طالما نشاهد مناظر لأكوام النفايات سواء على الشواطئ أو الحدائق العامة أو في أراض شاسعة، ولا نتصور قط أن تلك الأكوام قد تصبح ثروة تدر مليارات الدولارات إذا تم التصرف بها بالشكل الصحيح. يظل النمط المتبع في أغلب الدول هو الإنتاج والاستهلاك أو ما يسمى بالاقتصاد التقليدي، وتظل تلك الدورة لعقود من دون استغلال تلك الثروة المهدرة التي ينتج من إهمالها أزمات تلوث البحار والهواء المكونة في نهاية المطاف للاحتباس الحراري.
كون النفايات أصبحت سلعة شائعة في السنوات الأخيرة ظهرت لها جماعات غير قانونية أو من يعرفون بعصابات النفايات، الذين يجنون مبالغ طائلة من خلال تصديرها باستخدام تراخيص مزورة وبأساليب مضرة للبيئة، كإلقائها في الأراضي بشكل عشوائي أو إلقائها في البحار خلافاً للأسلوب الصحيح الذي يعد مكلفاً مادياً، حتى أصبحت تلك الممارسة مشابهة لحد كبير لتجارة المخدرات من ناحية المردود المادي والتهريب من خلال حدود الدول.
عادة ما تكون لصادرات النفايات سمعة سيئة، لكن لا غنى عنها لضمان الاقتصاد الدائري الموفر للموارد والاستدامة وإعادة تدوير أكبر قدر ممكن منها. وينتج من هذا ما يسمى بالمواد الخام الثانوية التي تحافظ على الموارد وتوفر ثاني أكسيد الكربون وتنقذ كوكبنا من الاحتباس الحراري. وقد عملت ألمانيا على تلك الخطة منذ عقود حتى أصبحت الرائد في هذا المجال، حتى على دول الاتحاد الأوروبي، وأصبحت مصدراً يدر المليارات لميزانية الدولة، لكن لا يخلو أي شي من مواجهة التحديات، فألمانيا اليوم تواجه تحدي إعاده تدوير بطاريات السيارات وتكثف جهودها للتغلب على هذا التحدي كونها دولة تطمح لاستخدام السيارات الكهربائية في السنوات المقبلة.
في السنوات الأخيرة أدركت السعودية التي تصنف كإحدى أكبر الدول المستهلكة وتنتج ملايين الأطنان من النفايات سنوياً، أن التغير المناخي أصبح على المحك ويستوجب التصرف السريع. دفعها ذلك إلى ضم مفهوم الاقتصاد الدائري لمستهدفات رؤيه 2030، ومزج الطاقة المتجددة والاستدامة البيئية كجزء أساس من التنمية، وتعمل على استغلال تلك الثروة لدعم اقتصادها والحفاظ على البيئة في آن واحد.
عصابات النفايات
منذ أن أغلقت الصين حدودها أمام النفايات البلاستيكية في عام 2018، تزايدت التجارة غير المشروعة وإلقاء النفايات البلاستيكية في جميع أنحاء العالم، هذا وفقاً لتقرير "الإنتربول" صدر في أغسطس (آب) 2020 حول تحليل استراتيجي، "الاتجاهات الإجرامية الناشئة في السوق العالمية للنفايات البلاستيكية منذ يناير (كانون الثاني) 2018"، وفقاً لذلك يتم الآن تصدير النفايات البلاستيكية إلى جنوب شرقي آسيا بدلاً من الصين.
واستناداً إلى معلومات المصادر المفتوحة وبيانات الاستخبار الجنائي المستمدة من 40 بلداً ومن ضمنها السعودية والأردن، أشارت تلك المعلومات إلى ارتفاع كبير في عدد شحنات النفايات غير المشروعة منذ اتخاذ الصين سياسة إغلاق حدودها، وبالأخص الشحنات التي أُعيد توجيه مسارها إلى جنوب شرقي آسيا عبر عديد من بلدان العبور لتمويه مصدرها. ومن الاستنتاجات البارزة الأخرى تزايد محارق ومرادم النفايات غير المشروعة في أوروبا وآسيا، والزيادة الملحوظة في استخدام الوثائق المزورة وتصاريح التسجيل الزائفة بشأن النفايات، كما نوه التقرير إلى مدى استفحال هذه المشكلة وتشعبها.
تنقل الجماعات الإجرامية المنظمة جميع أنواع النفايات سواء البلاستيكية أو الإلكترونية أو النفط، وتتخلص منها في الأرض بشكل عشوائي أو في البحار. وتعود الأسباب إلى أن ممارسة ذلك الأسلوب يجنبهم تكاليف التخلص الصحيح منها، وفي الوقت نفسه يربحون مبالغ طائلة تكاد تكون مثل أرباح تجارة المخدرات. في مايو (أيار) 2019، باشرت السلطات الماليزية إعادة حوالى أربعة آلاف طن من النفايات البلاستيكية التي نقلتها تلك الجماعات إلى 13 بلداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال داكي دوان، رئيس مكتب "الإنتربول" المركزي الوطني في الصين نائب المدير العام لإدارة التعاون الدولي (وزارة الأمن العام)، "إن الحكومة الصينية ملتزمة مكافحة الجريمة المتصلة بالنفايات البلاستيكية، وفي السنوات الأخيرة غيرنا التشريعات في هذا الصدد من خلال تعزيز الإجراءات الإدارية وإطلاق حملات وطنية لمكافحة هذه الظاهرة لا سيما عندما تتصل بالتهريب عبر الحدود". وأضاف رئيس المكتب المركزي الوطني في بيجين، ’"ندعو أجهزة الشرطة في العالم إلى التعاون عبر الحدود والاستعانة إلى أقصى حد ممكن بالهيئات الدولية مثل الإنتربول من أجل الاضطلاع بمسؤولياتنا الجماعية وبلوغ هدفنا المشترك، أن نترك كوكباً نظيفاً وجميلاً للأجيال المقبلة".
السعودية تلتفت لكنز النفايات
تعد نسبة الاستفادة من النفايات في السعودية نسبة ضئيلة جداً، فهي تقدر بين 10 إلى 15 في المئة، كما ذكر المحلل الاقتصادي محمد العمران، في الوقت الذي تقدر فيه معدلات الاستفادة في دول أخرى بنحو 60 في المئة، إذ يزيد حجم النفايات في السعودية على 45 مليون طن، بحسب بيانات للشركة السعودية الاستثمارية لتدوير النفايات "سرك"، نقلتها "صحيفة الوطن". وحول النفايات البلاستيكية كشف الأمين العام للاتحاد الخليجي للبتروكيماويات والكيماويات "جيبكا" عبدالوهاب السعدون لـ "CNBC" عربية، أن تدوير النفايات البلاستيكية في المملكة بلغ 7 في المئة، في حين أن أكثر من 90 في المئة يُهدر. وتؤكد المديرة التنفيذية لجمعية البيئة السعودية ماجدة أبو رأس، أن الخبراء والمتخصصين في مجال تدوير النفايات قدروا أن المدن السعودية تهدر سنوياً ما لا يقل عن 40 مليار ريال، بسبب عدم الاستفادة من مئات الأطنان من النفايات التي تهدر من دون تدويرها والاستفادة منها بشكل أفضل في الوقت الذي تتسابق الشركات في دول العالم على تدوير هذه النفايات والخروج بمكاسب عدة.
وشارك القطاع الخاص في السابق بمبادرات بسيطة في هذا المجال، سواء من ناحية التعامل مع النفايات الطبية أو النفايات الصناعية أو مبادرات فصل حاويات النفايات في الحدائق والمرافق العامة، حتى أصبحت مشروعاً وطنياً متكاملاً ضمن الخطة الاستراتيجية لتقليل الاعتماد على النفط، والبحث في المجالات الأخرى مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وإعادة تدوير النفايات، فقد تبنت السعودية ضمن رؤية 2030 مفهوم إعادة التدوير ونظام الاقتصاد الدائري وهو نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على هدر المواد أو النفايات التي يمكن إعادة تصنيعها وإصلاحها وتجديدها، لإنشاء نظام حلقة "دائرية" مغلقة لخفض انبعاثات النفايات والتلوث وانبعاثات الكربون، وكذلك يعد فرصة واعدة للاستثمار في السعودية.
أنشأت السعودية المركز الوطني لإدارة النفايات "موان" في أبريل (نيسان) 2019، لإدارة جميع أنواع النفايات، يتركز اهتمام المركز على زيادة معدلات التحويل وعمليات إعادة التدوير من خلال إنشاء تحالفات مع شركات القطاع الخاص المتخصصة في هذا المجال، مثل الشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير "سرك" المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة السعودي. ويسهم مشروعها في تحقيق هدف التحول عن المرادم للنفايات البلدية الصلبة بنسبة 70 في المئة في مدينة الرياض بحلول عام 2025 – 2026، واستبعاد المرادم بنسبة 94 في المئة على مستوى المملكة بحلول عام 2035، بحسب وكالة الأنباء السعودية "واس" وشركة "تدوير" البيئة الأهلية و"إدامة" للحلول العضوية، وهي شركة ناشئة لإعادة تدوير النفايات العضوية في كاوست.
ألمانيا الرائدة تواجه مشكلة إعادة تدوير البطاريات
إعادة التدوير هي إسهام ألماني في المعركة العالمية من أجل البيئة، وقد حققت ألمانيا نجاحاً كبيراً في معركتها ضد أكوام القمامة المتراكمة من نفايات منزلية وعضوية إلى الورق والزجاج والتعبئة والأجهزة الكهربائية، على سبيل المثال لا الحصر. لطالما كانت إدارة مثل هذه المجموعة الواسعة والمتنوعة من النفايات تمثل تحدياً للمدن في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك كانت ألمانيا الرائدة في ذلك المجال من سنوات، وتعود قصة نجاحها إلى عاملين، السياسات الحكومية القوية والوعي العام العالي في إعادة التدوير.
كانت معدلات إعادة التدوير مرتفعة نسبياً منذ عقود، ففي عام 2002، كانت ألمانيا تعيد تدوير 56 في المئة من نفاياتها وقد لوحظ ارتفاع واضح منذ ذلك الحين، حتى بلغت 67 في المئة عام 2020، كما تعد حالياً جهة إعادة التدوير الرائدة للنفايات البلدية في الاتحاد الأوروبي.
وتعد تجارة النفايات مربحة، ففي عام 2013 بلغ إجمالي أسواق إدارة النفايات وإعادة التدوير الألمانية ما يقرب من 17 مليار يورو، وهو ما يمثل 17 في المئة من حجم السوق العالمية، أساس ريادة ألمانيا في صناعة إعادة التدوير العالمية هو دور الدولة الأول في قانون إدارة النفايات وبيئة الأعمال التي تفضل الابتكار والتقنيات الجديدة. وبين عامي 2008 و2015، نمت صناعة الاقتصاد الدائري الألماني بنسبة 7.3 في المئة سنوياً، وتشير التقديرات إلى أنها ستنمو بنسبة 5.2 في المئة إضافية سنوياً حتى عام 2025، متجاوزة نمو السوق العالمية.
وعلى الرغم من ريادة ألمانيا في مجال إعادة التدوير والاقتصاد الدائري، إلا أن سوق إعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية في ألمانيا لم تنضج بعد، لكن إمكان إعادة التدوير المستقبلية للبطاريات في ألمانيا والاتحاد الأوروبي كبير، وتهدف الحكومة الفيدرالية الألمانية إلى تسجيل سبعة إلى عشرة ملايين سيارة كهربائية في ألمانيا بحلول عام 2030، وتخطط المفوضية الأوروبية أيضاً لوضع معايير ملزمة لتصنيع الخلايا من المواد الخام وعمليات الإنتاج إلى إعادة تدوير الخلايا، إذ تحتل ألمانيا موقع الصدارة في أبحاث إعادة تدوير البطاريات وتشارك معاهد وجامعات بحثية ألمانية بارزة في مشاريع أبحاث بطاريات الليثيوم التي انتهى عمرها الافتراضي.