إن مسألة دعم الخروج من الاتحاد الأوروبي أمر مفروغ منه وبسيط للغاية. فهي عبارة عن عملية استعادة السيادة ليتمكن الشعب البريطاني من تولي زمام الحكم بنفسه. فعندما انضمت حكومة إدوارد هيث إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1973، والاستفتاء الذي أجري لاحقاً في ظل حكومة هارولد ويلسون العمالية عام 1975، ذهبت الحكومتان (المحافظين والعمال) إلى أن مسألة سيادة البريطانيين في إدارة شؤون بلادهم لم تكن على المحك أو بخطر [مهددة]، وكنا بصدد الانضمام إلى وحدة جمركية فقط.
وكان النائبان توني بين (حزب العمال)، وإينوك باول (حزب المحافظين) وهما على طرفي نقيض في الساحة السياسية البريطانية، قد حذرا بأن من شأن تلك العضوية أن تخلص إلى فقدان بريطانيا لسيادتها في نهاية المطاف، ونحن لاحظنا أن السنوات الأربعين الماضية قد أثبتت أنهما كانا على حق. لقد قام الاتحاد الأوروبي بخطوات حثيثة نحو تحقيق هدفه المعلن ألا وهو تشكيل الدولة الفدرالية "للاتحاد الأوروبي"، قاضماً مزيداً من السلطات ليس فقط في مجال التجارة ولكن أيضاً في مجالات تنظيم قوانين القطاعات الصناعية وجوانب من الحياة الاجتماعية، وصولاً إلى إنشاء السوق الموحدة وبعدها اتفاق العقد الاجتماعي.
إن القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير في النهاية بالنسبة إلى الجمهور البريطاني كانت عدم القدرة على السيطرة على مسألة الهجرة إلى بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي مع حصول المهاجرين الأوروبيين الوافدين إلى بريطانيا على الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطنون البريطانيون مثل حقهم في الحصول على الرعاية الصحية والتعليم والاستفادة من الضمان الاجتماعي. وكما ظهر بوضوح منذ تحقيق عملية بريكست لم تكن مسألة الهجرة هي ما كان البريطانيون يرفضون، فهم لطالما أظهروا مشاعر مرحبة بالمهاجرين من أنحاء العالم كافة، بغض النظر إذا كان هؤلاء لاجئين حقيقيين (مثل حال من وصل حديثاً من أوكرانيا) أو ممن كان لهم حق علينا (مثل حال أهل هونغ كونغ) أو كونهم عمالاً تتوافر لديهم مهارات يمكنهم من خلالها الإسهام في الدورة الاقتصادية في البلاد ويسمح لهم عملهم أن يوفروا تكاليف معيشتهم الخاصة.
لذلك، فإن ما تقدمه لنا عملية بريكست اليوم هو استعادة الحق بحكم أنفسنا كما تقدم لنا أرباحاً سنحققها في مجال رفاهنا على المدى البعيد وكله من خلال بريكست. إن المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي جادلوا بأن بريطانيا ستدفع ثمناً اقتصادياً على المدى القصير بسبب اختلال العلاقات القريبة القائمة حالياً مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، لقد كانوا على حق، لكن هذا هو ثمن ندفعه على المدى القصير وهو يندرج في إطار ما يجري عندما يتم تنفيذ عملية تحول بعيدة المدى عن اتجاه السياسات [التي كانت راسخة لسنوات].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إضافة إلى ذلك، كان بالإمكان تفادي ذلك لو أن الاتحاد الأوروبي تصرف بوصفه الحليف الصديق كما تقتضيه مصالحه البعيدة المدى [مع المملكة المتحدة]، بدلاً من اتخاذه مساراً حاداً في عدم التعاون. في كل الأحوال، كان الأثر محدوداً، فالضرر الوحيد ذو الأهمية [الذي يعتد به] جراء بريكست على المدى القصير قد لحق بتجارتنا مع الاتحاد الأوروبي وهذا ضرر وقع في الاتجاهين، ولن يكون لذلك أثر في نمو ناتج بلادنا المحلي، حيث لم ينتج أي ضرر عن ذلك أبداً إذا أخذنا في الاعتبار الأضرار التي خلفتها على اقتصادنا جائحة كورونا أيضاً. وعلى المدى البعيد، إن الأرباح التي سيجنيها الشعب البريطاني من خلال إقامة الحواجز التجارية والقوانين والإجراءات التي يراها مناسبة له هي من التبعات الاقتصادية لاختيارهم الاستقلالية السياسية.
إن السياسات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي كان قد تم اختيارها لخدمة مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد. لذلك اختاروا توفير حماية قوية لقطاع الزراعة بما يناسب المصالح الفرنسية، وأيضاً قاموا بتفصيل تدابير وإجراءات حمائية موجهة لإحقاق مصالح القطاع الصناعي الألماني. إلى ذلك يمكننا إضافة عملية استخدام القوانين لخدمة أهداف اجتماعية في سوق العمل وتسويق المنتجات بما يتناسب من توجه الدول الأوروبية الكبرى وفلسفتها التي تنتهج الديمقراطية الاجتماعية [أساساً لإدارة مجتمعاتها].
تلك النظم والقوانين قد تمت المصادقة عليها في ظل سيادة شكل من القوانين الأوروبية التي تعود إلى زمن نابوليون والتي تسعى لمنع أي "ضرر محتمل" [على المجتمع] عبر تشريعات تفرض من أعلى مراجع السلطة [تشريعات هرمية]. وكي تكون مثل تلك القوانين فعالة في المملكة المتحدة في ظل القانون الأنغلوساكسوني، الذي يبيح أي شيء ما لم يرد نص واضح وصريح فيه بخلاف ذلك، كان لا بد من تفصيل هذه القوانين الأوروبية بشكل لوائح ممنوعات، وهو إجراء مضر يسمى بـ"طلاء الذهب" [إدخال تعديلات على المشروع بما هو خلاف المتفق عليه].
ويمكننا عبر كل ذلك أن نرى أن الاتحاد الأوروبي قد أرهق بشكل مثقل كاهل المملكة المتحدة بمطالب حكومية كانت إلى حد بعيد مختلفة عن مصالح الشعب البريطاني. هذه المطالب تبقى وحتى يومنا هذا تؤشر إلى مكاسب بعيدة المدى قد يستفيد منها اقتصادنا على أثر الخروج من أوروبا، حتى ومن دون أن نأخذ في الاعتبار ما كان ممكناً أن يلحق بتلك المطالب في المستقبل. ومن خلال دراسات المقارنة التي قمت بها، لقد قدّرت أن الناتج الوطني البريطاني كان ليرتفع بحوالى سبعة في المئة [بعد بريكست]. وهذه كانت أقل التقديرات إذا افترضنا أنه لم يعد ليكون هناك أي اختلافات بين سياسات الاتحاد الأوروبي والمصالح البريطانية، وهي اختلافات كانت على الأرجح ستكون موجودة [لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي].
سيتطلب الأمر وقتاً كي تتحقق هذه المكاسب إذا اتبعنا المسار السياسي الوطني البريطاني، الذي يعمل عبر التوصّل إلى الإجماع على القضايا الرئيسة بعد مناقشات تستمر طويلاً. إن عقد اتفاقات التجارة الحرة مع الدول من خارج الاتحاد الأوروبي تواجه معارضة من ذوي أصحاب المصالح الخاصة في قطاع الزراعة والصناعة، ولكن مع تحول أكثر من تسعة في المئة من القوة العاملة في هذين القطاعين إلى العمل في قطاعات أخرى، بحثاً عن التنافسية والأسعار الأدنى، فسيتم اعتماد اتفاقات التجارة الحرة هذه تدريجاً.
وبشكل مماثل، سيواجه إصلاح القوانين التنظيمية معارضة متوقعة، يمكن التغلب عليها عندما يلاحظ المواطنون الفوائد التي تحققها الإجراءات التنظيمية الخاصة بالقانون الأنغلوساكسوني، التي ترتكز على الاستجابة للتبعات التي قد يخلفها خوض تجربة السوق الحرة.
إن هذه الحكومة البريطانية ملتزمة الدفع قدماً من أجل تنفيذ برنامج الخروج من الاتحاد الأوروبي. قد يكون عاملاً مساعداً أن تتنبه إلى عدم الوقوع في مطبات ارتكاب أخطاء غير مقصودة من قبيل رفع مستوى الضرائب في مساعيها للإسراع في تسديد ديونها التي راكمتها جراء جائحة كورونا. ولكن، مهما تكن الأخطاء التي قد ترتكبها الحكومة فإن الأمر الأساس هو أن البريطانيين عادوا ليمسكوا بحق الاقتراع لحكومة مهمتها التحرك بشكل يخدم مصالحهم. والتاريخ البريطاني الطويل يبرهن أنهم يعلمون كيف يستخدمون هذا الحق.
سير باتريك مينفورد هو خبير في الاقتصاد وأستاذ في الاقتصاد التطبيقي في جامعة كارديف في ويلز.
© The Independent