من يرغب في الفرار من واقع عالمنا البائس وأفقه المسدود، ننصحه بقراءة الرواية الجديدة للكاتب الأميركي ليرد هانت، "في المنزل، في عتمة الغابة" (2018)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" رواية، أو بالأحرى حكاية جن وساحرات لم نقرأ أبداً مثلها، وإن لجأ صاحبها فيها إلى عناصر من حكايات شهيرة لتشييد صرحها ونسج قصتها المسارية والرمزية على أكثر من صعيد.
أحداث الرواية تقع في مكان ما من إقليم نيو إنغلاند الأميركي، سنوات قبل محاكمات السحر المشؤومة في مدينة سالم عام 1692. وبطلتها التي تؤدي أيضاً دور الراوية شابة تغوص يوماً في الغابة القريبة من المزرعة التي تعيش فيها مع زوجها وطفلها لقطف بعض من التوت البري، ونظراً إلى طبيعتها الرعناء لا تلبث أن تتوه داخلها، ومع أنها ستحاول جاهدة العثور على طريق العودة، لكن جميع محاولاتها ستبوء بالفشل بسبب اللقاءات والأحداث الغريبة التي ستختبرها أثناء ضياعها.
شخص آخر
من الغابة، لن تخرج هذه الشابة أبداً، لكن هل ترغب حقاً في الخروج؟ ألا تفضل بالأحرى الاستسلام للهذيان التدريجي الذي تشعر بانزلاقها داخله، ومعانقة تلك التحولات غير المحسوسة التي تستشعرها من جرائه؟ هل هي في طور التحول إلى شخص آخر؟ هل لأنه من العسير جداً في ذلك الزمان والمكان، أن تكون ثمة امرأة حرة وقوية، قادتها خطواتها إلى الغابة، كي تجد نفسها؟
ندخل في هذه الرواية كما في واحدة من حكايات "الأخوان غريم"، من دون احتراز لكن بسرعة، ننزلق داخل أجواء مختلفة كلياً تقع بين حلم وسحر ونلتقي بنساء تارة محسنات وطوراً شريرات، لكن جميعهن يملك قدرات خارقة ويهزأ بالتزمت الديني والنظام البطريركي الذكوري السائدين خارج الغابة، نساء غاضبات وجاهزات لكسر القيود المفروضة على بنات جنسهن، وإن كان الثمن اقتراف أبشع الجرائم.
وفعلاً، ستلتقي الراوية الشابة في الغابة بثلاث نساء تبدو كل واحدة منهن أنها ترغب في مساعدتها، في حين أنها تعرقل جهودها للعودة إلى منزلها، وتبدي قدرات تخرج عن المألوف. نساء لا نعرف حتى النهاية إن كن رفيقات درب حقيقيات لها ساحرات أم نسخ مختلفة عنها، لدينا أولاً كابتن جاين التي تضطلع في الظاهر بمهمة مساعدة من ضل طريقه داخل الغابة، تحمل ندبة طويلة على خدها وجذوراً في جعبتها قادرة على تبديد التعب والألم، وعلى تحويل العينين إلى "فانوسين يخترقان الظلام"، امرأة ستنقذ بطلتنا من محنتها وتقودها إلى منزل في عتمة الغابة تعيش فيه امرأة أخرى تدعى إيليزا.
دفء المنزل
فور استقبالها هذه الشابة، تضمد إيليزا قدميها الداميتين، تغسلها وتعتني جيداً بها وتطلق عليها اسم "غودي" (Goody) الذي يطلق عادة في أميركا على النساء البريئات والطيبات، ويذكرنا دفء منزلها بدفء منزل الساحرة الشريرة في حكاية "هانسل وغريتيل". منزل على شاكلة ربته كريم ومضياف إلى حد يصعب تصديقه، ومع ذلك تحرر إيليزا غودي بعد اعتنائها بها، وتزودها بما يكفي من الطعام لرحلة عودتها إلى دارها، رحلة تلتقي خلالها العجوز غراني التي ستقنع الشابة، بالحيلة والتهديد المبطن، بالغوص في بئر عميقة ومخيفة لانتشال شيء غامض منها تحتاج إليه. لدينا أخيراً، الطفلة الملغرة هوب (أمل) التي تظهر مراراً على طريق غودي، وتعطيها لدى لقائهما الأول قطعة من اللحاء تمكنها، حين تضعها نصب عينيها، من رؤية حقيقة المكان الذي تجد نفسها فيه، وقاطنيه...
صديقات "غودي" الجديدات يظهرن في سلوكهن تجاهها مزيجاً مبلبلاً من التكاتف الأخوي والتهديد، فكل واحدة منهن تبدو مسكونة بالنور والعتمة على حد سواء، وبينما تتطور الأحداث داخل الغابة بشكل مرعب وسوريالي، تتكشف لنا أحداث لا تقل رعباً من حياة هذه الشابة السابقة، عن طريق ذكرياتها التي تطفو تدريجياً على سطح وعيها، كعنف أمها التي كانت تجلد أباها الوديع بانتظام أمام عينيها، وعنف زوجها الذي كان يعاقبها بقسوة مخيفة عند أقل "هفوة"، وعنفها بالذات الذي سيدفعها إلى طعن أمها بسكين في قلبها ودفنها قرب المنزل... ذكريات نستنتج منها أنه لا ملاذ نير من الجهة الأخرى للغابة، وهو ما تقوله "غودي" بنفسها: "لا مكان في هذا العالم أو خارجه يمكننا أن نشعر فيه بالأمان، ولو لدقيقة"، وما يقودنا إلى الرسالة المركزية التي يسيرها هانت على طول نصه، ومفادها أننا جميعاً نحمل العتمة داخلنا، وكل من يسير على هذه الأرض متواطئ حتماً في عنفها.
لكن الرواية لا تقتصر على ذلك، فمن خلال قصتها، يتناول الكاتب، وإن بشكل موارب ورمزي، موضوعات مختلفة، كاستعمار الإنسان الأبيض أميركا وسلب أراضيها من أبنائها الأصليين (الذين يحضرون تحت تسمية "البشر الأوائل")، تارة بمبررات دينية، مثل زوج "غودي" الذي يسمي نفسه "جندي الله" والمقتنع بأن المستعمر لديه "إذن البارئ بالعيش حيث نعيش"، وطوراً بلا حاجة إلى مبرر آخر غير "إنها ساعتي، لا ساعتها"، كما ستقول الكابتن جاين في شأن تعنيفها العجوز غراني واختلاسها فضاءها السحري. لدينا أيضاً موضوع خوف المتزمتين دينياً من المرأة المتحررة الذي قاد في الماضي، في أميركا، إلى اتهام أي امرأة تخرج عن السلطة البطريركية بالشعوذة، وخوفهم من المعرفة الذي يعكسه قول غودي لإيليزا، حين دعتها هذه الأخيرة إلى خط ذكرياتها على ورقة ما قاله زوجها لها، أي إن الحبر هو "دم الشيطان".
الغرائبي والمعقول
باختصار، لا شيء شديد الوضوح وسهل البلوغ في هذه الحكاية الملتوية، بل كل شيء ملتبس، يتطور من الغريب المعقول إلى الغريب الذي لا يصدق. حكاية هي عبارة عن إعادة كتابة حاذقة لعدة حكايات كلاسيكية، وفي مقدمتها "ليلى والذئب"، "هانسل وغريتيل"، و"أليس في بلاد العجائب"، مع تراوح مستمر بين حلم وهذيان قاتم، حكاية لا توفر أجوبة بقدر ما تثير من تساؤلات، وتبقينا في حالة ضبابية تجعلنا نشك في فهمنا جميع عبرها، ونعجز عن تحديد ما هو الأكثر رعباً ووحشية فيها: ما سيحدث في نهاية المطاف لبطلتها في الغابة، أم مضمون ذكرياتها قبل دخولها هذا المكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اليقين الوحيد الذي نخرج به من هذه الرواية هو مقاربتها مسألة تحولنا أحياناً إلى أكثر ما كنا نخشاه، فخلال تيهها تلاحظ غودي في لحظة ما والقارئ معها، أن الشر الذي تسعى إلى الفرار منه هو في الواقع داخلها منذ البداية، تستكشف الرواية أيضاً عملية السرد نفسها، فحين تعود إلى قبو منزل إيليزا، تواجه غودي القلم والورقة بعد أن أرهبها زوجها من القراءة والكتابة، وتستكشف سلطة ونتائج كتابة حكاية، فتحذرنا في هذا الشأن: "الحكاية شيء ممتع، لكن حتى حين تكون حكايتك، وتكون أنت ممسكاً بالقلم (لكتابتها)، عليك أن تنتبه إلى كيفية ملامستها". تحذرنا أيضاً من أن سرد حكاية هو عمل لا يتطلب مخيلة جامحة فحسب، بل خصوصاً مهارات كتابية نادرة، وهو ما يفتننا في رواية هانت تحديداً.
وفعلاً، تكمن قيمة "في المنزل، في عتمة الغابة" أولاً في أسلوب كتابتها، إذ ينتظرنا داخلها نثر تعويذي آسر توقعه غالباً كلمات من صوت واحد تشحن النص بشعرية عنيفة تناسب في سطوتها النوع الحكائي عموماً، وتفسر وقع تلك العتمة الثابتة في مناخات الرواية، وتغلغلها داخلنا، وباعتماده صيغة المتكلم لسرد مغامرات غودي وسيرورة تذكرها شذرات من حياتها السابقة، ينجح الكاتب في جعلنا ننزلق تحت جلدها ونشاركها تيهها وقلقها.
وبالنتيجة، نتوه غالباً مع بطلته وأحياناً داخل عملية سرده المبلبلة، من جراء مقاومته أي تفسير لأحداثها وامتناعه عن استخلاص أي عبرة منها بنفسه، لكننا نسمح للغته الساحرة بحملنا والذهاب بنا إلى حيث تشاء، ولا نخشى معه المغامرة في عتمة الغابة.