تحل الذكرى الثلاثون لرحيل القاص والروائي اللبناني يوسف حبشي الأشقر (1929-1992) الذي يوصف بـ"أبي الرواية اللبنانية الحديثة" وأحد أبرز الروائيين المعاصرين. وقد وصفه نجيب محفوظ بـ"الروائي الفذ والعبقري والمبدع العظيم"، كما ذكر الناقد المصري غالي شكري في مقال له، وخصته الناقدة خالدة سعيد بأكثر من دراسة أكاديمية، علاوة على الأطروحات والرسائل الجامعية والأبحاث التي تناولت أدبه القصصي والروائي. لا تزال أصداء الأشقر حاضرة بقوة في المعترك الادبي، ورواياته وقصصه تمثل مرجعاً مهماً لقراءة التحولات الحديثة التي طرأت على الأدب اللبناني. لكن هذا الروائي الرائد يعاني حالاً من التهميش والتناسي، فأعماله الفريدة لم يُعد طبعها ونشرها، على الرغم من شهرته، وبات القراء اللبنانيون والعرب يبحثون عنها فلا يجدونها.
"لماذا أكتب؟"
من المعروف أن الراحل ولد في بلدة بيت شباب بقضاء المتن، وأنه ربي في وسط أدبي، فوالده إميل الأشقر كان كاتباً ومؤلفاً لـ14 قصة تاريخية، على سبيل من سبقه، وكان مألوفاً في حينه. ولئن كان صحيحاً أن يوسف حبشي الأشقر انساق إلى كتابة القصة لأنها "تناسب كسله" على حد ما قال ذات يوم، فإن عالم القصة (الواقعية) لديه، وإغراقها في سيل من تشاؤمية وجودية، حتى في بداياته ("ليل الشتاء"، "طعم الرماد")، إنما كانا نوعاً من ارتداد جذري على تراث القصة التاريخية السابق، وفعلاً جمالياً معاكساً لإرث الأب، وبداية لثورة على منهج تاريخي استنفد أهدافه أو يكاد مع إنشاء لبنان الكبير. وتمثل في قلب المعادلة بذات الكاتب، من كونها ذاتاً معبرة عن هواجس جماعية مقموعة في التاريخ، تسعى إلى ترميم نفسها، واصطناع صور مجيدة لها مستعارة من التاريخ في سبيل إحيائها بالحاضر، إلى ذات مأزومة مع نفسها، وضاربة في الشك ذاتها وقيمها وكينونتها، وحتى المازوشية، وتعكس أزمتها الوجودية على الآخرين، ترفدها لا أدرية واضحة: "لماذا أكتب، وما جدوى الكتابة؟ عزاء مثل غيرها، كذب مثل غيرها. كذبة كبيرة أهرب إليها من الواقع، كما كنت أهرب إليها هي. لماذا أكتب؟ قد يكون ذلك لتقرأ هي يوماً ما أكتب وتعرف ما يجمعني بها. أنا لا أصدق أني أكتب لنفسي، ولا أن أحداً يكتب لنفسه. لماذا أكتب، وأنا لا أؤمن بهذا العزاء؟ أنا أعرف نفسي. تعبت من جرها إلى حيث لا تشاء، مريضة، تجهل ما تريد. وما أريد أن أقول؟ لا أعرف! فالقلم يمشي بدون مقاومة، لأني سئم وضجران، ولأنه يجب أن أفعل شيئاً" ("ليل الشتاء"، ص:8).
لم تكن قصص الأشقر التالية ("الأرض القديمة" و"آخر القدماء") تندرج في السياق ذاته لتلك التي سلطت الضوء على القرية اللبنانية وشخوصها، تستجلي تراثها المحكي وغير المندثر إلى حينه. وإنما كانت التفاتات وجدانية صارخة إلى إنسان تلك القرى، ومن بقي فيها، ناجياً من المجاعة، وصابراً على شظف الحياة وقلتها وانعدام جدواها. ولئن صح أن رواد القصة اللبنانية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، مع سليم البستاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وصولاً إلى سعيد تقي الدين وغيرهم، كانوا قد أرسوا دعائم هذا النوع، فتراوح على أيديهم بين الانطباعية الفنتازية والواقعية، من دون أن يقربوا من المرجعية الغربية التي تأثروا بها، فإن الأشقر لم يتوانَ عن مشابهة النموذج الوجودي الغربي كما تمثله لدى كل من هايدغر وكيركغارد وبليز باسكال وسارتر، وقد عرف أعمالهم الفلسفية في جامعة القديس يوسف ببيروت، وشاء مقارعته بنماذج البؤس البشري الناجية من المجاعة الكبرى والمستوحدة بعد رحيل من هاجروا، إضافة إلى ثيمة سعي الفرد العبثي للتخلص من طغيان الجماعة ونزعتها إلى التسيد العنيف على المكان والبشر.
الروائي الرائد
يقال أيضاً إن يوسف حبشي الأشقر، هو أبو الرواية اللبنانية الوجودية، على الرغم من أن رواياته لم تتعدَ الأربع ("أربعة أفراس حمر" و"لا تنبت جذور في السماء" و"الظل والصدى" و"المظلة والملك وهاجس الموت"). لا يخالف هذا القول الواقع الأدبي بشيء، ذلك أن الروائي الأشقر، والذي نقل قلمه القصصي إلى عالم الرواية الأرحب، وإن متأخراً، فإنه حشد لها كل خبراته في السرد والقص وتوليف الحبكات، إلى خلاصة خلطته العجيبة لعناصر وأساليب، أو مكونات صنعت عالم رواياته ولغتها وأبعادها النفسية والفلسفية الوجودية وفنيتها وجمالياتها المتآخية مع جماليات مستعارة من المسرح، الذي كان لا يزال نابضاً في نفسه ونصه والشعر والتوثيق وغيرها مما كان يحمل على الاعتقاد أن الرواية عنده صارت كتاب الكتب، على حد قول أومبرتو إيكو. وإن كنا لا نضيف جديداً إن قلنا إن هذه الروايات الأربع القائمة على نهج الموضوع، وشكلت مدونة ممتازة لدرس الاتجاه الوجودي في الرواية اللبنانية، وأنجزت من أجلها دراسات أكاديمية كثيرة، فإن فيها أبعاداً بل نقاطاً حارة أخرى في أعماله الروائية، لا سيما الأخيرة منها، عنيت بها "رؤية الكاتب إلى الحرب، والإنسان فيها"، وإشكالية الدين والخطيئة، ورجال الدين والسياسة، ومعضلة الفرد المثقف والواعي وعلاقته بالجماعة (الطائفة والقرية والعائلة والعشيرة) القامعة، والمدينة العاجزة عن احتواء خلافات البشر ودمجهم في متونها وحناياها.
يقول في روايته "المظلة والملك وهاجس الموت"، وهي رواية تقع بين اليوميات الشعرية والسرد والقص:"ألستَ أنتَ من يقول إن الإنسان حيوانٌ مطلي، ومتى زال الطلاء عنه عادَ إلى أصله؟ يوسف عادَ إلى أصله، لذلك فهو معذور، الشهوة والنكاية والحب والبغض تعيد الإنسان إلى أصله..." (ص:17).
السرد والفكر
ولئن صح أن روايات يوسف حبشي الأشقر هذه تفيض أفكاراً، بل ينطق كل منها وفقاً لمنظور فكري معين، فإن فيضه الفكري لا يجعل منها كائنات هيولية، تتحرك في لا مكان، ولا زمان، ولا مسار حدثي، وإن بالحد الأدنى، "غداً تسافر وتعرف. لا وجود خارج المكان. الزمن يزول بمروره الدائم. لكن المكان لا يزول، والجذور لا تنبت إلا في أرضها. لا أستطيع أن أسافر لأني لا أستطيع أن أحمل هذا الركام معي" ("لا تنبت جذور في السماء"، ص:33).
وفي هذا الشأن، قد يتسنى للقارئ أن يتتبع حراك شخصية نموذجية من شخصيات روايات الأشقر (إسكندر الحماني، على سبيل المثال)، فيجد أن خط مسرحه المكاني دائري، ويكاد يقتصر على طرفيه: كفرملات والمدينة بيروت، نزولاً وصعوداً، وأن لكل من الشخصيات الأخرى مساراً مكانياً أضيق أو أوسع قليلاً، تبعاً لدوره في الحبكة الرئيسة وللإضاءة "السينمائية" الموفورة له. إذاً، "الحربُ أول الهموم... بعدها تدوم الهموم الأخرى الوجودية، الأصلية، التيار التحت الأرضي الذي منه ينبع كل شيء... الحرب حدثٌ، الحرب طارئ..." (ص:284).
مسار وتحولات
سرد ووصف متناوبان، وأمكنة تضيق على شخصيات الرواية وتدون مسارهم وترسم تحولاتهم وسقطاتهم، وأزمنة تطاول أقدار أجيال سابقة للأشخاص الحاضرين، وحوارات ونقاشات وتعليقات مستفيضة في ما وراء السرد والوصف والأمكنة وعبث الزمن، وآراء أخرى حول الكتابة وجدواها وعبثيتها في آن، ومرافعة من لحم ودم وقيم وأفكار وعواطف وغرائز وأوهام وقناعات، وصراع مرير بين طبائع مسالمة وعنيفة، وطماعة وأخرى زاهدة، تفضي إلى القتل، على ما ورد في يوميات الحرب التي دون بعضاً من وقائعها مرمزة في بيئته الريفية، بين إسكندر الحماني الثري المفكر، وأسمر التاجر المصاب بعقدة الدونية وينشئ ميليشيا تجسيداً لحقده، وانتهى إلى تسجيل مقتل إسكندر، وسقوط المثل معه سقوطاً عظيماً، وبجلال وبكامل نظافتها وأناقتها وشمولها. وفوق ذلك كله، شعرية تتعالى على السرد والقص والحوار والتعليق والوصف. شعرية تحاول أن تختزل قدرية الإنسان ومأساويته وحدود لذاته وبقاءه في الزمان والمكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من تراه، بعد هذا، أن يهمل خطاب يوسف الأشقر المعادي للحرب والمال والكذب في المشاعر، أو يتغاضى عن حبه المسالمة وبغضه التعصب، وكرهه السياسة والأحزاب، وذاته القديمة التي كانت.
وأهم من هذه وتلك، أن يوسف حبشي الأشقر صنع، بعمارته الروائية الفريدة، لا سيما من خلال ثلاثيته التي سوف نطيل الوقوف عندها، مع قراءة الناقدة خالدة سعيد، عالماً موازياً أو شبه عالم قل نظيره في الأدب الروائي العربي، من حيث اتساع نماذجه وتمثيله الواقع في البيئة اللبنانية قبيل الحرب الأهلية وبعيدها، وتشكيله رؤية فكرية شاملة، يعاود بفضلها رسم آفاق خلاصية لإنسانه الخارج من جحيم النزاع والقتل والعدوانية والحسد والمحدودية واليأس من تحقق المثال، إلى رحابة التأمل في ما اقترفته يداه، كما فعل "يوسف" في "الظل والصدى"، والتطهر من الخطيئة، والعودة منها إلى صفاء مرتجى وبعيد المنال كالحلم.
الروائي يوسف حبشي الأشقر، راوي زمانه، وشاهد على سقطات الإنسان، لم ينسَ أن يبني عمارة شهادته من عصب وفكر ومشاعر وحبكات وصراعات على مقاس الواقع وظلاله. ومع ذلك يحتاج إلى مراجعات مستدامة ومجزية.