أن يكتب الفرنسي ستاندال عن فرنسا كان من نوع تحصيل الحاصل، فهو ابن البلد وابن مجتمعه ونتاج ثقافته، وأن يكتب عن إيطاليا كان أمراً طبيعياً إلى حد كبير فهو كان على غرار معظم المثقفين الأوروبيين مغرماً بهذا البلد وثقافته وتاريخه، ثم أن يكتب عن ألمانيا فأمر لا يتسم بأية غرابة، فألمانيا هي البلد الجار الأقرب إلى فرنسا والأكثر تمازجاً معها سلباً وإيجاباً ونعرف أن مثل ذلك التمازج غالباً ما يخلق الاهتمامات الإبداعية المشتركة، ناهيك بأن صاحب "الأحمر والأسود" وغيرها من الروايات الكبرى سافر إلى هذين البلدين وعاش في ربوعهما وأتقن لغة كل منهما وكان له فيهما صولات وجولات، أما في المقابل فأن يكتب ستاندال عن أميركا، ومتى؟ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، يوم كان ثمة بالكاد أميركيون يكتبون عن أميركا فأمر يتسم بالغرابة، ولكن كان من شأن تلك الغرابة أن تكون أخف لو أن هذا الكاتب الفرنسي زار ذلك العالم الجديد وعاش ردحاً فيه، لكنه بالتأكيد لم يفعل. والسبب بسيط: كان يخشى دوار البحر في زمن لم يكن ثمة بد من ركوب البحار للوصول إلى تلك القارة، ومن هنا كان لا بد له من أن يدير ظهره إليها ويستنكف حتى عن مجرد التفكير في الذهاب إليها، لكن ذلك لم يمنعه من الكتابة عنها وإن بصورة غير مباشرة.
قبل توكفيل
ولعل الأغرب من ذلك كله هو أن ستاندال حين بدأ يكتب "عن" أميركا لم يكن قد قرأ ما كتبه مواطنه أليكسي دي توكفيل عنها، ولا سيما في الكتاب المبكر لهذا الأخير "نظام السجون في أميركا" الذي صدر في عام 1830، أي قبل أربع سنوات من إنجاز ستاندال رواية أولى وكبيرة له تلت تحفته الأولى "الأحمر والأسود"، وهي "لوسيان ليووين" التي لن تكتمل أبداً بل لن تنشر في الواقع إلا بعد ستين سنة أي في عام 1894 وكان الكاتب قد رحل عن عالمنا قبل ذلك بنصف قرن تقريباً، وطبعاً سنصل إلى هذا الجانب من الحكاية بعد سطور. أما هنا فمن الأفضل أن نوضح أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى موضوعنا، فالحال أن ليس ثمة في هذه الرواية "السياسية الفرنسية الصافية" ذكر لأميركا كما أن بطلها الذي يحمل عنوان الرواية اسمه لا يزور أميركا ولا يتحدث عنها. كل ما في الأمر أن الرواية في عمق الأمور تحمل في ثناياها ما يمكننا اعتباره أول نقد يوجهه فكر أوروبي للفكرة الديمقراطية كما تجلت في أميركا وراح كثر يروجون لها وفي مقدمتهم طبعاً ألكسي دي توكفيل الذي سيصدر عدة كتب عن تلك الديمقراطية أهمها "عن الديمقرطية في أميركا" ويمكننا أن نرى في خطاب ستاندال ما يبدو وكأنه رد مباشر على تلك الحماسة التي قوبلت بها أميركا وفكرانيتها في فرنسا بخاصة وأوروبا بشكل عام. أو هذا في الأقل ما يفصح عنه باحث فرنسي متخصص في ستاندال أصدر في عام 2008 كتاباً حول هذا الموضوع عنونه "ستاندال في أميركا".
إذا عرف السبب
وقد يكون من المفيد أن نشير إلى السبب المباشر الذي جعل ستاندال يفضل عدم نشر "لوسيان ليووين" في حياته، وهو سبب سياسي لا علاقة له مباشرة بأميركا، بل بالمسألة الديمقراطية وفرنسا. ففي الوقت الذي كتب ستاندال هذه الرواية كان يعتبر من الكتاب المعارضين في السياسة للسلطات العسكرية التي أوصلت إلى السلطة الملك لوي – فيليب الأول بديلاً للملك المخلوع شارل العاشر، ما يعني أن السجال السياسي الأساسي الذي تحمله الرواية ويتمثل في الصراع الفكري بين بطلها الشاب لوسيان صاحب الأفكار الجمهورية ومدام دي شاستيليه المدافعة بشراسة عن الأفكار الملكية، تقود إلى سجالات وصراعات وشروخ من حول الأفكار الديمقراطية التي كانت تتبدى كالشبح الماثل في خلفية تلك السجالات. وهنا حين نقول سجالات حول الديمقراطية فإنما نعني تحديداً سجالات حول أميركا وحداثتها التي خلقت ما كان يمكن تسميته "أومو ديموقراتيكوس". وهنا بيت القصيد بالنسبة إلينا، حيث يكمن موضوع العلاقة التناحرية بين ستاندال و... أميركا. فإذا كان كاتبنا يناصر الحداثة والفكرة الجمهورية بالمعنى المطلق، لا شك أنه كان شديد الحذر تجاه البعد الأميركي في صياغة فكرة الحداثة كما في صياغة فكرة الديمقراطية. وهذا يعني بالتأكيد أن ستاندال سيكون واحداً في ذلك الوقت المبكر جداً من أوائل الأوروبيين الذين نبهوا إلى "مخاطر الديمقراطية الأميركية". ومع ذلك، إذا رجعنا بضع سنوات إلى الوراء أي إلى عامي 1824 – 1825 يوم كتب ستاندال نصه "المؤامرة الجديدة" نجده يتجه اتجاهاً مغايراً يعبر فيه عن إيمانه بـ"الإنسان الأميركي الجديد، إنسان الفلسفة النفعية الذي حتى وإن كان يمحو السكان الأصليين فإنه يبدو مشابهاً لهم في ضراوته البدائية" التي لا يفوتها أن تذكره بجان جاك روسو وتعلقه بالطبيعة البكر!
ارتداد مبكر
ولكن من الواضح أن هذه اللغة الجدلية التي يستخدمها ستاندال أول الأمر للتعبير عن توافقه مع الفكرة الأميركية وصلت آنذاك إلى ذروة بات من الضروري الارتداد عنها "حتى وإن كان ستاندال لا يزال غير قادر عن المماهاة بين أميركا وما يرفضه ويكرهه في الممارسات الحداثوية". والآن في "لوسيان ليووين" سيفعل ذلك، سيعلن بكل وضوح وقوة موقفه الرافض لتلك الحداثة ولأميركا نفسها بوصفها حاضنة لها. فما الذي جعله ينقلب؟ بالتأكيد الأوضاع الداخلية في فرنسا نفسها، ما يعني أن الاستعانة بأميركا لا تتعدى لديه كونها كناية عن وضع داخلي. ومع هذا لا بد هنا أن نتنبه إلى أن مؤلف كتاب "ستاندال في أميركا" يفيدنا عند هذه النقطة بالذات كيف أن ستاندال حدث له أن قرأ بين عامي 1826 و1827 كتاباً أصدره الفرنسي فكتور جاكيمون إثر عودته من رحلة إلى أميركا وطرح في واحد من فصوله سؤالاً بالغ الأهمية هو بكل بساطة: هل أميركا حرة؟ والحقيقة أن هذا السؤال قد يبدو لنا الآن بسيطاً لكنه بدا في غاية الأهمية لستاندال يومها، بخاصة أن كتاباً ورحالة فرنسيين آخرين من أمثال بازيل هال والسيدة ترولوب نشروا بدورهم بعد زيارات مماثلة إلى أميركا نصوصاً تطرح أسئلة تسير على المنوال نفسه. وربما يمكننا أن نشير هنا إلى أنه في الوقت الذي وجد توكفيل لزاماً عليه في مجال الرد على تلك "المشاهدات" أن "يشرح نظرته إلى الديمقراطية في أميركا"، وجد ستاندال أن الأمور بالنسبة إليه هو باتت محسومة: لقد راحت تعزز من مواقفه التي اندفعت قوية وواثقة من صوابها في مناوأتها لأميركا... لذلك "العالم الذي يختبئ خلف قناع جمهوري نير إنساني براق ليخفي وجهه الآخر الأقل إشعاعاً: وجه الهيمنة والتشدد في تغليب المصالح الاقتصادية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تناقضات الشخصية الأميركية
بيد أن الزعم بأن ذلك كله كان جديداً وراديكالياً لدى ستاندال لن يكون في نهاية الأمر دقيقاً. فالحال أن من يراجع توصيفات عدد من شخصيات رسمها ستاندال في أعمال سابقة له، ومن أهمها في ما يتعلق بموضوعنا هنا شخصية "مستر كلينكر" نجده يصفه على النحو التالي: إنه أميركي نمطي، ديمقراطي ومؤيد للرق في آن معاً، وضعي وعملي في الوقت نفسه، لا يهمه سوى الربح إلى درجة أنه حين يزور روما لا يرى شيئاً من بهائها وجمالها مكتفياً بأن يكون "سفيراً متناقضاً لإنكار كل بعد جمالي". وفي نهاية الأمر، أمام مثل هذه الرؤى، لا شك أن في إمكان قارئ ستاندال أن يفهم كيف التقط هذا الأخير فكرته التي جعلته يعلن في الرواية موقفه السلبي ليس طبعاً من الديمقراطية وهو الجمهوري العنيد، بل من الديمقراطية الأميركية التي حتى وإن كان لا يتردد في الدفاع عنها وتمني أن تبلغ بلاده مستوى من الحرية تعد به، يعرف أنها في نهاية الأمر "ديمقراطية ضالة منحرفة، تقوم على انحدار الحرية، وعلى السقوط المدوي لفكرة التقدم والتنوير والوعود الإنسانية الكبرى". والحقيقة أن ستاندال لن يتوقف هنا، إذ إنه سيعود في عام 1836 وبعد أن توقف عن استكمال "لوسيان لووين" ليقول من جديد: لا لأميركا ولا للجمهورية. ملوحاً هذه المرة ببيرق الحنين إلى النظام القديم، على الرغم من معرفته اليقينية بأن الأمور وصلت إلى مستوى باتت أميركا والجمهورية تبدوان فيه أمراً لا مهرب منه!