في عام 1852، نشرت صحيفة "نيويورك ديلي تايمز" (سابقاً) رواية بعنوان "حياة جاك إنجل ومغامراته" متسلسلة في ستة أجزاء، وهذا في الفترة ما بين 14 مارس (آذار) و18 أبريل (نيسان)، لكنها لم تلقَ الاستجابة المنشودة من القراء الذين كانوا يدفعون اشتراكاً للصحيفة الناشئة، قيمته "6 سنتات وربع في الأسبوع"، وسرعان ما سقطت هي ومؤلفها المجهول في طي النسيان.
النسخة الوحيدة
بعد أكثر من قرن ونيف من التاريخ السابق، وبينما كان الباحث الأدبي زاكاري توربين من جامعة هيوستن يطالع أوراق والت ويتمان التي تحتوي تدويناته ومخطوطاته ودفاتره، برزت من بين القصاصات بعض الأسماء مثل كوفرت، جاك أنجل، ويغلزورث، وسميث، فأحس بأنه على وشك اكتشاف جديد وهو الذي كشف من قبل كتاب ويتمان الغريب "الصحة الذكورية والتدريب" عبر دليل عثر عليه بين أوراقه يتناول كل شيء من الرجولة مثل العناية بالقدم والتمارين الرياضية للشاعر الذي ضرب كل القوالب الشعرية القديمة بعرض الحائط، وكان أول أميركي في زمنه يحوز إعجاب كل من الأميركيين والأوروبيين على السواء.
في عام 2016 قاد البحث المضني لزاكاري توربين في أرشيف المجلات إلى إشعار صغير من عام 1852 في صحيفة "نيويورك ديلي تايمز" ، يعلن عن نشر الرواية متسلسلة. كان على توربين أن يتبع مساراً ورقياً في عمق مكتبة الكونغرس، حيث النسخة الوحيدة الباقية من جاك إنجل تنتظره هناك منذ عقود طويلة. لم ينخدع توربين باسم المؤلف المجهول لأن أحداثها ببساطة تتطابق مع الملخص التفصيلي في دفتر ملاحظات الشاعر الشهير بما لا يدع أي مجال للشك.
يقول توربين، "شيء ما بخصوص هذا الموضوع بدا صحيحاً: اسم جاك إنجل والسنة والصحيفة (التي نعلم أن ويتمان أسهم فيها من قبل). جاءت النقطة الفاصلة عند مطابقة أسماء الشخصيات من دفتر ويتمان مع تلك الموجودة في القصة المنشورة". ويضيف، "لم أصدق أنني كنت لبضع دقائق الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي يعلم بهذا الكتاب".
هل ضحى ويتمان بالرواية لأجل الشعر؟
عرف والت ويتمان بسفره الوحيد الضخم "أوراق العشب" الذي يعد علامة فارقة في الأدب الأميركي والعالمي، وفيه قام بنشر أشعاره على نحو تراكمي، بحيث تختلف كل طبعة عن سابقتها بما يسمح بتجديد الدماء في إصداره الوحيد أولاً بأول. استغرق الأمر من مؤلفه البديع هذا نصف قرن تقريباً، توسع خلالها في كل اتجاه ليصبح الكتاب قارة بأكملها، وتتجاوز قصائده في نسخته النهائية 400 قصيدة.
لكن سفر "أوراق العشب" الشعري لم يكن البداية كما يبدو، بل بالأحرى كان بمثابة الحصاد الذي لم ينعم به صاحبه إلا بعد مروره على أجناس أدبية عدة مثل القصة والرواية. في سن الثلاثين اتخذ ويتمان من الروايات الشعبية والقصص القصيرة وسيلة لكسب قوت يومه، وصادف بالفعل نجاحاً يشجعه على المضي إلى الأمام، حتى أن روايته "فرانكلين إيفانز" 1842، وهي محاولة مبكرة كرهها لاحقاً، باعت 20000 نسخة، مما جعلها أكثر الأعمال الأدبية مبيعاً في حياته. لكن معظم هذه الأعمال التجارية نشرت بأسماء مستعارة، وحتى تلك التي صدرت باسمه انقسمت بين ما نشر تحت اسم "والتر ويتمان" والأعمال الناضجة تحت اسم "والت" بحذف الراء. وكأننا بإزاء رجل يقيم نفسه بنفسه مؤرخاً لتحولاته على مستوى الكتابة والشخصية بما يعفيه من السؤال المثار الآن بشأنه، "لماذا ترك ويتمان الرواية لصالح الشعر؟".
إيمرسون دفعني إلى الغليان
في عام 1844 كتب الناقد إيمرسون مقالاً يشبه النداء تحدث فيه عن حاجة أميركا إلى شاعر جديد، يستطيع أن يبلور فضائل هذا البلد ورذائله، وما إن قرأها ويتمان حتى أحس باهتياج لا مثيل له يقول، "كنت أهتاج، وأهتاج وأهتاج. لقد دفعني إيمرسون إلى الغليان". فهل ألهمته الفكرة بالاتجاه إلى الشعر الجديد، بعد الانغماس في صياغة قصص موجهة إلى الذوق العام، كما يرجح رفعت سلام في مقدمة ترجمته للنسخة الكاملة لـ "أوراق العشب"؟.
نلمح في "جاك أنجل..." أثر الصراع الناجم عن رغبة الشاب ويتمان في البحث عن صوته الخاص والشكل الصحيح للتعبير عن أفكاره. يوضح توربين أن "ويتمان الذي نراه في جاك إنجل ليس الشاعر الواثق والملتزم الذي نعتبره الآن دائماً". ويضيف، "خلال هذا الوقت الحيوي الذي يقوم فيه بالتجربة، محاولاً أنواعاً وأنماطاً مختلفة من الكتابة، كان يبحث عن نوع واسع بما يكفي للتعبيرعما أسماه إيمرسون في مقاله "اللانهائية للرجل الخاص".
كان ويتمان آنذاك سيء الحظ يجتهد في تأليف كتابين. واحد سيصبح من أشهر دواوين الشعر في التاريخ الأميركي ويحقق لصاحبه ما ظل يصبو إليه، والآخر لن تكتب له النجاة إلا بمقدار ما يتناسب مع أهدافه القصيرة. "جاك آنجل..." ليست إلا رواية قصيرة تبلغ 36000 كلمة عن اليتم والجشع والمغامرة في مدينة نيويورك الجديدة، لا تتساوى مع أسلوبه الرائد الجامح لا من قريب ولا من بعيد. جزء منها يشتبك مع حياته الشخصية وهو المتعلق بالمحامي الفاسد الذي يحاول خداع مارثا في جناحه وتجريدها من ميراثها. فقد تعرض والد ويتمان للاحتيال على يد محامٍ من نيويورك. ويبدو أن رغبة ويتمان في الاقتصاص من الرجل دفعته إلى تفريغ القضية في هذا العمل على عادة الكتاب، الذين لا يحلو لهم الانتقام إلا على الورق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينطلق جاك، الذي يعمل في شركة كوفرت لإنقاذ زميلته اليتيمة، وفي أثناء ذلك يكتشف أن مصيره مرتبط بها. يبدو تأثر ويتمان المبكر بالأجواء الديكنزية واضحاً، الملجأ والأيتام ورحلة الصعود من الفقر إلى الغنى. كل هذا يقف في جانب، إذ تطل ملامح "أوراق العشب" التي كانت تكتب في الآن ذاته، وفي الفصل 19 اللافت للنظر من "جاك إنجل..."، عندما يتوقف الراوي للتفكير في النقوش على شواهد القبور في كنيسة الثالوث. وهو ما يسمح لنا برؤية صورة أكمل لمعجزة خلق "أوراق العشب" من خلال إطلالتها في رواية "جاك أنجل..." المهملة.
هل هناك المزيد من ويتمان؟
على خلاف ذلك، لا تدعي رواية "حياة جاك آنجل ومغامراته" أنها تمثل قيمة أدبية كبيرة، وهو ما دفع بعضهم إلى التساؤل عما إذا كان ينبغي نشر مثل هذه الأعمال أصلاً. يتساءل جيمس ماكويليامز في مجلة "باريس ريفيو" قائلاً، "مع وجود الديمقراطية الأميركية تحت الحصار هل نحتاج إلى البحث في الأرشيف عن المزيد من ويتمان المخفي، أم ينبغي علينا بدلاً من ذلك معرفة كيفية قراءة ويتمان الذي نعرفه بشكل أفضل وتعليم الآخرين كيف يفعلون الشيء نفسه؟". وعلى النقيض يرى إد فولسوم، محرر المجلة، أن مثل هذه الاكتشافات ستغير كل شيء معروف سابقاً عن الكتابة المبكرة للمؤلف. ويقول، "نرى الآن أن الرواية والشعر كانا يمتزجان بطرق لم نعرفها من قبل".
وبالفعل، لقد جعلت الابتكارات الإلكترونية اكتشافات توربين ممكنة ومنحتنا أيضاً طرقاً جديدة مذهلة لقراءة أعمال ويتمان والمشاركة بها. على سبيل المثال يُظهر مشروع الويب الجذاب ويتمان في ولاية ألاباما، وهو مشروع مشترك بين برنامج الكتابة الدولي وأرشيف والت ويتمان في جامعة أيوا، الإمكانات الرائعة لتدريس أعماله على أساس أنه لا توجد تحولات مفاجئة في الأدب الأميركي، كما هي الحال في الحياة الأميركية. فحتى ويتمان لم يستطع تنحية صحافة الاختراق والروايات الرخيصة التي سادت سنوات حياته المهنية، لصالح كتابة جديدة تماماً.
بعد أكثر من قرن ونيف من الانتظار قامت مطبعة جامعة أيوا بإعادة نشر هذا العمل المفقود بين دفتي كتاب، ونشرته عبر الإنترنت محتفية باستعادة قطعة مفقودة من الأدب الأميركي لأحد أعظم الشعراء في العالم، وذلك بفضل التجسس الإلكتروني الدؤوب للباحث زاكاري توربين.