تطورات لافتة تشهدها العلاقة بين السودان وإريتريا، فمع العزوف النسبي للرئيس أفورقي عن التدخل بشؤون القرن الأفريقي، ما عدا اشتراك قواته خلال الفترة الأخيرة في صراع تيغراي بإثيوبيا، فإنه يبدو في تفاعله القليل مع شؤون الإقليم مناكفاً للغرب أحياناً وغير مهتم بالتفاعل مع المجتمع الدولي أحياناً أخرى.
خيارات إريتريا من هذا التفاعل إن وجد تبدو محدودة للغاية، ففضلاً عن خلاف الولايات المتحدة معها وفرض عقوبات من مجلس الأمن عليها لاتهامها بدعم "حركة الشباب" الصومالية، فهناك العقوبات الأخيرة التي فرضتها عليها واشنطن في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي على خلفية النزاع في إقليم تيغراي.
ويبرز في سياق موازٍ عدم حرص أفورقي خلال مبادرته التي طرحها للوساطة لحل الأزمة السودانية، على رضا الغرب أو منظماته، وإنما تحركه عوامل أخرى داخلية ترتبط بملاحقة المعارضة واستمراريته في الحكم.
كما تحركه عوامل إقليمية نابعة من ضرورة تقوية مكانته ولعب دور إيجابي يضع إريتريا في مقدم دول القرن الأفريقي الفاعلة بعد زعزعة الدور الإثيوبي نتيجة الحرب المستمرة في إقليم تيغراي.
وبدلاً من عزلته السابقة يسابق أفورقي الزمن لحجز مكانة في المنظمات الإقليمية التي فعلت إريتريا عضويتها فيها أخيراً بعد توصلها إلى اتفاق مع إثيوبيا عام 2018، في شأن عودة العلاقات بين البلدين بعد قطيعة استمرت نحو 17 عاماً، وأهمها الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) والاتحاد الأفريقي، ثم في ما يبدو الانتباه أخيراً لموقع إريتريا الاستراتيجي الذي يشرف على الممرات المائية المهمة بالمنطقة، وما يحيط بها من تهديدات بغية التحكم فيها والسيطرة على نشاط النقل بما فيه نقل النفط.
بين شد وجذب
منذ استقلالها عن إثيوبيا في الـ 25 من أبريل (نيسان) 1993، وبعد إعلان الحكومة الإثيوبية اعترافها بحق تقرير المصير لإريتريا، والعلاقة بين السودان وإريتريا بين شد وجذب.
ووصل التوتر ذروته عندما استقبلت إريتريا المعارضة السودانية الشمالية والجنوبية المسلحة (الحركة الشعبية لتحرير السودان) عام 1997، وجاء ذلك كرد فعل على احتواء النظام السوداني للمعارضة الإريترية الإسلامية عام 1994، ودعم حسن الترابي عراب النظام السابق لذلك التيار ومساعدته في تكوين "تنظيم الجهاد" لإسقاط نظام أفورقي.
وتفاقم الوضع بعد أن شن الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق من إريتريا، هجوماً على الجيش السوداني عند الحدود السودانية –الإريترية في أكتوبر (تشرين الأول) 2002.
وهناك تصور يفسر احتواء أفورقي لجون قرنق، وهو أن ثمة رابطاً أيديولوجياً بين الرجلين، إذ لم يكن أفورقي يخفي شيوعيته، وأعلنها قرنق بإصداره الـ "منفيستو" الشيوعي عام 1983، وهو بداية فترة التمرد الثانية في تاريخ السودان.
وبعد توقيع "اتفاق السلام الشامل" (نيفاشا) 2005 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، أشرفت إريتريا على "اتفاق سلام شرق السودان" بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة التابعة للمعارضة السودانية الشمالية.
وزار أفورقي الخرطوم عام 2006 ثم زار بورتسودان عام 2014 للمشاركة في مهرجان سياحي، ثم زار الخرطوم مرة أخرى عام 2015.
وبعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 زار وفد إريتري السودان في الـ 19 من مايو (أيار) 2019 عقب سقوط الرئيس عمر البشير لإعلان دعمه للتغيير في السودان، ثم زار الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي أسمرا في يونيو (حزيران) من العام نفسه.
بعدها أصدرت إريتريا قرار فتح الحدود المغلقة منذ السادس من يناير (كانون الثاني) 2018 بموجب مرسوم جمهوري كان أصدره البشير، وهو خاص بإعلان الطوارئ شرق السودان للحد من الهجرة غير الشرعية، وجمع السلاح ومكافحة التهريب.
ثم زار أفورقي السودان في الـ 14 من سبتمبر (أيلول) 2019، وفي الرابع من مايو 2021، وكانت الزيارة متزامنة مع جولة المبعوث الأميركي لمنطقة القرن الأفريقي وقتها جيفري فيلتمان إلى السودان ومصر وإثيوبيا وإريتريا.
انتعاش العلاقات
ظل مستقبل المبادرات لحل الأزمة السودانية مليئاً بالاحتمالات، وبدخول إريتريا على الخط سيكون أكثر غموضاً من قبل، ومع ذلك يمكن لتسلسل العلاقة بين البلدين أن يساعد في فهم صيغة المبادرة باعتبارها غير مألوفة وجاءت في ظروف غير طبيعية، لكن كما خرجت إريتريا من أسر العداء مع إثيوبيا تحاول تجديد علاقاتها بضخ دماء جديدة وإعادة ما تأثر بتلك القطيعة من علاقاتها مع دول الجوار.
ولا تنطلق إريتريا من قوة وتأثير أصيلة تجعلها لاعباً فاعلاً في مسار العلاقات الدولية، فإنها تحاول استمداد دورها الجديد بسعيها إلى التواؤم مع إقليمها، وربما لعب تشابك الملفات الداخلية والخارجية لإريتريا والسودان وبينهما إثيوبيا في تطور الدور الإريتري محكوماً بالتغيير السياسي في السودان والمشاركة في حرب تيغراي في إثيوبيا، وسط ديناميات أخرى مقبلة عليها المنطقة بوتيرة متسارعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعرض الرئيس أفورقي وساطة بلاده بين الخرطوم وأديس أبابا في قضية الحدود بين البلدين، وذلك عندما بعث وزير خارجيته عثمان صالح إلى الخرطوم في يوليو (تموز) العام الماضي، إذ رفضت الخرطوم الوساطة الإريترية، مبررة ذلك بـ "عدم حيادية أسمرا".
وفي ما يتعلق بأزمة الحكم أرسلت أسمرا في الـ 16 من أبريل الماضي مرة أخرى وزير خارجيتها أيضاً، ومستشار الرئيس أفورقي يماني قبراب، حاملين رسالة هذه المرة "تهدف إلى تقريب وجهات النظر بين الأطراف السودانية لحل الأزمة السياسية في البلاد، انطلاقاً من حرص إريتريا ورغبتها في استتباب الأمن والاستقرار بالسودان ودول المنطقة والإقليم".
وتوالت الرسائل خلال الفترة الأخيرة، إذ أعرب أفورقي عن متابعته للأوضاع في السودان، وأبدى استعداد بلاده للتوسط في قضية الصراع بشرق السودان، وعلى الرغم من أن العلاقات بين إريتريا والخرطوم انتعشت بعد سقوط نظام البشير، فإن هناك ما يعزز إمكان تواؤم أفورقي مع المجلس العسكري أكثر من المدنيين، وربما ينظر بعين الرضا لاحتمال تولي العسكر السلطة في السودان، على اعتبار أن خلافه مع النظام السابق كان بسبب خلفيته القائمة على الإسلام السياسي، وبسبب دعمه للتيار الإسلامي المعارض للنظام في إريتريا.
زخم جديد
وعلى الرغم من صعوبة التنبؤ بتطورات معينة في ما يتعلق بما يمكن أن تفضي إليه المبادرة الإريترية، فإن زيادة تعقيد التطورات الإقليمية التي بدأت تتشكل خلال الفترة الأخيرة ربما تثير الجدل حول ما إذا كانت المبادرات من هذا النوع ستسرع التحول نحو حل الأزمة بدلاً من النكوص إلى الوراء، بسبب تزايد حال عدم اليقين في شأن المبادرات الأفريقية.
ومن الواضح أن هناك زخماً جديداً للاتجاه نحو حل مشكلة شرق السودان، فقد تردد أن رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا وناظر قبيلة الهدندوة سيد محمد الأمين ترك بصدد زيارة أسمرا، في إطار مبادرة أفورقي لحل مشكلة الشرق، وظل سيد ترك رافضاً تضمين مسار الشرق في اتفاق جوبا للسلام الموقع في الثالث من أكتوبر 2020، وقادت مجموعته حراكاً قبلياً أدى إلى إغلاق شرق السودان مرات عدة، ثم تبلورت مطالب المجلس الأعلى للبجا في مطالبة الحكومة بـ"إعلان منبر تفاوضي جديد وإيقاف استخراج وثائق الأرض إلى حين وضع سياسات تراعي الأمن والآثار البيئية والتعديات على المناطق الزراعية، وتحدد نصيب المجتمعات المحلية في أرباح المشاريع الاستثمارية، خصوصاً التعدين".
وبالنظر إلى القرب الجغرافي والتداخلات القبلية والإثنية بين إريتريا وشرق السودان، فربما تهب مبادرة أفورقي الخاصة بهذا الجزء من البلاد برياح مواتية، وحتى لو لم تحل الأزمة نهائياً فإنها ستكون محاولة تحسب للجارة العائدة من العزلة الطوعية وتصب في تعزيز مكاسبها بعد الاتفاق على فتح الحدود، وهو ما من شأنه انعاش الاقتصاد بين البلدين وتنشيط الحركة التجارية، خصوصاً مع اعتماد اقتصاد إريتريا الضعيف على السلع الصناعية والزراعية السودانية المتداولة بين القبائل والإثنيات المتداخلة على الحدود بين البلدين، ولما يمثله شرق السودان من واجهة شمالية غربية لأمن إريتريا القومي.
مكاسب أفورقي
ربما تستغرق المبادرة الإريترية وقتاً إلى أن تتبلور في مقترح لحل الأزمة السودانية، وربما تواجه بعضاً من الصعوبات التي واجهت سابقاتها، ويلاحظ من التحركات السياسية لإريتريا أنها تجاوزت الموقف الحذر من إجراءات البرهان في الـ 25 من أكتوبر وتعمل وفقاً لذلك، وأن موقفها الذي بدأ يبرز في هذا السياق سينقلها إلى محاولة لعب دور دولي وإقليمي، وقد تكون هذه التحركات بصورة فردية أو بتنسيق مع إثيوبيا.
وعلى كل فمن المتوقع أن يحقق أفورقي جملة من المكاسب السياسية، فأولاً ربما يتجاوز دور أفورقي التعاون المباشر مع الخرطوم إلى التعاون مع الاتحاد الأوروبي بخصوص استضافة الميليشيات التابعة للحركات المسلحة من إقليم دارفور التي كانت تقاتل في ليبيا، وكان الاتحاد الأوروبي يبحث في شأن إخراجها من المشهد الليبي، وعبر أفورقي عن استعداده لذلك، وثانياً سيكسب أفورقي ساحة جديدة للنفوذ في القرن الأفريقي من بوابة التدخل في الشؤون الداخلية للسودان كما تم من قبل في الصومال، وإن كان تدخله تلك الفترة في العقد الأول من الألفية الحالية تدخلاً خشناً من طريق دعم أطراف النزاع بالسلاح، فإن تدخله بالسودان سيكون ناعماً وفق حاجته لدعم أجنداته الإقليمية.
وثالثاً يسعى أفورقي إلى استيعاب بعض الجماعات الإثنية في السودان لكن بشكل أقل قدراً من رغبته في استيعاب إقليم تيغراي وشعبه في إثيوبيا، وإن نجح فستوفر له قضية الشرق غطاء لتحقيق طموح تعزيز الهوية الإريترية.
رابعاً ينطلق أفورقي من حاجة بلاده إلى النظر والبحث في مستقبل مكانتها الدولية والإقليمية وتغيير مكونات علاقة تحالفها مع السودان بعد تحالفها الأخير مع إثيوبيا ليكون تحالفاً بين أكفاء، ويدعم ذلك بروز هذه المبادرة في إطار تحسن العلاقات الإريترية مع إثيوبيا، وربما رغبة في خلق صورة لتأثير التحالف بين البلدين على السودان ورغبة في رسم خريطة تحالف إقليمية جديدة.
معوقات المبادرة
ويمكن أن تعوق المعارضة الإريترية الموجودة في الخرطوم جهود أفورقي بالتشويش على هذه المبادرة في تحالفها مع معارضة الشتات، وهي خليط من تنظيمات المعارضة الإسلامية والعلمانية ومنها "الجبهة الإريترية الوطنية المتحدة" و"الحزب الإسلامي الإريتري للعدالة والتنمية" و"حركة الإصلاح الإسلامي الإريتري"، وتنظيمات ذات خلفية قبلية مثل "تنظيمات عفر البحر الأحمر" و"الساهو".
وانطلقت مخاوف أسمرا قبل المبادرة، بحسب ما نشرته مواقع إريترية، من قيام المعارضة بعقد مشاورات في الخرطوم يقودها وزير الدفاع السابق والقيادي العسكري التاريخي للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا سابقاً مسفن حقوص، والسفير والدبلوماسي الأممي السابق هيلي منقريوس وتأسيس تنظيم "وحدة الإريتريين" في فبراير (شباط) 2020، من ثلاثة تنظيمات معارضة سياسية وعسكرية وجهوية عريضة في الخرطوم من أجل إسقاط أفورقي، لكن الخرطوم خففت مخاوف أسمرا، كما نفت التكهنات بإمكان استغلال معارضي إريتريا المقيمين في الخرطوم دخول القوات الإريترية في صراع تيغراي، والترويج لإمكان دخول القوات السودانية في الصراع وشن هجمات من شرق السودان على إريتريا.