يعد كثير من الباحثين الفيلسوف العالم غوتفريد ڤيلهلم لايبنيتس (1646-1716) من أعظم الفلاسفة الألمان قبل حقبة كانط وهيغل وهوسرل وهايدغر. والحال أن هؤلاء الخمسة يزينون كوكب الفلسفة الألمانية المشع. تشتمل أعماله على سبعين كتاباً في طبعة أكادميا برلين، وعلى عشرين ألف رسالة. اشتهر بنقده الصارم فكر دكارت (1596-1650) الفيزيائي والميتافيزيائي والرياضي. اخترع الحساب المتناهي الصغر، وأسهمت أنظومته الفلسفية في التمهيد لانبثاق الأزمنة الفكرية الحديثة. يرهب بعضنا الخوض في غمار النصوص التي أنشأها، ويخشى الغوص في المعاني الكثيفة العميقة التي تنطوي عليها عمارته الفلسفية، ولكن لا بد من الجرأة البحثية حتى يستجلي المرء خصوصية الإسهام الذي أتى به واحد من أعظم فلاسفة التاريخ.
لا ريب في أن المعرفة الموسوعية التي اكتسبها في تنشئته جعلته يرتاد حقولاً شتى من الاختصاص. فإذا به يلمع في ميدان الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والمنطق واللاهوت والقانون والتاريخ والسياسة. منذ فتوته، برزت عليه علامات التفوق الاستثنائي. في عمر السابعة عشرة أعد أطروحة فلسفية تناول فيها مبدأ التفرد (Prinzip der Individualisierung)، فأبان أن الفردية تنشئها ماهية الشيء عينها. في عام 1670 دخل قصر أمير ماينتس (Mainz) مستشاراً سياسياً. وما لبث أن عين حافظاً للمكتبة الشهيرة التي كان يملكها دوق براونشڤايغ في مدينة هانوڤر.
عهدت إليه السلطات السياسية بمهام دبلوماسية، فجاب معظم الأوطان الأوروبية. في باريس التي أقام فيها خمس سنوات، التقى الفيلسوف اللاهوتي عالم الرياضيات الكاثوليكي أنطوان أرنو (1612-1694)، والفيلسوف الكاهن الكاثوليكي نيقولا مالبرانش (1638-1715)، واكتشف فلسفة دكارت ورياضيات باسكال (1623-1662). أما في لندن، فتعرف إلى كتابات نيوتون (1643-1727)، وأفكار الفيلسوف التجريبي لوك (1632-1704) الذي ما لبث أن انتقده، في حين أتاحت له إقامته في مدينة دن هاغ الهولندية الاطلاع على نصوص سبينوزا (1632-1677).
من خصائص سيرته الفكرية أنه استطاع أن يستثمر عبقريته الجامعة في استخراج خلاصات غنية استخدمها في مجالات شتى، إذ تمكن من اقتراح توحيد التشريع الألماني والتشريع الأوروبي، وأفضى إلى صوغ مؤالفة انسجامية بين ميتافيزياء الطبيعة وفيزياء الفرد. لا عجب، والحال هذه، من أن تستعيد الإبيستمولوجيا المعاصرة أنظومته المبنية على مبدأ الجواهر المستقلة (المونادات) التي تحتضن خلاصة الموجودات.
انتقاد دكارت ولوك
لم يكن لايبنيتس مقتنعاً بمبدأ الكوجيتو الذي يربط الوجود بالفكر المحض بحسب قولة دكارت الشهيرة "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، ذلك بأن هذا الاختبار لا يمكنه أن يؤسس المعرفة بمعزل عن موضوعات التفكير (cogitata)، وبمعزل عن المادة وقوانينها، وبمعزل عن المبادئ التي تضبط عمل العقل. فالحقيقة لا يجوز لها أن تهمل قوانين الواقع، ومنها مبدأ العلة الكافية الذي يرسم أن لا شيء يقوم بلا سبب، ومبدأ الاستمرارية الذي يقصي من مسار الطبيعة افتراض القفزات الاستثنائية المنعزلة عن قرائنها، ومبدأ التمايز بين الكائنات الذي يفرض الاختلاف منعاً للتماهي المطلق.
ومن ثم، رفض لايبنيتس المعرفة الفطرية التي كان يقول بها دكارت، إذ إن هذه المبادئ التي تتألف منها بذار الحقيقة لا تصبح فاعلة إلا على قدر ما تنطبق على التجربة. وخالف أيضاً تجريبية لوك الذي كان يجزم أن الذهن لا يملك أي معرفة فطرية، إذ إن المعارف إنما تأتيه من التجربة. أما جواب لايبنيتس فكان صريحاً واضحاً "لا يملك الذهن أي معرفة فطرية ما خلا الذهن عينه"، أي ما خلا القوانين الفطرية التي يمتلكها العقل والتي تحتاج إلى التجربة حتى تخرج من فطريتها المضمرة. بذلك يبطل لايبنيتس فطرية دكارت، إذ يضم إليها موضوعات الفكر، ويتجاوز تجريبية لوك، إذ يثبت أسبقية وجود العقل الذي ينطوي على ضمة من القوانين المعرفية الأساسية.
قبل كانط، صاغ لايبنيتس شعار التنوير الأوروبي على هذا النحو "كل إنسان يملك القدرات التي تؤهله لتدبير حياته تدبيراً عاقلاً" (Jeder Mensch besitzt Fähigkeiten zur vernünftigen Lebensführung). إذا كانت معظم الهبات والملكات التي تمنحها الطبيعة الإنسان السوي يمكن أن تفسده في وجه من وجوه استخدامها المنحرف، فإن العقل الأصيل يظل الرفيق الأمين الذي يضمن للإنسان النجاح الوجودي والخلاص الكياني، شرط أن يعتصم به المرء اعتصامه بمنارة الهداية. ومن ثم، يجدر بنا أن نحذو حذو الفيلسوف الإغريقي ڤيتاغوراس (نحو 570-495 ق. م.) الذي كان يعتقد أن الأرقام تنطوي على أعمق أسرار الكون، لذلك حين نفصح عن العقل بواسطة الأرقام، نبطل الاعتراض الذي يجابهنا به الجاهلون المتباهون بمساءلتنا وإرباكنا، "من أين لكم أن تعرفوا أن عقلكم أفضل من عقلنا؟ ما معيار الحقيقة الذي تملكونه دون غيركم؟".
الجواهر المستقلة أو الطاقات المنغرسة في المادة
بناءً على النقد الذي وجهه لايبنيتس إلى دكارت أخذ يرفض أيضاً ثنائية المادة والروح (أو الفكر)، ذلك بأن دكارت، في نظر لايبنيتس، خلط الجوهر الجسدي بالامتداد. فالمادة التي يصفها دكارت إنما هي امتداد منفعل مؤلف من نقاط فيزيائية. ومن ثم، لا تحمل هذه المادة خصائص الجوهر، أي القوام الذي ينشأ ويدوم بقوته الذاتية حاملاً فيه مبدأ الحركة والفعل. بخلاف ذلك، تضاف إلى هذا الجوهر الحركة من الخارج، فينفعل بها من غير أن يستطيع أن يزيد عليها أو أن ينتقص منها، بيد أن التجربة تعلمنا أن ما يقوم بذاته ويحافظ على ذاته ليس كمية الحركة، بل كمية القوة الحية، وهي العبارة التي يستخدمها لايبنيتس ليدل على أن القوة تساوي الحجم مضروباً بالسرعة المضاعفة. وعليه، يصرح بأن القوة أصل الحركة، لا بل يرد المادة إلى القوة، وقد حملها على معناها الفيزيائي بوصفها مبدأ الحركة، أي ما به تصير حركة الجسم.
يتوسع لايبنيتس في هذا البرهان لكي يرفض ثنائية دكارت، ويبين لنا أن القوة هي الماهية المشتركة الناشبة في المادة وفي الروح على حد سواء، أي إنها عين الجوهر ينطوي على وحدة متماسكة من القوة الذاتية. من أجل التعبير عن هذا كله، يأتينا باصطلاح يوناني الجذر (monas) استعاره من نصوص الفيلسوف الأفلوطيني بروكلوس (412-485) يطلق عليه اسم الموناد الذي يعني الوحدة. ومن ثم، يعلن أن هذه المونادات التي تملأ الكون جواهر بسيطة، لا أجزاء متفرعة لها، تتألف منها الأجسام المختلطة. المونادات ذرات روحية ميتافيزيائية تشبه النفوس الإنسانية، تملك في عفويتها الخاصة مبدأ فعلها وانفعالها، وكأنها آلات روحية تستثير فيها التبدلات بمقتضى مبدأ داخلي لصيق بها.
خلافاً لأرسطو الذي يتصور القوة على صورة الإمكان المحتاج إلى عنصر خارجي لكي ينتقل إلى طور الفعل، يحدد لايبنيتس القوة نزوعاً متقداً جاهداً إلى الفعل الذي يتحقق بمعزل عن العوائق والموانع. وخلافاً لدكارت الذي كان يفسر أحوال الامتداد بالاستناد إلى المشيئة الإلهية وإلى الخلق المستمر وإلى الحركة الناشطة، ويبطل إمكان الفراغ واستقلال الأجسام الحية، ارتأى لايبنيتس أن يفسر حركة الوجود كله مستعيناً بالقوة الذاتية الاندفاع هذه، أي بالجوهر الواجب الوجود، القائم بحد ذاته، المنبثق من علة ذاته. ومن ثم، يضحى العالم أشبه برحابة كونية لا متناهية تنتظم انتظاماً انسجاميا مذهلاً، وتتألف من مونادات أو وحدات جوهرية تجعل المادة بمنزلة الحديقة الغناء تملؤها النبتات، أو بمنزلة بحيرة مليئة بالأسماك تنطوي كل نقطة مائية فيها على عالم من الغنى اللامتناهي (لايبنيتس، المونادولوجيا، فقرة 67).
أما خلاصة فكره في المونادات، فيوجزها في إحدى رسائله على هذا النحو، "في كل موناد يحتشد الكون احتشاداً مركزاً مكثفاً، وكل روح وجه من وجوه محاكاة الألوهة. أما الله، فلا يحتشد فيه الكون فحسب، بل يعبر عنه هذا الكون تعبيراً كاملاً، ولكن في كل موناد مخلوق يفصح جزء من الأجزاء عن ذاته إفصاحاً واضحاً تتباين مقاديره بحسب تفاوت مراتب التفوق في النفس، في حين أن الباقي الذي يشمل اللامتناهي لا يعبر عنه إلا تعبيراً ملتبساً (...)، حين نقول إن كل موناد أو نفس أو روح حظي بناموس خاص، ينبغي أن نضيف أن هذا الموناد ليس إلا صيغة منوعة من صيغ الناموس العام الذي يضبط الكون، شأنه شأن المدينة الواحدة تبدو لنا على هيئات مختلفة بحسب مواضع النظر التي منها ننظر إليها (...) من عجيب الأمور أن الحكمة الإلهية العظمى استطاعت، بواسطة الجواهر الممثلة، أن تنوع العالم نفسه في الوقت عينه على نحو لا متناهٍ".
نظام الوحدات الجوهرية في العالم
ومن ثم، يحرص لايبنيتس على وصف الكون مؤلفاً من مونادات أو وحدات جوهرية تضمن له التواصل والتماسك. كل وحدة من هذه الوحدات تظهر لنا تعبيراً خاصاً من تعابير الكون الرحب. وكل تعبير من هذه التعابير ينفرد بتناول خاص، ولكنه يأتلف ائتلافاً مذهلاً والكلية الكونية المشرعة، ذلك بأن الجواهر مرآة الكون، بها يتجلى في تنوع عناصره وخصائصه. كل جوهر يتصف بصفات خاصة تميزه من غيره. إلا أن هذه الصفات تجعله يفصح عن طريقته في تناول الجواهر الأخرى تناولاً يصون الكثرة في الوحدة، لذلك يعاين لايبنيتس في الكون مسرحاً رحباً لتدفق الحياة التي تسري في النفوس، ويقسمه ثلاثة أقسام: القسم الأدنى الذي يحتوي على المونادات أو الوحدات العارية المتجلية في المادة والمجردة من كل وعي ذاتي، والقسم المتوسط الذي يضم المونادات الإحساسية، وقد انتظمت في فئة نفوس النبتات والحيوانات التي تختبر الإدراكات الواعية والاشتهاءات العفوية، والمونادات العاقلة التي تنفرد بوعي إدراكها وباختيار اشتهاءاتها اختياراً حراً، والقسم الأعلى الذي يسكنه الجوهر الإلهي يملك وحده المعرفة اللامتناهية المطلقة، وتقترن مشيئته بالفعل اقتراناً وثيقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن اللافت في هذا كله إصرار لايبنيتس على القول إن جميع هذه المونادات تتصف بصفة روحية وتختبر الوقائع عينها، ولو على مراتب مختلفة من العمق ودرجات متفاوتة من التعبير. فالحيوان ليس آلةً، والنفس لا تفكر على الدوام. خلافاً لدكارت الذي يعتقد أن النفس وعي في المقام الأول، يصرح لايبنيتس بأننا لا نعي على الدوام جميع أفكارنا، إذ إن بعضاً من إدراكاتنا الخفيفة يغمرها الالتباس ويعطبها الاضمحلال، فتفعل فينا فعلاً غامضاً يختلف عن الفعل الذي نحرزه حين ندرك إدراكاً واعياً صريحاً واضحاً. المثال على ذلك أننا لا نسمع وقع حبات المياه التي منها يتكون الموج المتدافع. غالباً ما تجعلنا الإدراكات الخفيفة هذه نشعر بأننا مدفوعون دفعاً أو منجذبون إلى هذا الأمر أو ذاك، من غير أن نعرف سبب الدفع أو الانجذاب. إنها أحوال غامضة من القلق الذي ينتابنا، ومشاعر ضبابية من الاضطراب تختلف عن إحساسات الألم الواعية.
في جميع الأحوال، يحرص لايبنيتس على رسم هيئة الكون رسماً رياضياً متناغماً يبين لنا فيه التواصلية الانسجامية بين أقسامه كلها. فإذا به يستعين بنظام رياضي مبتكر وبمنطق جريء يستند إلى مبادئ الرياضيات الاحتمالية التوفيقية (combinatoires). لا بد لمثل هذا المنطق من أن يهمل المنهج الافتراضي - الاستنباطي، ويعتمد على قانون الجواهر الديناميكية المتحركة وعلى قانون التسلسل الذي يضع كل كائن في المنزلة التي تليق به. وعليه، يجب على المنطق الحيوي الجديد هذا أن يعزز عملية الاكتشاف المستمر (logica inventionis)، لذلك يبتكر لايبنيتس نظاماً رياضياً جديداً مستنداً إلى النموذج الرياضي العام (mathesis universalis) الذي يصور العالم في هيئة الكائن الرياضي الذي يمكن أن يحلله المرء تحليلاً مبنياً على الحسابيات الجبرية والمعادلات الخوارزمية.
عالمنا أفضل العوالم
إذا كان العالم مفطوراً على مثل الهيئة الرياضية البديعة هذه، فهل يجوز لنا أن نعاين فيه أفضل العوالم وأعدلها وأجملها وأرقاها؟ "عالمنا أفضل العوالم الممكنة"، قالها لايبنيتس بجرأة منقطعة النظير، فاستثار بقولته هذه جدلاً صاخباً، لا سيما أن كثيراً من الفلاسفة والمفكرين والأدباء أدركوا معناها إدراكاً خاطئاً، فهزئوا به، على مثال الفيلسوف الأديب الفرنسي ڤولتر (1694-1778) الذي شهر به في رواية التفاؤل البريء "كانديد" (Candide). حقيقة الأمر أن لايبنيتس لم يصف العالم القائم بالأفضل، بل العالم المتحول إلى الأفضل، أي العالم الذي يختبر قابليات التحول إلى الأفضل. أما تسويغ الأفضلية هذه، فعثر عليه في طبيعة الله الذي يخلق بحسب صلاحه المطلق ومعرفته اللامتناهية وقدرته الفائقة الوصف.
لا شك في أن الشر يكتنفنا اكتنافاً، سواء الشر الميتافيزيائي المعتلن في بؤس الكون المفطور على الاضمحلال، أو الشر الفيزيائي الظاهر في الأوجاع والآلام التي يتكبدها الإنسان، أو الشر الأخلاقي الصادر من حرية الإنسان القادر على ارتكاب الخطيئة، ذلك بأن الله لم يخلق عالم الكمال، بل عالم قابلية الاكتمال، ولم يخلق إنسان المثال الأعلى، بل إنسان السعي إلى المثال الأعلى. ومن ثم، فإن طبيعة العالم المخلوقة المحدودة تنطوي على إمكانات الفساد والاضمحلال، وطبيعة الإنسان الحر تحتمل الانحراف والضلال.
لا ريب في أن لايبنيتس يعتقد أن الله هو الكائن الأسمى الذي يملك العقل الكوني اللامتناهي. من هذا العقل تنبثق الماهيات التي تستوطنها أجمل الممكنات، ولكنه يصر أيضاً على أن المشيئة الإلهية تخضع لمبدأ العقل والمنطق. وعليه، فإن هذا المبدأ يجعل الله ينجز في خلق عالمنا أفضل الممكنات القابلة التحقق في عالم واحد. فيجمع جمعاً مثالياً النظام والتنوع، مستثيراً أعظم قدر من الإمكانات والماهيات، دافعاً إياها إلى حيز الوجود. المثال على ذلك مسلك المونادات التي لا تتلاقى ولا يمس بعضها بعضاً ولا تتواصل. إلا أن مكراً إلهياً صالحاً ينشئ بينها تناغماً يتيح الانسجام بين النفس والجسد. من خصائص هذا التناغم أنه يضبط مسار الكون، جاعلاً هذه المونادات تنسجم أيضاً انسجاماً لا يعفيها من الخضوع لقوانينها الخاصة. من جراء ذلك كله، يصالح لايبنيتس المذهب الآلي الذي يخضع الكائنات لقوانين الحركة المادية، والمذهب الغائي الذي ينسب إلى الله فعل الخلق الذي يدبر حركة العالم بمعزل عن كل تسويغ سببي قاهر.