إذا كانت الاضطرابات التي شهدها كثير من الدول العربية عام 2011 أظهرت تخلي واشنطن عن حلفائها لمصلحة قوى الإسلام السياسي، مما جعل كثيراً من دول المنطقة تشعر بالتخلي الأميركي عن حلفائها، وأكد هذا التصور المقاربة الأميركية للمسألة الإيرانية، وعقد خطة العمل الشاملة المشتركة من دون التعامل مع الحاجات الأمنية لدول الخليج العربي، فعلى الرغم من تداعيات هذه المتغيرات التي اكتملت بالإعلان الأميركي مراراً عن تحول اهتمامات وأولويات المصالح الأميركية من المنطقة إلى منطقة الـ "إندو- باسيفيك" حيث التهديدات الناشئة من الصين، فإن الحرب الأوكرانية أظهرت دور الشرق الأوسط لاستقرار سوق الطاقة العالمية، ثم شهدت المنطقة نشاطاً دبلوماسياً أميركياً روسياً يذكر بفترة الحرب الباردة في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي شهدت تأسيس المحاور، ومحاولة الولايات المتحدة احتواء وتطويق نفوذ الاتحاد السوفياتي لمنع انتشاره خارج الكتلة الشرقية.
لكن هل يمكن أن نقول إن التنافس بين واشنطن من جهة وموسكو وبكين من جهة أخرى قد يدفع الشرق الأوسط إلى الاستقطاب وتشكيل محورين مرتبطين بمصالح القوى المتنافسة؟ أم أن الفاعلين الرئيسين يميلون إلى الدفع في اتجاه بعيد من الاستقطاب وسياسات المحاور؟ هل للفاعلين الإقليميين في المنطقة مصالح تتطلب سياسة تنويع الحلفاء والشركاء وعدم الاعتماد على الحليف التقليدي؟
وبعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للشرق الأوسط زار نظيره الروسي فلاديمير بوتين المنطقة، حيث عقدت قمة روسية - تركية - إيرانية في طهران، وبعد الزيارة هاتف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وهذه الأيام زار وزير الخارجية الروسي سيرغى لافروف مصر خلال جولة أفريقية يقوم بها، كما ألقى كلمة في مقر جامعة الدول العربية في إشارة إلى العلاقات الروسية - العربية.
الدبلوماسية الروسية الأخيرة في الشرق الأوسط تشير إلى الرد على تصريح الرئيس بادين بأن الولايات المتحدة لن تترك فراغاً تملؤه روسيا والصين، فأرادت موسكو أن تشير إلى علاقاتها الشرق أوسطية ومصالحها بالمنطقة.
إن الحرب في أوكرانيا والنشاط الدبلوماسي الروسي الأميركي في المنطقة أبرزا عدداً من الاستنتاجات، منها أن الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة المصاحبة لها أظهرت أولاً أهمية الشرق الأوسط في السياسة العالمية، وثانياً سعي عدد من الدول العربية إلى تحسين موقفها التفاوضي تجاه الولايات المتحدة وتوسيع مجال المناورة السياسية، إذ هدفت هذه الدول إلى تحقيق التوازن بين حاجتها إلى الحفاظ على علاقة وثيقة قدر الإمكان مع الولايات المتحدة، حليفها التقليدي، مع الفوائد المحتملة التي تراها للتعاون في مختلف المجالات مع قوى مثل الصين وروسيا.
لذا فعلى الرغم من العلاقات الاستراتيجية الأمنية مع الولايات المتحدة التي ارتكزت على دعم واشنطن للأمن الإقليمي، فإن هناك قضايا تعاونية استراتيجية واقتصادية وعسكرية نسجتها دول المنطقة، لا سيما الدول الخليجية مع الصين وروسيا.
وربما يعتقد بعضهم أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا هو وجود مصالح لكل منهما في المنطقة قد يذكر بفترة الحرب الباردة التي شهدت الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية في الفترة من عام 1945 وحتى 1990، إذ توزعت مصادر القوة بين قطبين رئيسين لكن واقع الأمر مختلف، فمن جهة هناك قوى دولية صاعدة تسعى إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، ولهذا الاتجاه مؤيدين في المنطقة، فإذا كانت إيران إحدى الداعمين بفضل علاقتها مع روسيا والصين، فيمكن القول إن الدول العربية والخليجية تدعم الاتجاه نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، وقد تبين ذلك عبر مؤشرات عدة منها أن
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدول العربية عملت على شراء الأسلحة من موردين مختلفين غير الولايات المتحدة، على الرغم من كونها لا تزال المورد الرئيس للأسلحة إلى الشرق الأوسط، لكن مكانتها في هذا السياق تراجعت بشكل طفيف، فقد خصص 20 في المئة من إجمال صادرات الأسلحة الروسية بين الأعوام من 2017 وحتى 2021 للشرق الأوسط، وأصبحت المورد الأول لمصر وثالث أهم مورد للأسلحة إلى الإمارات.
حرص الدول العربية، لا سيما الخليجية، على التعاون التجاري والاقتصادي مع كل من الصين وروسيا، بخاصة دول الخليج لإدراكها أهمية كل من بكين وموسكو لتأثيرهما على سلوك إيران، وكذلك أظهرت كثير من دول الخليج والدول العربية الحياد في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، بما يشير إلى انخفاض قيمة مكانة الولايات المتحدة في المنطقة من منظور حلفائها التقليديين، كما أصبحت الصين مشتر رئيس للنفط من دول الخليج (نحو 90 في المئة من نفط الخليج مخصص للأسواق في آسيا)، فضلاً عن مركزية كثير من دول الشرق الأوسط في مبادرة الحزام والطريق.
رفض دول الخليج زيادة إنتاجها من النفط والغاز بناء على طلب الولايات المتحدة وهو طلب أثارته الحرب في أوكرانيا وجهود واشنطن لخفض أسعار الطاقة خلال النصف الأول من العام 2022. وحتى في أعقاب "قمة جدة" التي حضرها الرئيس الأميركي فقد كان واضحا الموقف السعودي بأن الإنتاج مرتبط بظروف السوق واتفاق أعضاء "أوبك+".
وسعت السعودية إلى الانطلاق وإعادة بناء علاقاتها مع الولايات المتحدة مع زيادة التعاون الأمني وقبول الضمانات الأميركية في السياق الإيراني، لكن لا يمكن الجزم بأن العلاقات العربية مع روسيا والصين ستكون بديلاً عن العلاقات الأميركية، فمثلاً سيظل هناك تحد أمام روسيا لتقوية العلاقات العسكرية مع دول الخليج التي لا يمكن أن تعتمد عليها كلياً كمورد للأسلحة، لا سيما في ظل صعوبة روسيا تحقيق أهدافها العسكرية وأدائها العسكري، وبالتالي ستنعكس نتائج ذلك على استعداد دول الشرق الأوسط لتعميق علاقاتها الأمنية معها.
إجمالاً، يعتبر البقاء ضمن موقع المنافسة بين القوى العظمى من قبل بعض الدول العربية وسيلة فعالة لتحسين موقفها التفاوضي تجاه الولايات المتحدة وتوسيع المناورة السياسية، والإشارة إلى اتباع سياسة متوازنة وأكثر استقلالية.