"يمه طفيني"، كانت آخر كلمات سمعتها فاطمة من ابنها حسين أبو عربية الذي انتحر بإشعال النار في جسده الهزيل أمام عينيها، هرباً من الفقر وبحثاً عن مكان آمن يشكو فيه الجوع وإهانة الكرامة وسوء الحياة في غزة، مسرعة فتحت الأم ذراعيها وضمته إلى صدرها محاولة إنقاذه لكنها لم تنجح، لا بل احترقت يداها معه.
"والله مات وهو جوعان"، تسرد والدة حسين تفاصيل أكثر قصة ألم شاهدتها في حياتها وتقول، "كان حسني جائعاً، وبسبب فقرنا لم أعد له الطعام النار أكلته قبل أن يأكل، لقد احترق بنيران فقرنا".
موجة سخط
كان حسني يعمل يومين في الأسبوع، ويتقاضى 20 دولاراً مقابل ذلك، تتساءل والدته، "لماذا يكفي هذا المبلغ، للمياه أو للمأكل أم لإيجار المنزل وسداد الدين المتراكم"، صمتت الأم لبرهة من الزمن ثم قالت، "ليس هناك عدل في الحياة، ولذلك حرق حسني نفسه وأنهى حياته"، وكانت هذه الكلمات أكثر عبارة رددتها.
قصة انتحار حسني حرقاً أثارت موجة سخط واسعة بين سكان غزة، ليس لصعوبتها ولما تحمله من وجع وحسب، بل أيضاً لأن هذا الشاب كان خامس حالة انتحار خلال أسبوع يعلن عنها رسمياً، وتتعلق جميع الأسباب بانتشار الفقر الذي يشتد سوءاً على سكان القطاع.
ووفقاً لمتخصصي علم الاجتماع والنفس، فإن حالات الانتحار تعد مشكلة حتى اللحظة، وهناك تخوف من تحولها إلى ظاهرة كون الأعداد في تزايد مستمر، وعلى الرغم من هذه التقديرات، فإنه لا يكاد يمر شهر إلا وتسجل فيه حالة انتحار بطرق متنوعة بين الحرق وتناول السم والسقوط من علو والشنق وإطلاق النار.
أرقام صادمة
ووفق بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني (مؤسسة حكومية)، فإن معدلات البطالة وصلت إلى 89 في المئة بين العمال، وهذه النسبة تعد الأعلى في الأراضي الفلسطينية، بينما هناك نحو 450 ألف خريج جامعي بلا عمل، كما وصلت نسبة الفقر إلى 53 في المئة، منها 33 في المئة فقر مدقع، في حين بات 80 في المئة من أسر غزة تعاني انعدام الأمن الغذائي وتعتمد بشكل أساس على المساعدات الغذائية المقدمة من المنظمات الدولية والتي باتت مهددة بالتوقف، في وقت يقدر دخل الفرد في غزة بثمانية دولارات في اليوم.
ومع تزايد حالات الانتحار، اتهم سكان غزة المسؤولين بأنهم السبب في ذلك، وأن الأوضاع المأساوية في القطاع هي التي دفعت الشباب للإقدام على الانتحار، بينما باشرت أجهزة الأمن فتح تحقيقات للبحث عن ملابسات هذه الحوادث.
الشرطة: ندرس المشكلة
وقال مدير ديوان المظالم في مكتب قائد الشرطة في قطاع غزة رائد العمودي، إن حالات الانتحار التي يعلن عنها فردية وليست ظاهرة ولا تشكل أي خطورة، موضحاً أن عدد الوفيات جراء عمليات الانتحار عام 2020 وصل إلى 17 حالة الجزء الأكبر من الذكور بين 16 و20 سنة، وبحسب العمودي، فإن 70 في المئة من أسباب الانتحار تعود لخلافات عائلية، وخمسة في المئة من الضحايا هم مرضى وقد يكونون نفسيين، و10 في المئة ينتحرون لأسباب اقتصادية، واثنين في المئة ادعاء الخطأ (مثل جرائم القتل التي تصنف انتحاراً).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح العمودي أن الشرطة والجهات الحكومية المختلفة، إلى جانب المؤسسات الحقوقية، تقوم بوضع دراسات وتحليل أسباب مشكلة الانتحار والدوافع خلفها لإيجاد حلول، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة من حصار وانقسام وانتشار للفقر.
ليست ظاهرة!
وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، فإنها وثقت أكثر من 210 آلاف حالة اضطراب نفسي في غزة، إذ يوجد شخص من بين كل 10 غزيين بحاجة إلى علاج نفسي، وقد يكون عرضة للقيام بمحاولة انتحار في أي لحظة تسوء الحياة في نظره أكثر مما هي عليه الآن. وقال مدير برنامج غزة للصحة النفسية ياسر أبو جامع، إن "حالات الانتحار هي تعبير عن أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتعد بمثابة رسائل احتجاج ورفض للواقع السيئ الذي يعيشه سكان القطاع، ولا تعد انعكاساً لحالات نفسية صعبة كما يروج محلياً، كما يجب التفريق بين المرضى النفسيين والجوانب الأخرى كالضغوط النفسية". وأكد أبو جامع أن حالات الانتحار مشكلة وما زالت غزة بعيدة عن تسميتها بالظاهرة من خلال البيانات والأرقام، ومقارنة بالمؤشرات في القطاع مع غيره من الدول.
محاولات
ووصلت أعداد الحالات المنتحرة منذ بداية العام الحالي إلى نحو 20، وفق إحصائية أعدها مركز "الضمير" لحقوق الإنسان في قطاع غزة، وبالعودة إلى سجلات محاولات الانتحار في القطاع الذي يقطنه نحو مليوني نسمة، ففي عام 2015، سجلت 10 حالات انتحار بينما حاول 553 آخرون القيام بذلك، أما في عام 2016 فسجلت 16 حالة انتحار و626 محاولة، وفي عام 2017 وثقت 23 حالة فعلية ونحو 566 محاولة، وفي عام 2018 سجلت 20 حالة انتحار و504 محاولات، وفي 2019 وصل عدد الوفيات بسبب الانتحار إلى 32 من أصل 133 محاولة، أما في 2020 فسجلت 17 حالة من أصل 404، ومعظم محاولات الانتحار كانت من قبل فئة الشباب دون سن الـ30، بما نسبته 87 في المئة من محاولات الانتحار.
وقال مدير مركز "الميزان" لحقوق الإنسان عصام يونس، إن حالات الانتحار المرصودة لم تكن مرتبطة بالفقر أو البطالة كعامل رئيس، لكن تلك الأسباب كانت جزءاً مساعداً لا يمكن إنكاره، فارتفاع مستويات تردي الأوضاع الاقتصادية إلى مستويات قياسية ولد آفات اجتماعية ونفسية كبيرة لدى الناس في قطاع غزة.