تحت عنوان "صفحة مخفية في مخزون القوى الناعمة المصرية" كتب الصحافي السعودي مشاري الذايدي في زاويته ليوم 27 يوليو (تموز) 2022 بصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية عن محاولة تكريس استخدام "القوة الناعمة" في العلاقات السياسية، ولو كان مستخدمها قائد توتاليتاري له وحده الكلمة النهائية في القرارات المتعلقة بشعبه وبلاده، وربما بشعوب وبلاد أخرى.
استند الذايدي إلى مقالة الصحافي المصري كرم جبر في جريدة "الأخبار" بعنوان "فاروق وعبد الناصر وأم كلثوم"، توقف فيه عند العلاقة بين قمتي الفن والسياسة في مصر حينذاك، أم كلثوم وجمال عبدالناصر، فـ"الأولى هي كوكب الشرق، والثاني هو الزعيم العربي صاحب الشعبية الكبيرة".
وأشار الذايدي إلى أهمية تكتيك "القوة الناعمة" في الحفاظ على العلاقة بين قطب فني ينتمي إلى عصر الملك فاروق، وزعيم شعبي جماهيري يضاهي كوكب الشرق في شهرتها، وهو المنقلب على الملكية التي غنت لها أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
وقال الكاتب المصري جبر إنه "على الرغم من أن أم كلثوم أهدت أغنية للملك فاروق قبل ثورة 23 يوليو، وغنت له في عيد ميلاده، فإن الرئيس جمال عبدالناصر لم يقصها ولم يناصبها العداء، بل عدها أهم روافد المخزون الاستراتيجي للقوة الناعمة المصرية".
ويستنتج الكاتب مشاري الذايدي قائلاً، "هذا بلا ريب يُحسَب لجمال عبدالناصر ورفاقه، فالقوة الناعمة ممثلةً بالفن والثقافة، تساوي إن لم تفق القوة الخشنة ممثلةً بالجيش والشرطة وغيرهما".
الكاتب والباحث المصري مأمون فندي تناول الموضوع نفسه في مقالة بعنوان "ماذا تبقى للقوة الناعمة؟" في بداية شهر مايو (أيار) 2022، فطرح تساؤله في صدر المقالة، "هل هناك ما تبقى من مفهوم القوة الناعمة الذي قدمه جوزيف ناي، أستاذ السياسة بجامعة هارفرد ومساعد وزير الدفاع الأسبق في عام 1990؟"، الذي يعرّف "القوة الناعمة" بأنها إقناع خصمك على أن يريد لنفسه ما تريده له.
ويرجع فندي زمن بدء استخدام هذا المفهوم للقوة إلى مرحلة سادتها الضبابية في فهم معاني القوة في النظام العالمي اللاحق على الثنائية القطبية التي لفظت أنفاسها. و"كان التصور الحاكم في عالم يبدو أحادي القطبية أن أميركا لا تحتاج لقوة السلاح بقدر حاجتها لجاذبية النموذج الأميركي في طريقة الحكم والحياة عامة".
مفاهيم القوة وأنواعها
بالاستعانة بموسوعة العلوم السياسة المنشورة بكل اللغات على شبكة الإنترنت، فإن مفهوم القوة من المفاهيم الأساسية في العلوم السياسية والسوسيولوجية وعلم النفس الاجتماعي، ويمكن تعريف القوة على أنها القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على نتائج مستهدفة. وتكون إما عبر تكريس علاقة تبعية وطاعة من جانب، وعلاقة سلطة وسيطرة من جانب آخر. وقد تأتي على شكل إقناع بالترغيب والمكافآت أو إقناع بالتهديد والترهيب، فإذا فشل الإقناع بشكليه، يقرع جرس القوة العنيفة.
عند دراسة أشكال استخدام القوة على الساحات الدولية يمكننا أن نجد أن التهديد باستخدام القوة العنيفة، مجرد التهديد به، أسهم في منع اشتعال حروب كبيرة وبعضها كادت تصبح نووية كما في حالة أزمة الصواريخ الكوبية إبان الحرب الباردة. ويمكن اعتبار التهديد بالحرب أو باستخدام القوة العنيفة في خانة "القوة الناعمة" بالإكراه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن بعد سقوط حائط برلين وتحول العالم إلى نظام القطب الأميركي الواحد وسيطرته المطلقة على الأسواق ووسائل الإعلام على أنواعها الكثيرة والهائلة عبر شبكة الإنترنت، التي تجد الحكومات صعوبة في ضبط تأثيرها النفسي والاجتماعي والرافض على شعوبها. ويقال إن تظاهرات "الربيع العربي 2011" أسهم فيها تطبيق "فيسبوك" بشكل أساسي.
بعد انتشار العولمة ظهر نوع آخر من القوة التي تعني القدرة على منح الفريق الآخر خيارات معينة وتوجيه سلوكه نحو قبول أحدها. وكان عالم السياسة البريطاني جوزيف ناي قد صاغ مصطلح القوة الناعمة في تسعينيات القرن الماضي. وتطور هذا المفهوم منذ ذلك الحين ليشمل "القوة الذكية" عبر مزج القوة الصلبة والناعمة معاً، كاستخدام الجيوش مع العقوبات المالية والاقتصادية، إضافة إلى برامج المقاطعة الدولية والعقوبات على شبكات المصارف والاتصالات، والحروب الإلكترونية للسيطرة على مواقع حساسة، وكانت قد أدت إلى خسائر بقيمة تريليونات الدولارات حول العالم في العامين الأخيرين بسبب هجمات القراصنة المتبادلة على مواقع حكومية في مختلف الدول بعضها يتسم بالحساسية العسكرية والمالية الخطيرة.
هذه الأساليب الحربية الجديدة التي باتت ذات تأثير أقوى من تأثير القوة العارية للجيوش المهاجمة، يمكن ضمها إلى طائفة "القوة الناعمة"، ويضاف إليها أنواع أخرى كالقتال بالواسطة، كما توصف الصين، التي لا يشاهد جنودها في أي حرب تجري في العالم، بينما يتهمها أعداؤها ومناهضو سياساتها بأنها تقاتل بالوساطة، سواء في كوريا الشمالية، أو في روسيا، أو في الشرق الأوسط، وتقوم بالسيطرة على أفريقيا جنوب الصحراء بعد أن تغلغلت في معظم دولها وزرعت فيها القواعد العسكرية والمصانع الثقيلة والمرافئ على طول البحر الأحمر، وهذا كله من دون إطلاق طلقة نار صينية واحدة.
الأبعاد الثلاثية للقوة
هكذا تتضح "الأبعاد الثلاثية للقوة" كما حددها جوزيف ناي، الذي قسم الصراعات الدولية على رقعة الشطرنج إلى ثلاث طبقات، العليا تضم الخلافات العسكرية التقليدية، أي حماية الحدود، أما الوسطى فهي طبقة قضايا العلاقات الاقتصادية، فيما السفلى تختص بالقضايا المشتركة مثل مكافحة الإرهاب والجرائم الدولية وتغير المناخ وانتشار الأمراض.
قبل وضع مصطلح "القوة الناعمة" وتعريفها الحديث، كان الفليسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci في نظريته الهيمنة الثقافية قد أوضح أن نشر الفكرة الليبرالية على العالم يمكن أن يتم من خلال المؤسسات التبشيرية والخدماتية ووسائل الإعلام والتعليم للتأثير على شعوب المستعمرات وتجميل رأيهم بالمستعمر وأهدافه وثقافته وحضارته، وهذا ما قامت به فرنسا وإنجلترا بشكل حثيث في مستعمراتها في أعالي البحار، التي ما زال جزء كبير منها تحت سلطتها ووصايتها.
تم هذا الدمج بين جغرافيا وثقافات مختلفة تحت الهوية الفرنسية أو الإنجليزية بواسطة "القوة الناعمة"، قوة الميديا وإعادة تشكيل الهوية الثقافية. وقد روجت أيضاً كل من بريطانيا والولايات المتحدة لمبادئ تتماشى مع طبيعة نظامهما الاقتصادي الذي يخدم المصالح الليبرالية والمنظومة الديمقراطية، بحسب التنظير الغربي لليبرالية (راجع مقالتنا حول الليبرالية كنظام حكم في "اندبندنت عربية" قبل يومين)، بل ويعتبر معادو أميركا ومناهضو "الاقتراح" الأميركي للحياة المشتركة بين الشعوب، أن الولايات المتحدة بنشرها منذ الخمسينيات بعد ظهور التلفزيون حتى زمن الإنترنت اليوم للقيم الأميركية على أنها قيم عالمية، إنما تقوم باحتلال حضارة وثقافة وتاريخ وتقاليد وفولكلور ومفاهيم ورؤية شعوب العالم الأخرى وتصادر الحقوق بحسب مصالحها.
وعليه يعتبر الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، منظّر حرب روسيا الحالية على أوكرانيا وداعم اجتياحها العسكري، أن مثل هذه الحروب تخفف من غلواء الثقافة الواحدة الأميركية والأوروبية، والتي إذا لم تفرض مصالحها بواسطة الحرب، فإنها تفرضها بوسائل "القوة الناعمة" كشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت العالم كله قرية صغيرة، وشبكة مطاعم الأكل السريع الأميركي وهو نفسه مزيج من أكلات شعوب كثيرة هاجرت إلى أميركا كالهامبرغر الألمانية والبيتزا الإيطالية والطعام الصيني "المؤمرك"، وكذلك عبر السينما الهوليوودية سابقاً وحالياً "النتفليكسية" التي حددت مفهومي الخير والشر وحققت صورة نمطية للشرير وللبطل في حروب الأفلام الأسطورية، التي تستطيع أن تصنع رأياً عاماً مضاداً لسياسة حكومته من خلال الضخ الإعلامي فقط.
لكن حين لا تتمكن الدول الكبرى المسلحة جيداً من مضاهاة النظام العالمي الأميركي بنظام عالمي آخر يمكنه مواجهته أو الحلول مكانه، أو يمكنه أن يعد الشعوب المتضررة بحقبة جديدة أكثر ازدهاراً تقوم على التشارك لا الهيمنة، كما تقول أدبيات الحلم الصيني، فإن الدول الكبرى المواجهة تضطر إلى اللجوء للحل العسكري لصد هجوم "القوة الناعمة"، وهذا ما يمكنه تطبيقه جزئياً على الحرب التي تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية، على الرغم من أن تأثيرها الظاهر أو الخفي والناعم والعميق على الاقتصاد العالمي يجعلها أكثر تأثيراً من أرتال الجيوش والصواريخ والطائرات والغواصات.
فما نراه على الأرض هو العنف العاري الذي يصيب موقعه، بينما القوة الناعمة من العقوبات المالية والتجارية بدأت تنهش في جسد الدول حتى المصنفة ضمن العالم الأول.