ويشغل دويل حالياً منصب رئيس المجلس الأكاديمي لمجتمع الأمم المتحدة، وهو منظر ليبرالي مؤلف "السلام الديمقراطي" و"الليبرالية والسياسة العالمية".
وبرأي دويل فقد تم تكريس فكرة أن السلام والديمقراطية هما وجهان لعملة واحدة، وقال إنه في خطاب ألقاه أمام البرلمان البريطاني في يونيو (حزيران) 1982 أعلن الرئيس رونالد ريغان أن الحكومات القائمة على احترام الحرية الفردية تمارس "ضبط النفس" و"النيات السلمية" في سياستها الخارجية، ثم أعلن بعد ذلك، ربما غير مدرك للتناقض، "حملة صليبية من أجل الحرية وحملة من أجل التنمية الديمقراطية.
في رأي دويل أنه عبر تقديم هذه المفاهيم المتناقضة انضم الرئيس إلى قائمة طويلة من المنظرين الليبراليين وردد صدى حجة قديمة تفيد بأن الغرائز العدوانية للزعماء الاستبداديين والأحزاب الحاكمة الشمولية هي التي تصنع الحرب، أما الوجه الآخر لهذه الحجة فهو أن الدول الليبرالية التي تأسست على حقوق فردية مثل المساواة أمام القانون وحرية التعبير والحريات المدنية والملكية الخاصة والتمثيل الانتخابي هي في الأساس ضد الحرب، والنتيجة هي أنه بمجرد وجود الدول الليبرالية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما سيؤدي ذلك إلى السلام.
السلمية الليبرالية
لا يوجد وصف قانوني لليبرالية، وبرأي دويل فإن "ما نميل إلى تسميته ليبرالية يشبه صورة عائلية للمبادئ والمؤسسات" ومنها الالتزام بالحرية الفردية والحكم من خلال التمثيل الديمقراطي وحقوق الملكية الخاصة وتكافؤ الفرص".
وقدّم كتاب "علم اجتماع الإمبريالية" لجوزيف شومبيتر الذي نشر عام 1919، حجة متماسكة ومستمرة في ما يتعلق بالآثار غير العدوانية للمؤسسات الليبرالية، وعلى عكس بعض المنظرين الليبراليين السابقين رأى شومبيتر أن تفاعل الرأسمالية والديمقراطية هو أساس السلم الليبرالي، ويقترح أن الرأسمالية تنتج نزعة غير حربية، لأن الشعوب الديمقراطية فردانية وعقلانية، ويتم في الأنظمة الليبرالية امتصاص طاقة الناس في الإنتاج اليومي بعد تدريبهم جيداً وتعليمهم في مراحلهم الدراسية على "العقلانية الاقتصادية"، وفي النهاية يرى شومبيتر بأن الشخص العقلاني يطلب نظام حكم ديمقراطي ليبرالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان تفسير شومبيتر للسلام الليبرالي بسيطاً، فبرأيه أنه طالما أن المستفيدين من الحروب هم الأرستقراطيون والعسكريون ورجال الأعمال فلن تسعى أي ديمقراطية إلى تحقيق مصالح الأقلية وتتسامح مع الكلف الباهظة للتوسع الرأسمالي، أي أن تفاؤل المفكر الألماني قائم على اعتقاده بأن الجماعة الديمقراطية الشعبية يمكنها أن تحدد مصالحها، وغالباً ما تكون هذه المصالح ضد الحرب التي تستفيد منها أقلية قليلة من المتحكمين بزمام الأمور.
في تناقض مع وجهة النظر السلمية التي يحملها هذا المفكر وقبله الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط، صاحب النظريات الفلسفية الداعمة لعالم موحد قائم على المصالح السلمية بين الشعوب، يجادل نيكولو مكيافيلي بأن الجمهوريات الحرة ليست فقط سلمية، بل هي أفضل شكل للتوسع الإمبراطوري لأي دولة طموحة"، أي بإيراد النقيضين معاً السلم والحرب.
لكن الباحث الأميركي دويل يعتقد بأن جمهورية مكيافيلي هي جمهورية مختلطة كلاسيكية ستتحول بسرعة إلى الطغيان، لأن الناس بحاجة إلى إدارة من قبل قلة، وهكذا تتوسع صلاحيات الحاكم أو مجلس الشيوخ والقناصل، ويتم توظيف الدين لإدارة الموارد التي توفرها طاقة الشعب. والمواطنون الأحرار يجهزون الجيوش الكبيرة ويقدمون الجنود الذين يقاتلون من أجل المجد العام والصالح العام ولحماية ممتلكاتهم التي منحتهم إياها الليبرالية، وعليه فالليبرالية تجلب السلم والازدهار، فيكون عليها أن تؤمن جيشاً قوياً يحمي السلم والازدهار بل ويدفع نحو التوسع أيضاً، وهو ما يتناقض مع فكرة الليبرالية الأساس.
يقول مكيافيلي، "نحن عشاق المجد نسعى إلى الحكم أو على الأقل لتجنب الاضطهاد، وفي كلتا الحالتين نريد لأنفسنا أكثر من مجرد الرفاهية المادية إنما التوسع أيضاً لمنع تهديد نظمنا التي اخترناها".
قد يكون للغياب الواضح للحرب بين الدول الليبرالية ما يقرب من 200 عام، سواء كانت متجاورة أم لا، أهمية تنظيرية كبيرة تدفعنا إلى التفكير في إمكان قيام النظم الليبرالية بتأسيس سلام عالمي فعلي منفصل، أي في ما بينها فقط، خصوصاً وأن الدول الليبرالية تعرضت إلى الهجوم والتهديد من قبل الدول غير الليبرالية التي لا تمارس أي ضبط خاص في تعاملاتها، وهكذا ميزت الحروب والغزوات الحياة المهنية للعديد من الحكام المستبدين والأحزاب الحاكمة من لويس الـ 14 ونابليون بونابرت إلى فاشيي بينيتو موسوليني ونازيي أدولف هتلر وشيوعيي جوزيف ستالين.
لكن عدوان الدولة الليبرالية قد طبع أيضاً عدداً كبيراً من الحروب، فقد خاضت كل من فرنسا وبريطانيا حروباً استعمارية توسعية طوال القرن الـ 19، وخاضت الولايات المتحدة حرباً مماثلة مع المكسيك (1846-1848)، وشنت حرب إبادة ضد الهنود الأميركيين وتدخلت عسكرياً ضد دول ذات سيادة مرات عدة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية.
ويختم دويل مقاربته لليبرالية ومصالحها بالنتيجة التي وصل إليها وهي "أن اليقين شبه المؤكد من الدمار المتبادل الناتج من حرب نووية بين القوى العظمى أدى إلى تقييد الميل نحو سوء التقدير الذي كان موجوداً عند اندلاع العديد من الحروب في الماضي، لكن يبدو أن هذا "السلام النووي" كان مقصوراً على القوى العظمى، ولم يحد من التدخلات العسكرية في العالم الثالث.
وعليه يبدو أنه لا يزال علينا أن نتعامل مع حمى الحروب وأمزجة الاسترضاء التي اجتاحت الديمقراطيات الليبرالية، وهذا ما يتطلب تحسين الفطنة الاستراتيجية لسياستنا الخارجية، وتقديم حسابات استراتيجية أكثر ثباتاً للمصالح الوطنية على المدى الطويل واستجابات أكثر مرونة للتغيرات في البيئة السياسية الدولية.