في مذكراته يروي الرسام الانطباعي بيار أوغست رينوار، كيف أن صديقه وزميله كلود مونيه المعتبر عادة "الأب الشرعي للرسم الانطباعي" تمكن أواسط سبعينيات القرن التاسع عشر من فرض حضوره، بخاصة في محطة قطارات سان – لازار وسط العاصمة الفرنسية دون أن يكلفه ذلك أي جهد زائد عن حده، كيف؟ "بكل بساطة، ارتدى ذات بعد ظهر أفخم بذلة لديه مع قميص ناصع البياض بقبة وكمين منشيين وقبعة عالية بادية الأناقة والفخامة. وحمل عصا أنيقة لها مقبض ذهبي من النوع الذي لا يملكه إلا سراة القوم وكبار الأعيان، ثم توجه إلى مكاتب الإدارة في المحطة. وهناك نظر إلى أعلى الموظفين مكانة ليسأل بكل عنجهية وعجرفة "من المدير المسؤول هنا؟". بسرعة تراكض الموظفون الآخرون بين يديه خائفين وقد ظنوه وزيراً أو مسؤولاً كبيراً. ودون أن يسأله أحدهم عن هويته تساءلوا باحترام عما يريد. فقال، "أريد أن أدرس أوضاع المحطة". بسرعة كان له ما يريد، وأخذ هو يتجول بين أبهاء المحطة وقاعاتها متفحصاً حركة القطارات، ثم طلب بكل ثقة أن يحركوا له قطاراً داخل المحطة جيئة وذهاباً، ففعلوا. وعندما تم له كل ذلك نظر إلى الموظفين بأنفة وأعلن أنه رسام و"سوف يعود غداً". وهو بالفعل عاد في اليوم التالي مصطحباً معه أدوات رسمه وألوانه ليبقى أسابيع عديدة حقق خلالها ما لايقل عن 12 لوحة تعد اليوم من تحفه الأساسية، تمثل جميعها مشاهد للقطارات ولأجواء المحطة. صحيح أن تلك اللوحات تنتمي إلى التيار الانطباعي في بعض ملامحها، لكنها تتمايز عنه بعض الشيء لتنتمي في نهاية الأمر إلى فن مونيه نفسه الذي سيعد دائماً شديد الخصوصية ويتميز بكونه مؤلفاً من مجموعات يمثل كل منها مشاهد متشابهة في أماكن هي نفسها ولكن منظوراً إليها في كل مرة انطلاقاً من تبدلات الألوان والزوايا. ويقيناً أن هذا كان الأسلوب الذي تعلمه مونيه من فنون "الإسطمبات اليابانية" التي كانت تغزو باريس غزواً مدهشاً في ذلك الحين.
انطباع شمس مشرقة
طبعاً يمكننا أن نقول اليوم إن مسألة فرض مونيه نفسه على موظفي محطة سان – لازار ليست الأمر الأهم في الحكاية، بل الأهم هو ذلك الإنتاج الفني نفسه الذي كان مونيه يحققه وقد راح يبتعد عن واحدية الفن الانطباعي الذي لا بد أن نذكر هنا بأن اسم التيار نفسه يدين لمونيه الذي حين عرض واحدة من لوحاته المبكرة في المعرض الأول لمن سوف يسمّون بـ"الانطباعيين" وتبين لناقد صحافي ماكر أنها تحمل عنواناً غريباً هو "انطباع شمس مشرقة" راح يتحدث عن كل المشاركين في المعرض بوصفهم "انطباعيين" على سبيل المزاح. فالتصق الاسم بهم! أما حكاية الاسم نفسها فكانت حين راح يرسم في محطة سان – لازار، قد أضحت وراء مونيه الذي بلوحاته التي تصور القطارات ومحطتها، كان قد راح يبحث عن دروبه الخاصة التي ستقوده لاحقاً إلى سلسلة لوحات حول كاتدرائية روان وغيرها وسلسلات متعددة أخرى حول الأعشاب المائية، إلى آخر ما هنالك من مشاهد بقيت ضمن إطار الانطباعية ولكن غالباً على حدة.
إميل زولا ينبهر
ومن هنا، مثلاً كان من المنطقي للكاتب إميل زولا الذي ساند الانطباعيين لكنه راح يطالب كلاً منهم بالتفرد، مشجعاً توجهات أقل تلوينية وخروجاً إلى الهواء الطلق مما ينتمي إلى الانطباعة المعيارية، أن يكتب في العامين اللذين شهدا ذروة لوحات مونيه المصورة للمحطات والقطارات (1877 – 1878): "لقد حقق مونيه هذا العام مشاهد رائعة داخل محطات القطار. لوحات يمكننا أن نسمع فيها صافرات القطارات، وأن نتحسس الأبخرة التي تنتشر في فضاء المحطة وأبهائها الواسعة مع دخول القطارات أو خروجها. وذلكم اليوم في رأيي هو الفضاء الأمثل للرسم. فتماماً كما أن آباء هؤلاء الفنانين قد عرفوا في الماضي كيف يعثرون على إلهامهم في الغابات وعلى ضفاف الأنهار، يتعين على رسامينا اليوم أن يعثروا على مواضيعهم داخل محطات القطار". والحقيقة أن ما يشير إليه إمبل زولا المعروف حينها بدفاعه عن لغة العصر والحداثة، كان يعبر عن إدراكه كيف أن المحطة والقطار كانا قد باتا خلال العقود الأخيرة من السنين، "رمزاً للحداثة بامتياز". ولقد انبهر زولا تماماً بكيف أن مونيه الذي كان في ذلك الحين مقيماً في شارع مونوري بجوار محطة سان – لازار تمكن خلال أشهر قليلة من أن يرسم دزينة من اللوحات تتوزع مواضيعها بين داخل المحطة وخارجها وساحة أوروبا الملاصقة لها والجسر المتاخم للساحة المعروف هو أيضاً بـ"جسر أوروبا".
النور الدخان والبخار
لا بد من القول هنا إن أكثر ما يهم مونيه في تلك المشاهد إنما كان التقاطه لتأثير النور والبخار والضباب وحركة الناس والقطارات والتمازج بين كل هذه العناصر تحديداً في اللحظات القصوى التي يدخل فيها القطار إلى المحطة أو يخرج منها نافثاً بخاره الكثيف إلى الأعلى بشكل يبدو معه الدخان وكأنه راح يشكل وحدة مع الضباب حين يكون هناك ضباب. ولعل اللوحة التي تمكن بها مونيه من جمع كل تلك العناصر معاً هي المعنونة "جسر أوروبا" التي تبدو للوهلة الأولى الأكثر ابتعاداً عن مشاهد المحطة نفسها. فهي في نهاية الأمر لوحة مرسومة خارج الأروقة الداخلية للمحطة. في مكان مفتوح منها يمتد تحت جسر أوروبا. ولعل من اللافت هنا أن مونيه لم يرسم هنا ما كان يدور أمامه كما لو أنه يمسك بكاميرا توثق ما يحدث، بل رسم واحداً من تلك المشاهد التي رتبها بالتعاون مع موظفي المحطة وعمالها، فهناك بالفعل قطار يدخل الساحة ولكن من المؤكد أنه ليس قطار ركاب في حركته العادية. بل هو قطار حركه الموظفون من أجله، وتحديداً انطلاقاً من تعيينه هو لساعة التحرك بالترابط مع النور الطبيعي المحيط بالمكان في ساعة محددة كان قد درسها مسبقاً. والحقيقة أن مونيه حين سئل لاحقاً عن هذا الترتيب المسيق وعما إذا لم يكن "متناقضاً مع القواعد الانطباعية التي تفرض على الرسام أن يلتقط اللحظة في الزمان والمكان المناسبين"؟ ابتسم معلقاً، "ومن ذا الذي قال لكم إن على الفنان التقيد بما تمليه عليه الظروف الخارجة عن إرادته؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا مكان للعفوية
في حقيقة الأمر، إن تلك اللوحات التي حققها مونيه في محطة سان – لازار، لم تكن مشاهد عفوية ملتقطة كما هي ولا كانت مشاهد مصورة في الخارج. وبهذا المعنى لا يمكن اعتبارها انطباعية. ومن البديهي القول إن مونيه قد مهد بها كما أشرنا أعلاه للمراحل التالية من مساره الفني، سواء لمرحلة دراسته لتأثير النور الطبيعي على الجدران الخارجية لكاتدرائية روان، أو لمشاهد الحدائق والمياه وأعشاب الماء التي رسم معظمها خلال السنوات الأخيرة من حياته في جيفرني. ونعرف أن مونيه لم يترك في أي من تلك المجموعات مكاناً للصدفة التي تسم عادة الفن الانطباعي، بل كان يدرس موضوعاتها وألوانها وتشكيلاتها المكونة بعناية شديدة شبهها بعضهم بالعناية التي كان كبار الرسامين النهضويين يلجأون إليها لتركيب لوحاتهم كمواضيع وأشكال. ومن هنا مثلاً ما يمكننا رصده في هذه اللوحة التي نتناولها هنا من ذلك التعارض الذي يصوره الفنان بين الشكل الهندسي الصارم للجسر الحديد الذي يعد من معالم المحطة وبين التشكيل الهلامي الذي تكوّن هنا بفعل تناثر الأبخرة التي إضافة إلى بعدها التكويني هنا، عرفت كيف تفرض على الجسر العتم في أسفله ضوءاً مفاجئاً ربما يمكن النظر إليه، ولو في اصطناعيته التكوينية كنوع من الوفاء بدين للانطباعية على الرسام.
زهور من اليابان
بقي أن نشير إلى أن كلود مونيه (1840 – 1926) ولد في باريس ليرحل بعد 86 عاماً في دارته البديعة في جيفيرني، محاطاً بمسطحات من المياه وبأنواع الزهور والنباتات التي انهمك في زراعتها وترتيبها (وأحياناً رسمها) في لوحات جعلته واحداً من كبار رسامي "الطبيعة" هو الذي يروي صديقه السياسي رئيس الوزراء جورج كليمنصو الذي كان من زائريه بكثرة خلال الفترة التي سبقت موته، أنه كان ينفق على الزهور بسخاء إلى درجة أنه كان يستورد من اليابان أنواعاً نادرة منها دون حتى أن يقوم برسمها... بل لمجرد التمتع بالنظر إليها.