وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى جنوب أفريقيا، الإثنين، الثامن من أغسطس (آب)، لبدء جولة تشمل ثلاث دول أفريقية، في وقت تتنافس فيه القوى الكبرى على النفوذ داخل القارة السمراء، إذ جاءت جولة كبير دبلوماسيي الولايات المتحدة في أعقاب جولة مماثلة أجراها أخيراً نظيره الروسي سيرجي لافروف في أفريقيا، زار خلالها مصر وأوغندا وإثيوبيا وجمهورية الكونغو في يوليو (تموز) الماضي، وهو ما يشير إلى محاولات أميركية وغربية لاحتواء النفوذ الجيوسياسي المتزايد لروسيا والصين داخل القارة.
جولة وزير الخارجية الأميركي حظيت باهتمام الصحافة الغربية التي أقرت بسعي الولايات المتحدة إلى التنافس مع روسيا حول "قلوب وعقول الدول الأفريقية"، بحسب وصف صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، كما جاءت رحلة بلينكن إلى أفريقيا في أعقاب جولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مما يؤكد حاجة الغرب إلى كسب الدعم الأفريقي في شأن الحرب الأوكرانية.
وتشكل الدول الأفريقية 27.97 في المئة من إجمال أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما بدا تأثيره خلال مارس (آذار) الماضي عندما صوت أعضاء الهيئة الأممية على قرارات تطالب روسيا بوقف الحرب في أوكرانيا وسحب قواتها، ففي حين انحازت معظم البلدان الأفريقية إلى أوكرانيا بتصويت 28 من أصل 54 بلداً بنسبة 51.85 في المئة لمصلحة القرارات، فإن ما يقرب من الثلث امتنع من الانحياز إلى أي جانب (17 من 54 دولة)، وغابت ثمان دول عن المشاركة، إضافة إلى تصويت إريتريا ضد القرار.
وفيما بدأ بلينكن جولته من جنوب أفريقيا يقول مدير برنامج أفريقيا لدى معهد "شاثام هاوس" (مركز أبحاث مقره لندن) ألكس فينس، إن "جنوب أفريقيا دولة لا تتمتع بعلاقة جيدة مع الولايات المتحدة، فالحزب الحاكم أو المؤتمر الوطني الأفريقي يصدر بانتظام بيانات تنتقد واشنطن، وبالتالي فإن الجهد المبذول هو كيفية تحسين العلاقة وإجراء حوار بناء أكثر على الأقل مع جنوب أفريقيا". وأضاف في تعليقات لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية أن "هناك فرقاً كبيراً بين رؤيتي واشنطن وبريتوريا للمسألة الروسية - الأوكرانية"، وكانت جنوب أفريقيا ضمن البلدان التي امتنعت من تصويت الأمم المتحدة لإدانة روسيا.
الإرث السوفياتي
ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، استحوذت روسيا على 44 في المئة من واردات أفريقيا من الأسلحة خلال السنوات الخمس المنتهية في 2021، أي أكثر من ضعف نصيب الولايات المتحدة التي احتلت المرتبة الثانية بفارق كبير عن روسيا، وتقول الصحف الأميركية إنه على مدى السنوات القليلة الماضية أقامت روسيا عدداً من التحالفات العسكرية مع الحكومات الأفريقية التي تواجه حركات تمرد عنيفة أو عدم استقرار سياسي، بما في ذلك ليبيا ومالي والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق.
ويشير معهد السياسة العامة العالمي في برلين إلى أنه خلال العقد الماضي انخرطت روسيا في حملة منسقة لكسب النفوذ في القارة الأفريقية، وأخيراً استطاع من يوصفون بـ "المرتزقة الروس" إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في مالي.
وفي حين ينشغل المحللون الغربيون بالمخاوف في شأن توسع الصين في أفريقيا التي لها بصمة أكبر كثيراً وتعتمد على مشاريع بنية تحتية ضخمة ومحاولات أقل للتأثير في السياسة، يقول المعهد إنه على النقيض من ذلك تمكنت روسيا من اكتساب النفوذ من خلال توظيف قوتها واستغلال نقاط الضعف الغربية، وبينما يمكن التشكيك في استدامة نفوذ موسكو فإن جهودها في الوقت الحالي تثبت فعاليتها وبثمن قليل.
ويضيف أن موسكو تمسكت بقوة بإرث الاتحاد السوفياتي في دعم نضالات التحرير وحكومات ما بعد الاستعمار، وهو الأمر الذي يتردد صداه لدى عدد من القادة الأفارقة، إذ دفعت روسيا المعاصرة بسردية أنها حليف طبيعي للدول الأفريقية يحترم سيادتها عكس التدخل الغربي الإمبريالي الجديد.
ويستخدم هذا الخطاب في المشاريع الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب أفريقيا والسودان وليبيا والكونغو الديمقراطية وأخيراً مالي، كما توضح الوثائق الروسية الداخلية التي جرى تسريبها العام 2019 هذا الأمر بشكل لا لبس فيه، فتقول إنه يجب على موسكو دعم تطوير الهويات الذاتية الأفريقية بسبب الطبيعة التاريخية المناهضة للإمبريالية.
فشل عزل روسيا
وبالنظر إلى تلك العلاقة يقول مراقبون إن المحاولات الغربية لعزل روسيا بسبب حربها على أوكرانيا فشلت في تحقيق هدفها، ويقول مدير برنامج أفريقيا لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ثيودور مورفي إن "لافروف يستخدم أفريقيا لإثبات أن بلاده لا يزال لديها شركاء في بعض أجزاء العالم"، وفي بيانها حول زيارة لافروف إلى مصر الشهر الماضي، قالت "الخارجية الروسية" إن لقاء لافروف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري أظهر أن روسيا ليست منعزلة عن العالم.
وخلال رحلته في أفريقيا ركز لافروف خطابه على أفريقيا كشريك تجاري مهم لروسيا، وسلط الضوء على العقود التي أبرمتها موسكو عبر القارة لتصدير الغذاء والسماد والطاقة، لكن شبكة "سي إن بي سي" تشير إلى أن وزير الخارجية الروسي كان يهدف بشكل رئيس إلى توسيع نفوذ روسيا في أفريقيا، مستغلاً في سبيل ذلك الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الغرب من خلال مطالبة الدول الأفريقية باختيار أحد جانبي الصراع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي خضم ذلك عمدت واشنطن مع حلفائها الأوروبيين إلى إلقاء اللوم على موسكو في شأن أزمة الغذاء العالمية، إذ تشهد الأسعار ارتفاعاً متسارعاً مدفوعاً بعوامل عدة، بينها الحرب الروسية -الأوكرانية.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة فإن ارتفاع كلف الوقود والغذاء والجفاف والصراع والاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا تؤدي إلى تفاقم الفقر والاضطرابات وتدفع الملايين إلى حافة المجاعة، وتقول صحيفة "فايننشال تايمز" إن موسكو سعت من خلال زيارة لافروف الأفريقية إلى مواجهة تلك الاتهامات ودرء المزاعم بأنها تصرفت كقوة استعمارية في أوكرانيا، وكتب وزير الخارجية الروسي في رسالة نشرت عبر صحف الدول التي زارها قائلاً إن روسيا "ليست ملطخة بجرائم الاستعمار الدموية ولا تفرض أي شيء على الآخرين، أو تعلمهم كيف يعيشون".
ووعد لافروف خلال جولته الأفريقية بحل أزمة الحبوب الأوكرانية التي حال حصار موسكو للبحر الأسود دون وصولها إلى الدول المستوردة.
وتعد روسيا وأوكرانيا سلة الخبز في أنحاء مختلفة من العالم، وتمثل صادراتهما من القمح مجتمعة ما يقرب من ربع الإمداد العالمي.
وفي بيان أعقب اجتماعات القاهرة قال لافروف إنه سيتم الوفاء بالتزامات تصدير الحبوب الروسية للعملاء وحل القضايا المتعلقة بالحبوب الأوكرانية من خلال إنشاء مركز تنسيق في إسطنبول.
استراتيجية أميركية
ولا يمكن للولايات المتحدة الاستسلام في تلك الحرب الباردة الجديدة، فبلينكن ذهب إلى أفريقيا حاملاً معه استراتيجية شاملة لمعالجة قصور أميركي طويل، وللتأكيد بشكل أكبر على التزام واشنطن بالمنطقة التي لم تكن على رأس جدول الأعمال الدبلوماسي في عهد بايدن، إذ ارتكزت أجندته على إصلاح العلاقات مع أوروبا وآسيا، ففي أول يوم لزيارته تعهدت الولايات المتحدة بتعزيز الأمن الغذائي وتطوير البنية التحتية في أفريقيا وجنوب الصحراء، وحذرت من تنامي النفوذ الصيني والروسي عبر استراتيجية جديدة للمنطقة، فيما لم تغفل الإدارة الأميركية ملف انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدول.
وعلى الجانب الاقتصادي يقول موقع "نيكي" إن الاستراتيجية تشدد على العمل مع الشركاء لتعزيز إنتاج الغذاء ومعالجة انعدام الأمن الغذائي، وتقول الاستراتيجية إنه "من المستحيل مواجهة التحديات المحددة لهذا العصر من دون إسهامات وقيادة أفريقية"، مشيرة إلى تغير المناخ ووباء فيروس كورونا والإرهاب كمجالات محددة للتعاون.
ولا تشير الوثيقة فقط إلى النمو السريع في عدد سكان أفريقيا وحجم منطقة التجارة فيها، بل أيضاً إلى تأثيرها في الأمم المتحدة، وستوجه الاستراتيجية الجديدة بتطوير سياسات محددة لدعم الدول الأفريقية قبل قمة مع القادة الأفارقة من المقرر عقدها في واشنطن خلال ديسمبر (كانون الأول) المقبل.