لما اقتنع الوزيران الجزائريان السابقان، جمال ولد عباس والسعيد بركات، بأن إجراءات رفع الحصانة البرلمانية عنهما استعداداً للمحاكمة، لا رجعة فيها، قررا معاً التنازل عن الحصانة "طوعاً"، في وقت بدأت شخصيات أخرى، تشغل مناصب نيابية في البرلمان بغرفتيه، التهرب من إجراءات سحب هذا الغطاء القانوني، خوفاً من المحاسبة.
وشرع مكتب المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الثانية للبرلمان) في إجراءات رفع الحصانة عن الوزير السابق للنقل، النائب بوجمعة طلعي، الذي كان ذُكر ضمن قائمة اسمية من 12 وزيراً ومحافظاً سابقاً. وأوضح البرلمان في بيان أنه "وافق خلال اجتماع برئاسة معاذ بوشارب رئيس المجلس، على طلب رفع الحصانة عن النائب بوجمعة طلعي وإحالته على اللجنة القانونية للمجلس".
واسم بوجمعة طلعي، هو الثاني على قائمة البرلمان، رفقة وزير الأشغال العامة السابق، عمار غول (نائب مجلس الأمة)، وكلاهما يتهرب من إجراءات سحب الحصانة، بعكس تصرف جمال ولد عباس والسعيد بركات، اللذين تنازلا طوعاً عن الحصانة، بعدما قالا إنها "سئما" من الذهاب والإياب إلى مقر البرلمان.
وكانت النيابة العامة لدى مجلس قضاء الجزائر، أحالت في مايو (أيار) الماضي إلى النائب العام لدى المحكمة العليا، ملف التحقيق الابتدائي المنجز من قبل الضبطية القضائية للدرك الوطني في الجزائر بشأن وقائع ذات طابع جزائي منسوبة لـ12 مسؤولاً رفيعاً من بينهم بوجمعة طلعي، وذلك عملاً بأحكام المادة 573 من قانون الإجراءات الجزائية.
بدوره يحاول عمار غول، وهو رئيس تجمع أمل الجزائر (التحالف الرئاسي حول بوتفليقة سابقاً)، التهرب من إجراءات رفع الحصانة، بعدما أعلن مجلس الأمة أنه اجتمع رسمياً لدراسة طلب وزير العدل رفع الحصانة عنه. وأوضح بيان لمجلس الأمة أن اجتماعاً ترأسه رئيس المجلس بالنيابة صالح قوجيل، يأتي "عملاً بأحكام المادة 125 من النظام الداخلي لمجلس الأمة. وعلى لجنة الشؤون القانونية والإدارية وحقوق الإنسان والتنظيم المحلي وتهيئة الإقليم والتقسيم الإقليمي أن تعد تقريراً في الموضوع ورفعه إلى المكتب، على أن يُعرض تقرير اللجنة في ما بعد على الأعضاء للفصل فيه ضمن جلسة مغلقة". وإن تعالت الأصوات بتعديل إجراء رفع الحصانة، لتفادي تحول البرلمان إلى ملاذٍ آمنٍ للجناة والمحتالين والنصابين، إلا أنه ومنذ عام 1997 سرى اتفاق ضمني بين النواب، يجعل عدم رفع الحصانة عن أي من زملائهم أمراً ثابتاً لا يتغير، بمعنى أن التواطؤ كان داخلياً في أكثر من مرة، لولا ضغط الحراك الشعبي.
المراهنة على عطلة البرلمان
وذكرت مصادر قضائية لـ"اندبندنت عربية"، أن النيابة العامة تحضر قائمة إضافية بعدد من الشخصيات المطلوبة للتحقيق في ملفات فساد، من بينهم نواب في البرلمان، إلا أن إجراءات سحب الحصانة، أثبتت أنها عملية معقدة، أو يُراد لها ذلك، حيث تستغرق قرابة ثلاثة أشهر على الأقل، ما جعل الوزيرين السابقين طلعي وغول، يرفضان الامتثال للجنة الشؤون القانونية في كل من المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة على التوالي، أملاً في بلوغ موعد إغلاق الدورة الوطنية للبرلمان مطلع يوليو (تموز) المقبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقرّ الدستور الجزائري عطلةً برلمانية لمرة واحدة سنوياً، تبدأ عادةً في يوليو (تموز) وتنتهي في سبتمبر (أيلول). ويعتقد الوزيران أن معطيات سياسية قد تتغير إلى حين ذلك التاريخ.
وتحدث المحلل السياسي العربي زواق، عن احتمالات نجاة بعض المحتمين بامتياز الحصانة في البرلمان، قائلاً "حصانتهم ستسقط حتماً، ليس لأننا بلد قانون وعدالة ولكن الظرف العام في البلاد يجبر البرلمان على إسقاط الحصانة وفق إجراءات القانون". وأضاف زواق "منطق المرحلة يفرض الرضوخ واعتقد أن سجن الحراش ينتظر الكثيرين منهم"، مشيراً إلى أنه من "الطبيعي أن يتخوفوا من الحبس، ولكن لو كانوا عقلاء وأدركوا أنها حتمية تاريخية لفعلوا ذلك طواعية".
الحراك كشف "تواطؤ" البرلمان
لم يسبق للبرلمان الجزائري أن باشر إجراءات سحب الحصانة ولو بطلبٍ من النيابة العامة، إلا في استثناء وحيد ضد البرلماني جوهري مليك، عن التجمع الوطني الديمقراطي قبل أشهر، بضغط من رئيس الحكومة السابق، أحمد أويحيى. وكثيراً ما ضغطت أحزاب ممثَلة في البرلمان، للكشف عن قائمة طويلة من الاعتداءات التي توقفت التحقيقات فيها عند مكتب المجلس. وتشير ملفات في مكتب رئيس البرلمان إلى "مخالفات" عدة يُتهم فيها نواب، لكنها أُقفلت لأسباب مختلفة كانت ستؤدي إلى محاكمات لو تم نزع الحصانة.
ويحصي البرلمان عدداً كبيراً من "المخالفات" التي وردت فيها أسماء نواب. وإن كان ظهور أسماء النواب في تحقيقات أمنية، مرده أحياناً إلى شكاوى "مفتعلة" وأحياناً أخرى إلى تسببهم بجرائم كبرى، فإن الظاهرة أخذت منحى تصاعدياً في الولاية التشريعية الأخيرة (بدءاً من عام 2017).
وجمّد البرلمان الجزائري، لأسباب غير معروفة، قضايا عدة تورط فيها نواب، أشهرها قضية النائب عن التجمع الوطني الجمهوري إسماعيل ميرة. فعلى الرغم من أن ملف ميرة، كان سيشكل سابقة في تاريخ الجزائر المستقلة لرفع الحصانة عن نائب، لكن الإجراءات في هذا المنحى توقفت لأسباب تبقى مجهولة إلى اليوم، على الرغم من أن مكتب المجلس الشعبي الوطني، وافق يومها على طلب النائب ميرة، الذي اتُهم بارتكاب جريمة قتل بحق أحد المواطنين في منطقة تازمالت مدينة بجاية، لرفع الحصانة عنه من دون المرور عبر الآليات القانونية المعروفة.
وتفيد مصادر برلمانية بأن مكتب المجلس رفض في السابق قبول عشرات الطلبات المماثلة (رفع الحصانة). ويحصي قانونيون "ثغرات" في الآليات القانونية لرفع الحصانة، وذلك في ما يتعلق بالطلبات المنبثقة من طلب المعني نفسه، ومن جهة أخرى يُعفى المجلس من اللجوء إلى الآليات القانونية في حالة طلب رفعها من قبل وزير العدل حافظ الأختام، والمقترنة عادةً برفض المعني للأمر، على الرغم من أن الدستور والنظام الداخلي لا يشيران إلى أي استثناء يحول دون المرور عبر موافقة مكتب المجلس وتزكية النواب له في جلسة علنية يتم تسييرها وفق إجراءات محددة بدقة.
وتتحمل وزارة العدل المسؤولية في كثير من الملفات المرتبطة بـ"تجاوزات النواب"، لكونها هي التي تتلقى نتائج تحقيقات أجهزة الأمن، تمهيداً لتحويلها إلى البرلمان للفصل فيها والتقرير بإحالتها إلى التصويت بإسقاط الحصانة أو عدمها، لكن الوزارة أيضاً بحسب مصادر ترد بأن عشرات القضايا أحالتها الوزارة على رئيسَي غرفتَي البرلمان خلال السنوات الماضية، لكنها بقيـت حبيسـة أدراجهما.