جاب قطار الدولار الأميركي أغلب الشوارع الرئيسة في الاقتصاد المصري مع اللحظات الأولى لبدء رحلته داخل القاهرة في الـ21 من مارس (آذار) الماضي (بعد خفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه في مقابل الدولار الأميركي بنحو 20 في المئة)، مقتحماً أبواب الموازنة العامة للدولة، ليحطم مخصصاتها الأساسية، ثم اشتعلت النيران في بنود فاتورة استيراد السلع الأساسية.
ومع اللحظات الأولى للحادث، عاينت الحكومة المصرية الأضرار وبدأت في الترميم والإصلاح، ما كلفها أكثر من 25 مليار دولار لمعالجة التداعيات السلبية المباشرة منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وفقاً لما أعلنه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في مايو (أيار) الماضي.
ارتفاع أسعار ساندويتشات الكبدة
ودهس قطار الدولار في طريقه أزقة وحواري بعيدة من شوارع الاقتصاد الرئيسة ليس لقاطنيها من الأمر شيئاً، فأشعل النيران في وجباتهم الشعبية الأساسية الملاذ الآمن عند غلاء وتضخم أسعار اللحوم والأسماك والدواجن، فالكشري والفول وساندويتشات الكبدة ثلاث وجبات زهيدة الثمن تمثل قائمة الطعام (المنيو) الخاصة بعلي مصطفى، سائق مركبة توك توك، يختار من بينها يومياً على سبيل الرفاهية والتغيير.
ويقضي مصطفى على مركبته الصغيرة نحو تسع ساعات عمل، وهو ما يدفعه لتناول وجبتين على الأقل خارج منزله، يقول وهو يقضم القطعة الأخيرة من آخر ساندويتشات الكبدة، "أعمل ما لا يقل عن تسع ساعات لتدبير نفقات أسرتي الكبيرة عدداً، وهي تعادل وردية كاملة، لذلك أضطر يومياً إلى تناول وجبتين خارج منزلي".
وتابع "لا أملك خيارات كثيرة عند حلول موعد الغذاء، فليس أمامي سوى الكشري أو الكبدة والفول، وهنا أحسم أمري سريعاً، قررت اليوم تناول ثلاثة ساندويتشات من الكبدة والسجق".
وحول ارتفاع الأسعار، قال مصطفى "قبل خمس سنوات تقريباً كنت أدفع في وجبة الغداء 12 جنيهاً (نحو 0.62 دولار)، إذ إن ثلاثة أرغفة من الكبدة والسجق ثمنها لا يزيد على تسعة جنيهات (0.46 دولار)، ثم أتناول زجاجة مياه غازية بثلاثة جنيهات (0.15 دولار)، الآن أدفع للوجبة نفسها ما يقارب 30 جنيهاً (1.5 دولار)".
وصب سائق المركبة الصغيرة جام غضبه على العملة الأميركية، قائلاً "منذ ارتفاع سعر الدولار في مقابل الجنيه وجميع السلع ارتفعت وليس الوجبات الشعبية فحسب".
تقليل عدد الوجبات
نبرة المرارة والحسرة التي تحدث بها سائق التوك توك عن أزمته مع سندويتشات الكبدة والسجق لم تختلف كثيراً عن صانعها، يحكي الشاب العشريني سيد "بدأت مشروع عربة الكبدة قبل ثماني سنوات عندما كان سعر الساندوتش لا يزيد على ثلاثة جنيهات (0.15 دولار)، وكنت أحقق أرباحاً أعلى مع ارتفاع حجم المبيعات، لكن انقلب الحال عندما ارتفع ثمن الرغيف إلى سبعة جنيهات (0.36 دولار)، في الوقت الحالي تراجعت المبيعات بنسبة لا تقل عن 50 في المئة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأرجع سيد ذلك إلى الغلاء الذي طال كل شيء، "مما دفع بعض زبائنه من سائقي التوك توك أو التاكسي أو سيارات الميكروباص والعاملين بالجوار إلى التقليل من تناول وجباتهم خارج المنزل في محاولة لتقليل النفقات، مضطر أن أرفع الأسعار بسبب ارتفاع بنود التكلفة من أسعار الكبدة وزيت الطعام وحتى التوابل وإلا سأخسر أموالي".
ومنذ مارس الماضي، زادت أسعار زيت الطعام بنحو 15 في المئة عقب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، بسبب اعتماد مصر في جانب من وارداتها من الزيوت على طرفي الصراع، إذ سجل سعر طن الزيت 28 ألف جنيه (1461 دولاراً أميركياً) في مقابل 25 ألف جنيه (1305 دولارات أميركية) قبل الزيادة، وتعتمد القاهرة على استيراد زيوت الطهي من الخارج بنسبة تزيد على 90 في المئة.
عربات الفول لم تعد للفقراء فقط
قطار الدولار لم يرحم الوجبة الأشهر عند المصريين، إذ تضاعف ثمن وجبة الفول (تتكون من ثلاثة أطباق: فول وطعمية وسلطة أو مخلل) على عربة "عبده ويمبي" في منطقة إمبابة، إحدى المناطق الشعبية بمحافظة الجيزة، بنسبة 100 في المئة في غضون ثلاث سنوات فحسب، على الرغم من تأكيده أنه لم يرفع أسعار الوجبات منذ مارس الماضي مراعاة للحالة الاقتصادية.
يقول عبده "الغلاء طال كل شيء من أسعار الفول والزيت والطماطم والخضراوات وزيت الطهي، حتى إيجار الحيز الذي تقف فيه العربة منذ خمس سنوات، سعر الوجبة كان في الفترة من 2015 حتى 2017 لا يزيد على سبعة جنيهات (0.36 دولار)، ومع حالة الغلاء ارتفع السعر إلى 14 جنيهاً (0.73 دولار)، وهو ما يعني ارتفاعاً في ثمن الوجبة بمقدار 100 في المئة تقريباً". مستدركاً "رغم ارتفاع الأسعار والدولار منذ نحو خمسة أشهر لم أرفع الأسعار مراعاة للطبقة الكادحة من العمال والسائقين الذين يعتبرون تلك الوجبة أساسية لبدء يوم عمل شاق وثقيل".
ولم يخف عبده ما في صدره عن المستقبل، إذ إنه قد يرفع الأسعار مستقبلاً، "التاجر لا يرحم سيرفع سعر الفول بمجرد علمه بارتفاع أسعار الدولار، وحجته أن الفول يستورد من الخارج، لذلك يتأثر بسعر الدولار".
وتحسر عبده على تلك الفترة عندما كانت الوجبة لا تزيد على سبعة جنيهات، "كنت في تلك الفترة أقوم بتسوية 3 قدرات (إناء كبير لتسوية الفول قبل بيعه) في اليوم الواحد، أما الآن فلو أتممت قدرتين فقط يكون ذلك يوماً قياسياً".
والتقط أحد المواطنين، نور درويش، طرف الحديث وهو ممسكاً بشنطة تحوى كيساً ممتلئاً بالفول وقرطاس طعمية، قائلاً "الأسعار ارتفعت بشكل مخيف، وللأسف لن أستطيع مقاطعة تلك الوجبة، لأنها ستظل الأقل سعراً بين الأنواع الأخرى من الوجبات على الرغم مما يحدث من ارتفاع".
طبق الكشري: أحجام وأسعار
وفي وسط القاهرة وأمام أحد أشهر محال الكشري الشهيرة بالعاصمة يجلس صاحب المحل يوسف يتابع عمليات البيع والشراء ويراقب زبائنه سعيداً بالزخم والزحام على أطباق الكشري.
يقول العم يوسف "أعمل في تلك المهنة منذ 40 عاماً، ورثتها كابراً عن كابر، الآن الأسعار اختلفت تماماً عن فترة التسعينيات عندما كان يقدم طبق الكشري الفاخر بسعر لا يزيد على خمسة جنيهات (0.26 دولار) مقارنة بالسعر الحالي، الذي وصل إلى 20 و30 جنيهاً (1.56 دولار)".
ويضيف "عندي زبائن من الدرجة الأولى يطلبون أطباقاً يصل ثمنها إلى 60 جنيهاً (3.13 دولار)، وأبيع هذا وذاك حتى لا أحرم الفقراء من وجبات الكشري المحببة إليهم، وحتى الآن لدينا أطباق بأسعار تتراوح بين خمسة و10 جنيهات (0.52 دولار) حتى يأكل الجميع".
وحول ارتفاع أسعار أطباق الكشري قال يوسف "أصحاب المحال يعانون ارتفاع أسعار المعكرونة والأرز والطماطم وزيت الطهي، إضافة إلى دفع المرتبات والأجور والإيجارات، نحن مضطرون لرفع الأسعار، هل هناك شخص يبحث عن الخسائر؟ لا بد من رفع السعر لتعويض تلك التكلفة المرتفعة".
وعلى مائدة ذات أربعة مقاعد يجلس شاب ثلاثيني منتظراً إعداد طبق الكشري الخاص به، يقول "أعمل في منطقة وسط البلد، وعليّ أن أتناول وجبة على الأقل خارج المنزل بشكل يومي، وأتناول طبق الكشري منذ 10 سنوات تقريباً، وبالطبع تغيرت الأسعار بشكل كبير".
ويضيف "طبق الكشري لا غنى عنه، إذ يمثل وجبة غذائية متكاملة، تتكون من الأرز والمعكرونة والعدس والبصل والطماطم، وتلك المكونات تفي بالحاجة لمواصلة العمل حتى العودة إلى المنزل، أتناول طبق كشري يومياً تقريباً بسعر 20 جنيهاً (1.044 دولار) حالياً في مقابل 10 جنيهات للطبق نفسه منذ بضع سنوات، وهذا مبلغ زهيد إذا تناولت وجبة أخرى".
التضخم يعاود الارتفاع
مرارة ارتفاع الأسعار في الشوارع والحواري والأزقة المصرية كشفت عنها، اليوم الأربعاء الـ10 من أغسطس (آب)، بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إذ أعلن ارتفاع معدلات التضخم السنوي في المدن المصرية إلى 13.6 في المئة في يوليو (تموز) الماضي من 13.2 في المئة في يونيو (حزيران)، بينما أظهرت البيانات ارتفاع التضخم الشهري في يوليو الماضي 1.3 في المئة من 0.1 في المئة خلال يونيو الماضي.