هل هو جاد تماماً حين يقول إذ يُسأل عن علاقته بالسينما إنه لا يحب السينما على الإطلاق وغالباً ما يحدث له أن يمتنع عن مشاهدة أي فيلم سينمائي طوال سنتين وأكثر، أم أنه يمارس ذلك الاستفزاز اللفظي الذي بات معتاداً عليه ويشكل جزءاً من شخصيته؟ لا يمكن أحداً أن يجيب عن هذا السؤال بشكل قاطع. لكن الجميع يعرف في المقابل أن السينما نفسها تحب جيمس إيلروي المعتبر اليوم واحداً من كبار كتّاب الرواية "السوداء" – أي الرواية البوليسية – في أميركا وهو يقترب حثيثاً من سن الثمانين. لكن إيلروي لا يجعل محدثه يشعر على الإطلاق بوطأة السنين عليه، لا في حديثه ولا في حركته الدائمة ولا حتى في رواياته التي لا يتوقف عن إصدارها بشكل منتظم فيسرع ملايين القراء لقراءتها. ولكن أكثر من هذا يتزاحم المنتجون السينمائيون والتلفزيونيون لشراء حقوق اقتباسها. والحقيقة أن إيلروي لا يبدي أي قدر من التبرم إزاءهم ولا سيما أن الأرقام التي تدفع له تتألف عادة من سبعة أعداد، لكنه يبتسم حين يُسأل: وهذه المرة هل ستكون غاضباً من النتيجة؟ ولا يجيب. وهذه الحكاية لا تزال تتكرر منذ ربع قرن على الأقل حين فجّر إيلروي في وقت واحد "قنبلتين"، أولاهما إذ قال إنه في نهاية الأمر لا يحب السينما ويفضل ألا تنقل رواياته إليها. وثانيتهما، وكان الأمر يتعلق حينها بالفيلم، الرائع على أية حال وبشهادة الجميع، المقتبس عن روايته الأجمل والأقوى حتى ذلك الحين "الداليا السوداء"، حيث أسرّ إيلروي أن للرواية علاقة ولو مواربة بما كانت أمه قد تعرضت له في صباها من اعتداء واغتصاب حتى وإن دارت الرواية مباشرة من حول ممثلة ناشئة عرفت بـ"الداليا السوداء" اغتيلت في هوليوود في سنوات الأربعين.
"الهارب" بين الفيلم والمسلسل
أتى الفيلم حينها من إخراج بريان دي بالما، ليتوج نوعية "الفيلم نوار" ولكن ليوصل مكانة إيلروي إلى الذروة ككاتب. وهي ذروة كان بلغها قبل ذلك بفيلم بدا أقل ذاتية اقتبس عن رواية أخرى له هي "أل إي كونفدنشال". واللافت أن إيلروي قال حينها إنه أحب كثيراً هذا الفيلم الأخير باستثناء "مشهد فيه تضمن مطاردة صُوّرت بشكل بالغ الغباء". وراح ينعي على الأفلام الهوليوودية تدخلها "البائس" في روايات كانت قد أثبتت حضورها ومكانتها عند القراء متسائلاً "أي شيطان أحمق يدفع الهوليووديين إلى هذا السبيل؟ ويومها من خلال هذا التعليق أعلن الكاتب للمرة الأولى، مواقفه السلبية من السينما. ويومها ركز هجومه على فيلم "الهارب" الذي لم يكن في حينه سوى نقل سينمائي لذلك المسلسل الشهير الذي عرف في الستينيات والسبعينيات بالاسم والموضوع نفسيهما. وأكد الكاتب في حديثه أنه يفضل المسلسل بتقشفه، ألف مرة على الفيلم. بل زاد أن مشاهدته خلال سنوات مراهقته لذلك المسلسل كانت هي ما أثار حماسته للكتابة التشويقية، مضيفاً بأسى: "أما الكتابة البوليسية السوداء فقد رغبت في خوضها منذ وعيي بما حدث لأمي". ولأن الموضوع في عنفه وذاتيته كان شائكاً راح يؤجل كتابة "الداليا السوداء" عاماً بعد عام حتى يتمكن من إيجاد الوسيلة التي يربط بها بين مأساة النجمة الشابة القتيلة ومأساة أمه. وسوف يقول معلقون على أدبه إنه راح بالأحرى يتحين الفرص راصداً أحوال هوليوود نفسها لأنه إنما شاء منذ البداية أن تكون روايته القوية تلك نوعاً من المرافعة ضد الفساد المستشري في عالم تلك المدينة السينمائية.
كل القذارات والانحرافات
وإيلروي لم ينف هذا على أية حال، هو الذي لم يكف عن القول إنه لئن كان قد جعل من هوليوود المكان الذي تدور فيه أحداث غالبية رواياته ولا سيما منها تلك التي تسمى "رباعية لوس أنجليس"، فما هذا "إلا لأنني أتخذ من هذا المكان نقطة ارتكاز للحديث على كل أنواع القذارات والانحرافات التي تعشش فيها وأراها فاتنة ومرعبة في الوقت نفسه. محركة للتاريخ في أبشع تجلياته". وهنا إذ يُطرح على إيلروي السؤال البديهي: إذاً لماذا لا تتوقف عن مدّ هوليوود وجماعتها بالروايات؟ يجيب ببساطة: "إن في إمكان المنتجين والمخرجين أن يفعلوا ما يشاؤون برواياتي. فالأمر لا يهمني على الإطلاق. إذا أراد واحد منهم أن يعطيني مالاً مقابل شرائه حقوق كتبي فليفعل. سآخذ المال من دون تردد، لكني سأظل أشعر بأعلى درجات الخيبة إزاء المصير الذي سيكون لكتبي على أيديهم". وهنا يعود إيلروي إلى فيلم "الهارب" الذي يمثل بالنسبة إليه أسوأ اقتباس سينمائي لعمل من هذا النوع قائلاً: "لقد كان "الهارب" آخر فيلم سينمائي شاهدته حتى الآن، أي قبل عام ونصف العام. وما بقي منه في ذاكرتي شيء سريع مثير للدوخان وشديد الحماقة. شيء ينتهي بعراك بالأيدي بين كهلين يتضاربان وكل منهما يكاد يقع صريعاً تحت ربقة ذبحته القلبية كما هو واضح... يومها، أمام هذا المشهد، قلت لنفسي إنني لن أشاهد أي فيلم سينمائي بعد الآن". ولكن باستثناء الأفلام التي اقتبست عن رواياته والتي يقول إنه يشاهدها ليتأكد من صواب نظرته إلى السينما الهوليوودية!.
افتتان بالفاشلين
وللمناسبة يذكر إيلروي أنه كان في السادسة من عمره عام 1954 حين شاهد أول فيلم سينمائي في حياته وكان كما يذكر "نبع الغراميات" للمخرج جان نيغوليسكو. ومن بعده صار شغفه أن يشاهد الأفلام البوليسية التي يتكرر فيها موضوع الفشل "حيث ثمة دائماً عصابة تمضي نصف وقت الفيلم وهي تحضّر لضربتها بكل عناية لينتهي الأمر بها إلى الفشل والتقاتل بين أفرادها حتى يردي كل منهم رفيقاً له...". ويعطي إيلروي كنموذج على هذه الأفلام "التي شكلت وعيي السينمائي المبكر" واحداً من أول أفلام ستانلي كوبريك "القتل"، مؤكداً أن ما كان يفتنه في هذه الأفلام، صواب التحليل النفسي للشخصيات والدقة في رسم التفاصيل. و"ربما كانت تلك هي الخلفية التي مكنتني من أن أكتب واحدة من أنجح رواياتي "تلة المنتحرين"، التي كانت من أنجح الاقتباسات السينمائية لعمل من أعمالي. وربما يعود نجاحها إلى كونها رواية كتبت أصلاً من خلال تفضيلاتي السينمائية في بدايات مساري المهني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثلث "العراب" لا أكثر!
ومهما يكن فإن إيلروي لا ينفي أن بداياته ككاتب بوليسي، تدين إلى حد ما للأفلام البوليسية التي شاهدها في صباه "وكان أكثر ما يفتنني فيها شخصيات الخاسرين"، لكنه يضيف هنا أنه كان مفتوناً أكثر بالإنتاجات التاريخية الضخمة ذات الأبعاد البصرية التي كانت تدهشه ولا سيما حين دخلت السينما عصر الألوان والسينما سكوب، "غير أن الغريب في الأمر أن تلك الأفلام لم تولد لدي أية رغبة في خوض كتابة الروايات التاريخية. بل والأغرب من هذا أن أبعادها البصرية التي سيقول لكم كثر من الكتاب إنه كونت الأبعاد البصرية الرائعة في رواياتهم، لم تترك لدي أي بعد بصري يمكن أن يُلحظ في رواياتي، حتى وإن كان كتّاب السيناريو يتطوعون اليوم للإشادة بسهولة تحويل فصول هذه الروايات إلى مشاهد سينمائية". غير أن هذه الملاحظة تذكّر إيلروي بكم أن الأفلام البوليسية الحديثة تهتم بالحركة والصراعات أكثر كثيراً مما تهتم بالتوقف طويلاً عند منطق التحقيقات البوليسية نفسها. أما حين يُسأل جيمس إيلروي في هذا السياق نفسه عن الأفلام التي أحبها حقاً ووجد أنها تستوفي شروطه لاعتبار الفيلم ناجحاً، فيذكر بالدرجة الأولى الجزء الثاني من "العراب" لفرنسيس فورد كوبولا – ولكن هذا لا ينطبق على الجزءين الأول والثالث! – كما يذكر فيلم "ناشفيل" للراحل روبرت آلتمان، و"سانست بوليفار" لبيلي وايلدر و"تأمين على الموت"، قبل أن يضيف "متسامحاً": "وربما الفيلم الإيطالي "ليلة سان لرورنزو" للأخوين تافياني... لكنه فيلمهما الوحيد الذي أحببته!".