يعتبر ظهور الصحافة المطبوعة في ليبيا قديماً مقارنة بكثير من الدول العربية، إذ صدرت أول جريدة ورقية عام 1866 حين تأسست "طرابلس الغرب" بأمر الوالي العثماني في ذلك الوقت، وكانت تتكون من ورقتين أولاهما باللغة التركية والثانية بالعربية، إلا أنها لم تعرف نهضة كبيرة إلا في فترة محدودة خلال عقد الستينيات.
وعلى الرغم من الزخم الكبير الذي عرفه الإعلام الليبي عموماً خلال العقد الماضي، فإن الصحف المطبوعة في البلاد تواجه اليوم خطر الاندثار ولم تستطع الصمود في وجه طفرة الصحف الإلكترونية التي سحبت البساط تماماً من نظيرتها الورقية العتيقة.
معاناة طويلة
ظهور الصحافة في ليبيا بولادة صحيفة "طرابلس الغرب" أواسط القرن الـ 19 كان نتيجة دخول أول مطبعة للبلاد، وقال المؤرخ أحمد النائب الأنصاري "أسس الوالي العثماني مطبعة بقصر الحكومة لصحف الأخبار والوقائع وسميت صحيفتها ’طرابلس الغرب‘".
ثم توالى عدد من الصحف في الظهور حتى صدرت في طرابلس أول الصحف الليبية الخاص وهي جريدة "الترقي" في يونيو (حزيران) 1897 التي شغل الشيخ محمد البوصيري منصب رئاسة تحريرها وإدارتها.
صحيفة "الترقي" استمرت في الصدور أسبوعياً لمدة عام كامل ثم توقفت لتعود من جديد سنة 1908 قبل أن تنتكس الصحافة خلال عهد الاحتلال الإيطالي للبلاد عام 1911، إذ أوقف بعضها خلال فترة الحكم "الفاشي" بإيطاليا عام 1922.
عهد من التضييق
وعن هذه الفترة قال الباحث والأكاديمي مبروك الغزالي إن "مرحلة الاستعمار الإيطالي بدأت بإيقاف جميع الصحف المحلية وحلت محلها مجموعة من صحف الاستعمار الإيطالي إلى عام 1919، وبعد التوصل إلى اتفاق هدنة في طرابلس وبنغازي بين الحكومة الإيطالية والمقاومة الليبية، وبمقتضى هذين الاتفاقين نشطت الحركة التعليمية والصحافية وصدرت مجموعة من الصحف منها ’اللواء الطرابلسي‘ و’الرقيب‘ و’الوطن‘ و’البلاغ‘".
وأضاف الغزالي "بعد قرابة ثلاث سنوات انتكست الأوضاع في البلاد إثر تولي الحزب الفاشي الحكم في إيطاليا عام 1922، فمنع الفاشيون الصحف الوطنية ولم يتركوا إلا عدداً قليلاً منها، وأصدروا صحفاً جديدة لخدمة أهدافهم مثل مجلة ’ليبيا المصورة‘ كما عرفت هذه الفترة غياب الصوت المعبر عن رأي الشعب بفعل القبضة الوحشية للاستعمار الإيطالي التي استمرت حتى هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وانسحابها من ليبيا عام 1943".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن "الصحافة الليبية شهدت حالاً من الانتعاش خلال مرحلة الانتداب الإنجليزي من فبراير (شباط) 1943 وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، لكن هذه الانتعاش ظل محدوداً بحكم سياسات الانتداب والاتفاقات الموقتة المبرمة بين الليبيين والبريطانيين والتي تقتضي مراعاة ظروف المرحلة وخصوصية الوضع الذي تمر فيه البلاد".
وتميزت تلك الفترة بإنشاء الأحزاب السياسية للمرة الأولى في ليبيا بصورة علنية، وصدرت مجموعة من الصحف منها "طرابلس الغرب" و"برقة الجديدة" و"الوطن" و"شعلة الحرية".
وعبرت "الوطن" المتحدثة باسم جمعية عمر المختار في بنغازي ودرنة، و"شعلة الحرية" المتحدثة باسم المؤتمر الوطني في العاصمة صراحة عن مطالب الشعب في الاستقلال وتوحيد البلاد والارتباط بالمحيط العربي.
العصر الذهبي
عرفت الصحافة الليبية أزهى عصورها طوال الـ 17 عاماً التي حكم فيها الملك إدريس السنوسي ليبيا، ومن الـ 24 من ديسمبر (كانون الأول) 1951 وحتى الـ 31 من أغسطس (أب) 1969، إذ غاب مقص الرقيب إلى حد بعيد وازدهرت حرية الفكر والإبداع في حدود الحق الدستوري المنظم لقانون المطبوعات الذي ظهر عام 1959، ووصل عدد المطبوعات الإعلامية إلى أكثر من 35 صحيفة ومجلة يومية وأسبوعية.
وشهدت تلك الفترة ميلاد أبرز تجربة صحافية في تاريخ ليبيا كما يصفها كثيرون، بظهور صحيفة "الحقيقة" في بنغازي التي تميزت بأسلوبها الساخر في انتقاد الحكومة، وكانت بمثابة انطلاقة لأسماء لامعة في تاريخ الفكر والأدب وعلى رأسهم المفكر الشهير الصادق النيهوم، وكان لها تأثير كبير وقتها في تشكيل الرأي العام ودور بارز في الحياة السياسية والثقافية، وعرفت بفضحها الفساد في بعض مشاريع الدولة حتى تلك التي كان يديرها مقربون من العرش مثل "مشروع طريق فزان"، إذ تقدمت المعارضة على إثر ذلك بطلب إسقاط حكومة عبدالمجيد كعبار من طريق البرلمان، وهو ما حدث في أكتوبر (تشرين الأول) 1960.
ويعتبر كثيرون أن غياب "الحقيقة" التي أغلق نظام معمر القذافي مقرها الكائن بمدينة بنغازي واعتقل مدير تحريرها رشاد الهوني مطلع العام 1972، بداية لانتكاسة طويلة ليس للصحافة الليبية وحسب بل للحركة الفكرية في البلاد برمتها.
الانتكاسة الكبرى
شهدت الصحافة الليبية الانتكاسة الخطرة والكبيرة منذ استيلاء معمر القذافي على السلطة في سبتمبر (أيلول) 1969، وأخذت هذه الانتكاسة شكلاً ملموساً منذ بداية السبعينيات عندما سحبت تراخيص الصحافة على خلفية قرار "محكمة الشعب" في يناير (كانون الثاني) 1972، فيما عرف وقتها بـ"قضية إفساد الرأي العام"، إذ اتهم بعض رؤساء ومديرو تحرير هذه الصحف بإفساد الرأي العام خلال مرحلة الستينيات، وسمح بعدها لصحف قليلة بالصدور كصحف خاصة لفترة بسيطة بعد هذا التاريخ، ثم جرى تأميمها وضمها إلى القطاع العام غداة إنشاء المؤسسة العامة للصحافة في يونيو 1972 لتكون بديلاً عن الصحف الخاصة.
وبعد تغيير شكل النظام الحاكم عقب إعلان ما سماه القذافي "قيام سلطة الشعب" في الثاني من مارس (آذار) 1977، بدأت مرحلة أخرى في الصحافة الليبية وهي مرحلة صحافة النقابات والروابط، وهي عبارة عن صحف راوحت بين الأسبوعية والنصف شهرية، إضافة إلى الصحف الثورية التعبوية التي صدرت عن مكتب الاتصال باللجان الثورية التابع للنظام.
أفول الصحافة الورقية
عرفت ليبيا بعد ثورة فبراير جملة من التجارب الخجولة لإصدار صحف ورقية جديدة ظهرت بالعشرات ولم تخل من بعض التجارب المميزة مثل صحيفة "الميادين" التي ترأس تحريرها الكاتب والصحافي أحمد الفيتوري، لكنها تلاشت سريعاً مع ثورة الإنترنت والصحف الإلكترونية وتراجع الإقبال على الصحف الورقية التي عانت شدائد مادية جمة أدت إلى توقفها عن الصدور بالسرعة التي ظهرت وانتشرت بها.