تتجلى إحدى صور التقاطع اللغوي في دولة جنوب السودان ضمن الممارسة اليومية للغة "عربي جوبا"، التي تجمع ما بين اللهجة السودانية ولهجات محلية عدة منذ أن كان الإقليم متكاملاً ذا خصائص لغوية فريدة تتكون من 60 لغة محلية بعدد المجموعات القبلية هناك.
وترتبط لغة "عربي جوبا" بمدينة جوبا عاصمة الإقليم، وينحدر أصلها من مجموعة قبائل تشكل السكان الأصليين في هذه المنطقة، على رأسها قبيلة "الباري" ثاني أكبر مجموعة قبلية بعد قبيلة الدينكا.
وفي تمثل أثر التصورات الاجتماعية والثقافية للغة "عربي جوبا" تشهد أمثلة عدة على صمود هذه اللغة كرابط متين بين الشمال والجنوب. وفي إطار الدولة تقع ضمن تصنيف فئات اللغات التي يتحدث بها شعب جنوب السودان، وتم تقسيمها إلى لغات رسمية، وأصلية، وغير أصلية، إذ تحتل موقعاً مميزاً في الفئة الثالثة، بجانب لغات أخرى تطورت نتيجة تماس لغوي وتفاعل الجنوبيين مع مجموعات قبلية أخرى من خارج الإقليم، أو تأثر بلغات من دول الجوار، غير أن الأوفر حظاً هي لغة "عربي جوبا" الأقرب لمتحدثي اللهجة السودانية من الجنوبيين الذين عاشوا في شمال السودان، أو ممن تأثروا بمجموعات سودانية شمالية في الجنوب.
وقف المد الثقافي
تقول أسماء موسى، أستاذة العلوم السياسية بجامعة جوبا "أغلب المؤرخين اتفقوا على أن دخول اللغة العربية إلى جنوب السودان كان مع الحكم التركي المصري للبلاد في القرن التاسع عشر، وتوغل قوات محمد علي باشا في أدغال الجنوب، حيث نشطت على أثرها تجارة الرقيق والذهب والإبل والصمغ العربي والعاج وريش النعام وسن الفيل".
وتضيف، "حدث التفاعل الاجتماعي بين أفراد من قوات محمد علي باشا وموظفي الخدمة المدنية من أصول تركية ومصرية وسودانية وتجار من هذه الجنسيات من جهة، وبين سكان الجنوب من جهة أخرى، واستمرت ممارسة اللغة حتى دخول المستعمر الإنجليزي، حين أصدرت إدارة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري (قانون المناطق المقفولة) عام 1922، ومنعت الأجانب والسودانيين من دخول جنوب السودان، ثم أصدرت عام 1930 أحكاماً أخرى منعت بموجبها التجار الشماليين من الاستيطان في الجنوب، ووقف المد الثقافي العربي والدين الإسلامي من الانتشار هناك، واستمر ذلك إلى 1946، ثم انتهى هذا الوضع باستقلال السودان عام 1956. وشهد عقد الخمسينيات كتابة لغات بعض القبائل مثل الدينكا والزاندي والباري والمورو واللاتوكا والشلك والنوير والمورلي والأنواك بالحرف العربي".
وتتابع موسى، "في سبعينيات القرن الماضي، حددت اتفاقية (أديس أبابا)، في 27 فبراير (شباط) 1972، بين حكومة جمهورية السودان وحركة (تحرير السودان) لإنهاء الحرب الأهلية الثانية محافظات بحر الغزال والاستوائية وأعالي النيل على أنها منطقة حكم ذاتي في نطاق جمهورية السودان، وتعرف باسم (إقليم جنوب السودان) وعاصمته جوبا، وتشمل حدود يناير (كانون الثاني) 1956 وأية مناطق أخرى كانت جغرافياً وثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي بحسب ما يتقرر بموجب استفتاء عام. ونصت الاتفاقية على أن تكون اللغة الإنجليزية لغة رئيسة لإقليم جنوب السودان، مع عدم المساس باستعمال أية لغة أو لغات أخرى قد تخدم عملية أداء المهام التنفيذية والإدارية بطريقة فعالة وعاجلة أو تساعد على ذلك".
سياقات اللغة
بعد انفصال جنوب السودان إلى دولة مستقلة عام 2011، اتسع نطاق استعمال لغة "عربي جوبا" بشكل أكبر عند العائدين من الشمال المتحدثين باللغة العربية، ونبع ذلك من حاجتهم لخلق رابط ووسيلة تواصل إضافية مع متحدثي اللهجات المحلية. وعلى الرغم من اعتماد اللغة الإنجليزية في دستور دولة جنوب السودان لغة رسمية لدواوين الحكومة والتعليم، فإنه تم اختيار تدريس اللغة العربية كلغة ثانية، قبل التراجع عنها فيما بعد واقتراح اللغة السواحيلية محلها لتربط جنوب السودان بشرق أفريقيا ومنطقة البحيرات العظمى.
تندرج لغة "عربي جوبا" ضمن سياقها الديني في كتابة تراتيل الكنيسة بأحرف لاتينية، لتكون بذلك اللهجة العربية الوحيدة المكتوبة بهذه الأحرف. وبخصوص السياق الاجتماعي فهي لغة شعبية انتشرت شفوياً، ويتحدث بها كثيرون ممن لا يجيدون الكتابة أو القراءة، وعمد الإعلام إلى استعمالها بشكل واسع لمخاطبة هذه الفئة الواسعة التي تشكل نحو 73 في المئة من سكان دولة الجنوب، بحسب اليونيسكو.
وسط هذه السياقات، نجت "لغة عربي جوبا" كلغة شعبية من التصنيف الرسمي داخل الدستور تارة، وخارجه تارة أخرى، معبرة عن الثقافة الشعبية، ومحلقة في فضاءات الإعلام، ويمكن التقاضي بها في أروقة المحاكم للفئات الناطقة بها.
تفاعل مع الواقع
يقول يدجوك آقويت، الكاتب الصحافي من دولة جنوب السودان، "تشير بعض المراجع إلى أن اللغة العربية لم تدخل الجنوب حتى عام 1840، ويؤرخ لدخولها بتحرك ثلاث حملات استكشافية تحت إشراف الحكم التركي الإنجليزي بغرض اكتشاف منابع النيل. وتبين وثائق هذه الحملات عدم إلمام سكان المناطق الواقعة على الشريط النيلي في الجنوب باللغة العربية".
ويضيف، "لم تنتشر اللغة العربية في الجنوب إلا مع بداية حملات الرق ونشاط تجارة العبيد الذين كانوا يصحبون التجار، وهم من السودانيين الشماليين والإغريق والشوام، مترجمون يجيدون اللهجة السودانية، وكانوا في الأصل عبيد سابقين عاشوا بمدينتي أم درمان والخرطوم وتعلموا اللغة العربية هناك، وكان من الشائع حينذاك استخدام التجار لهم في عملية الترجمة بينهم والسكان غير الناطقين بالعربية".
ويوضح آقويت، "أسهم تشكيل الجيش النظامي لقوات محمد علي باشا وإرسالهم للجنوب في تعزيز انتشار العربية وكان قوام الجيش من المسترقين الجنوبيين المقيمين في أم درمان، وبعض المجندين من مناطق كردفان، وسنار وبعض قبائل الدناقلة والشايقية".
ويشير إلى أنه "نتيجة للتفاعل الضروري مع الواقع الجديد، ودخول التجار من مناطق مختلفة لإقليم جنوب السودان، صارت اللغة العربية مهمة للتواصل اليومي في المراكز الحضرية في مدن واو وملكال وجوبا ورومبيك".
تنويعات متباينة
يذكر الكاتب الصحافي أن "للغة العربية تنويعات متباينة في جنوب السودان، فهناك (عربي واو)، وهي أقرب في نظامها الصوتي إلى طريقة تحدث سكان إقليم دارفور، ويعزى التشابه للتماس في الحدود بين الأقاليم وحركة التجار الواسعة بين مدينة واو وإقليم دارفور، وفي مديرية الاستوائية تستخدم لغة "عربي جوبا" وهي خليط من كلمات عربية وإنجليزية، وهناك لغة قبيلة باري وتتتبع النظام الصوتي للقبيلة".
وينوه آقويت إلى أن "اللغة العربية تراجعت في جنوب السودان، مع تنامي نشاط الكنيسة الكاثوليكية ونظامها التعليمي باللغة الإنجليزية، من لغة رسمية إلى لغة تواصل يومي فقط، بينما اعتمدت الإنجليزية كوسيط تعليم بمدارس الإرساليات لعقود من الزمن. وفي المقابل لم تتراجع الإنجليزية إلا مع بدء سياسات الأسلمة والتعريب القسري للجنوبيين وطرد البعثات التبشيرية في الجنوب خلال ستينيات القرن الماضي في عهد الرئيس الفريق إبراهيم عبود".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع، "على الرغم من استعداء نظام الاستعمار البريطاني للغة العربية وتعاونه مع البعثات التبشيرية، فإن العربية (الهجينة) استمرت في الانتشار، وانحسر استخدام الإنجليزية في أوساط المتعلمين والدوائر الحكومية، ويعد التغيير اللغوي في الجنوب امتداداً لعملية التعريب التي بدأت في شمال السودان منذ القرن الرابع عشر".
ويضيف، "لعبت اللغة العربية دوراً محورياً في الحرب الأهلية السودانية أيضاً، مرة كأداة مقاومة ثقافية متمثلة في رفض معظم الجنوبيين الاعتراف بها، وكأداة أيديولوجية كما تروج لها الحكومات المركزية وتفرضها بقوة الدولة عبر سياسات التعريب".
تشكل "عربي جوبا"
يوضح يدجوك آقويت أن ما تعرف الآن بلغة "عربي جوبا" أو "لغة جوبا" كما يصفها بعض الجنوبيين، هي نتيجة لتاريخ طويل من القهر الثقافي واللغوي للأجيال الأولى، وهي مجرد لغة أم لبعض أجيال اليوم. وقد صارت لغة التواصل اليومي في العاصمة جوبا وبعض المراكز الحضرية المتاخمة لها. ومثل كل اللغات، تتفاعل وتكتسب مصطلحات جديدة باستمرار، وتتغير معاني كلمات أخرى. أما العامل الثابت فيها فهو طريقة النطق المتبعة بنظامها الصوتي المستمد من لغة باري، بالتالي غالباً ما تحدث عمليات إبدال أصوات أو إسقاط أصوات أخرى وفقاً للنظام الصوتي في الأخيرة".
ويرى آقويت أنه "إذا كان هنالك عامل مشترك بين سكان جنوب السودان اليوم فهو (عربي جوبا)، لأنها الآن لغة التواصل اليومي في العاصمة وبعض أجزاء جنوب السودان، على الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الرسمية ووسيط التعليم في كل المراحل الدراسية، ولـ(عربي جوبا) حضور كبير على مستوى الإعلام المسموع، وهي لغة الفن الغنائي بامتياز".
ويتابع، "لا يوجد اتفاق على طريقة كتابة (عربي جوبا) حتى الآن، فتارة ما تكتب بالأحرف العربية، وتارة أخرى باللاتينية وفقاً للخلفية اللغوية للكاتب. وسبق أن صدرت صحيفة يومية شاملة ناطقة بـ(عربي جوبا) بالأحرف اللاتينية (الإنجليزية) لكنها لم تلقَ الرواج الكافي لاستمرارها. وهناك تحدٍّ يكمن في شح المراجع اللغوية، إذ لا يوجد قاموس لهذه اللغة حتى الآن، ولم يصدر سوى كتيب صغير في السبعينيات ومعظم المصطلحات الواردة به كلاسيكية وغير مستخدمة اليوم".
أداة تواصل مشتركة
أما الباحث الاجتماعي بدولة جنوب السودان أتيم سايمون، فيذكر أن "(عربي جوبا) بدأت في فترة احتكاك الأتراك مع السكان المحليين من مجموعة الباري في فترة الحكم التركي للسودان، إذ كانت هناك حاجة للغة تواصل بين المجموعتين، وكانت تعرف بـ(عربي منقلا) أو (عربي البمباشي) في إشارة للضباط الأتراك، وقد استخدمت في تعبيراتها وتركيب الجملة وفي نظامها الصوتي جزءاً كبيراً من مفردات اللغة المحلية إلى جانب العربية والتركية وبعض المفردات ذات الجذور الإنجليزية وبعض اللغات المحلية الأخرى في جنوب السودان".
يرى سايمون أن اللغة "ازدهرت على المستوى الشعبي بعد التوقيع على اتفاق (أديس أبابا) للسلام عام 1972، إذ شاع استخدامها في الخطاب السياسي وبرامج الإذاعة والأغاني التي بدأ الفنانون الجنوبيون في تلك الحقبة تأليفها، لتبدأ بالتحول من لغة هجينة إلى لغة رئيسة للأجيال التي نشأت داخل مدينة جوبا بعد أن فقدت لغاتها الأصلية المحلية".
ويضيف، "منذ تلك الفترة بدأت (عربي جوبا) تتحول إلى لغة تواصل مشتركة بين مختلف مواطني جنوب السودان بسبب انعدام اللغة الموحدة التي تربط بينهم، كما شاع استخدامها بين الجماعات المتباينة في لغاتها على مستوى العاصمة جوبا". ويرى أنها "لا تحظى بالاعتراف الرسمي على الرغم من انتشارها بشكل كبير في الآونة الأخيرة، لكن مجموعة مسرحية قامت عام 2011 بتقديم عرض لمسرحية (سيمبلين) لوليام شكسبير بـ(عربي جوبا) في مهرجان (غلوب) المسرحي".
وعن تجربته الشخصية يقول أتيم سايمون، "في الواقع، أنا استعمل اللغة العربية الفصحى على مستوى الكتابة، وأتحدث بـ(عربي جوبا) في التواصل اليومي العادي، وخصوصاً في مدينة جوبا، وتجربتي معها بدأت منذ فترة مبكرة، حين تعلمتها في الكنيسة بمدينة ودمدني بوسط السودان، وكان يجري ترديد معظم الترانيم المسيحية بها، ومن هناك بدأت في التعرف على مفرداتها ذات الخصوصية ودلالاتها المرنة، والتي تتحمل إضافة أي مفردات جديدة ومناسبة، لذا فهي واحدة من اللغات المتجددة باستمرار، وأتعامل معها باعتبارها لغة التواصل الرئيسة المشتركة بيننا كجنوبيين".