أحيا لبنان اليوم الخميس الذكرى السنوية الثانية لانفجار مرفأ بيروت المرّوع، تزامناً مع انهيار أجزاء إضافية من الصوامع المتصدعة، في مشهد أعاد لحظة حصول الفاجعة إلى أذهان اللبنانيين.
ونظم أهالي الضحايا الذين يخوضون رحلة شاقة من أجل تحقيق العدالة، في بلد تسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب منذ عقود، ثلاث مسيرات انطلقت الأولى من أمام قصر العدل بمشاركة المئات، حاملين لافتات منددة بعرقلة التحقيقات وصوراً للضحايا.
وتقدم المتظاهرون لافتة عملاقة كُتب عليها "لا عدالة للضحايا في ظل حكم الميليشيا والمافيا"، في إشارة الى الطبقة السياسية المتهمة بالفساد والتقصير والتدخّل في عمل القضاء.
وانطلقت مسيرة ثانية من مقر فوج الإطفاء، تجسيداً للرحلة الأخيرة لتسع عناصر من الفوج هرعوا الى المرفأ قبل دقائق من دوي الانفجار وقتلوا جميعهم.
وحمل المشاركون في المسيرة نعوشا خشبية بيضاء، ملطخة باللون الأحمر، وعليها أسماء عناصر فوج الإطفاء.
كما انطلقت مسيرة ثالثة من وسط بيروت، الذي لطالما شكّل قلب التظاهرات الشعبية المناوئة للطبقة السياسية المتهمة بالتقصير والإهمال والفشل في إدارة الأزمات المتلاحقة.
قبل وقت قصير من وصول المسيرات الى قبالة المرفأ، انهارت أربع صوامع جديدة من إهراءات الحبوب، وفق ما أفاد مراسلو فرانس برس، وذلك بعد أيام من انهيار صومعتين على الأقل يوم الأحد الماضي.
وجدّدت منظمات حقوقية وعائلات ضحايا وناجون من الانفجار مطالبتهم بتحقيق دولي مستقل في الانفجار الذي يعد من بين أكبر الانفجارات غير النووية في العالم، في وقت ندّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الخميس، بمرور عامين على الكارثة "من دون عدالة".
وشهد مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020، انفجاراً غير مسبوق لم يتعاف اللبنانيون من تبعاته بعد، إذ أودى بحياة أكثر من 200 شخص وتسبب في إصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، ملحقاً دماراً واسعاً بالمرفأ وعدد من أحياء العاصمة.
إحقاق العدالة
ومع تعثّر التحقيق المحلي، جدد الأمين العام للأمم المتحدة دعوته إلى "إجراء تحقيق نزيه وشامل وشفاف" في الانفجار، غداة دعوات محلية وخارجية طالبت بتحقيق دولي.
ودعا ستة خبراء مستقلين من الأمم المتحدة الأربعاء إلى "فتح تحقيق دولي بلا تأخير"، تزامناً مع مطالبة 11 منظمة حقوقية بينها "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية، مجلس حقوق الإنسان بإنشاء بعثة لتقصي الحقائق. وقالت في بيان مشترك، الأربعاء، "من الواضح الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن التحقيق المحلي لا يمكن أن يحقق العدالة".
وانتقد البطريرك الماروني الكردينال بشارة بطرس الراعي، حكومة لبنان الخميس لإخفاقها في محاسبة المسؤولين عن تفجير مرفأ بيروت. وفي قداس أقيم لإحياء الذكرى السنوية الثانية للانفجار، قال الراعي إن الحكومة ليس لها الحق في عرقلة التحقيقات المحلية والدولية.
الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون طالب بدوره، في مقابلة مع صحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية الخميس، بـ"إحقاق العدل" وتبيان الأسباب وراء انفجار مرفأ بيروت، معرباً عن أسفه لكون التحقيق "معلقاً منذ أشهر عدة".
وقال ماكرون، "أعيد التأكيد اليوم أن العدالة يجب أن تتحقق. من أجل طي الصفحة وإعادة بناء أنفسهم، تحتاج اللبنانيات واللبنانيون المقيمون في هذا البلد... لمعرفة الحقيقة". وأضاف، "يشهد لبنان أزمة غير مسبوقة. ويحتاج إلى العدالة كذلك من أجل النهوض"، موضحاً أن "فرنسا في هذا المجال أيضاً ستستمر بمساعدة (لبنان) مع شركائها".
ورأى الرئيس الفرنسي أن التحقيق اللبناني "المعلق منذ أشهر عدة" يجب أن "ينجز باستقلالية تامة وبمنأى عن أي تدخل سياسي".
وكان ماكرون تحرك بشكل كبير بعد الانفجار، وزار لبنان بعد يومين على وقوعه وبعد شهر كذلك، ونظم بالاشتراك مع الأمم المتحدة ثلاثة مؤتمرات دعم. وأكد الرئيس الفرنسي، "لن أستسلم أبداً، لن أدع لبنان ينهار ويختفي. على الرغم من الرياح المعاكسة والصعوبات سأحافظ على هذا التوجه بحزم وواقعية وبراغماتية".
توقيت "رمزي"
ويأتي إحياء الذكرى بعد أيام من انهيار جزء من الصوامع الشمالية من الإهراءات، أعقب أسابيع من حريق مستمر نجم وفق مسؤولين وخبراء عن تخمر مخزون الحبوب جراء الرطوبة وارتفاع الحرارة. ويحذر خبراء من خطر انهيار وشيك لأجزاء إضافية في الساعات المقبلة.
وتصف تاتيانا حصروتي التي فقدت والدها الموظف في الإهراءات في الانفجار، توقيت انهيار الصوامع بأنه "رمزي".
وتقول لوكالة الصحافة الفرنسية، "تنهار الصوامع علينا لأننا لا نملك أي أدلة حول حقيقة ما جرى، بينما يبذلون قصارى جهدهم لمنع التحقيقات"، في إشارة إلى الطبقة السياسية التي تعوق تدخلاتها في عمل المحقق العدلي مسار التحقيق.
وتضيف، "لكنني آمل أن يمنح مشهد سقوط الصوامع الناس إرادة القتال من أجل العدالة والنضال معنا" لتحقيقها.
الانهيار الاقتصادي
ونجم الانفجار، وفق السلطات، عن تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل المرفأ من دون إجراءات وقاية، إثر اندلاع حريق لم تعرف أسبابه. وتبين لاحقاً أن مسؤولين على مستويات عدة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعد الانفجار الذي وصلت أصداؤه لحظة وقوعه إلى جزيرة قبرص، من أكبر الانفجارات غير النووية في العالم. وأحدث دماراً واسع النطاق، شبيهاً بالدمار الذي تسببه الحروب والكوارث الطبيعية.
وفاقمت الكارثة من حدة الانهيار الاقتصادي غير المسبوق المستمر منذ خريف 2019، والذي جعل غالبية اللبنانيين تحت خط الفقر. وسرعت من وتيرة الهجرة خصوصاً في صفوف الشباب الباحثين عن بدايات جديدة.
وتقول حصروتي، "تقتلنا الطبقة الحاكمة كل يوم... إن لم نمت في الانفجار، نموت من الجوع ومن الافتقار لأبسط حقوق الإنسان".
"كابوس"
وبعد عامين من الانفجار، لم تستعد بيروت عافيتها مع بنى تحتية متداعية ومرافق عامة عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، لا سيما الكهرباء والمياه. وتغرق العاصمة ليلاً في ظلام دامس فيما ملامح الدمار حاضرة في المرفأ والأحياء المجاورة.
ومنذ الشهر الماضي، تثير النيران المندلعة في الأجزاء الشمالية من الإهراءات خشية اللبنانيين، خصوصاً عائلات الضحايا والقاطنين في محيط المرفأ، وتجدد الصدمة التي خلفها الانفجار.
وتوضح لارا خاتشيكيان (51 عاماً) وهي تشاهد ألسنة النيران من منزلها المواجه للمرفأ، وسبق للانفجار أن دمره، أن المنظر أشبه بـ"كابوس". وتقول، "أشعر وجيراني بتوتر دائم. ينتابني الخوف طيلة الوقت ولا نتمكن من النوم" ليلاً.
وعند انهيار جزء من الصوامع الشمالية، الأحد، الأكثر تضرراً من الكارثة، انبعث دخان وغبار من المرفأ أعاد التذكير بسحابة ضخمة خلفها الانفجار قبل عامين وأمكن رؤيتها من مناطق عدة.
وتوضح لارا، "الدخان لا يحتمل والرائحة منبعثة من هناك منذ أيام. تحتاج إلى قدرة خارقة للعيش عندما يتم تذكيرك في كل لحظة بالانفجار".
التحقيق القضائي
وحذر الخبير الفرنسي إيمانويل دوران، الذي يراقب معدلات سرعة انحناء الصوامع عبر أجهزة استشعار، الأربعاء، من أن الانهيار التالي "يمكن أن يبدأ في أي وقت" وسيشمل "على الأقل أربع صوامع وما يصل إلى 10 في دفعة واحدة"، ما سيولد غباراً وضوضاء ويثير الذعر على نطاق واسع.
وفي أبريل (نيسان)، اتخذت الحكومة قراراً بهدم الإهراءات خشية على السلامة العامة، لكنها علقت تطبيقه بعد اعتراضات قدمتها مجموعات مدنية ولجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ التي تطالب بتحويل الإهراءات إلى معلم شاهد على الانفجار وتخشى تخريب موقع الجريمة.
ويؤجج تعليق التحقيق منذ نهاية 2021، غضب الأهالي المنقسمين بدورهم إزاء عمل المحقق العدلي طارق البيطار، الذي يواجه دعاوى رفعها تباعاً مدعى عليهم بينهم نواب حاليون ووزراء سابقون.
ويثير التحقيق انقساماً سياسياً مع اعتراض قوى رئيسة، أبرزها ميليشيات "حزب الله"، على عمل البيطار واتهامه بـ"تسييس" الملف.
ويقول مصدر قضائي مواكب لمسار التحقيقات، إن "البيطار واثق بأن التحقيق سيصل إلى نهاياته" بعد أن "بلغ مراحل متقدمة جداً". وينتظر البيطار، وفق المصدر ذاته، "البت بالدعاوى ضده" ليستأنف في حال ردها تحقيقاته، ويتابع "استجواب المدعى عليهم" تمهيداً لختم التحقيق.