عندما كان المخرج الإيطالي الكبير فدريكو فلليني يعمل على إنجاز واحد من أفلامه الأخيرة، "جنجر وفريد" في عام 1985 وهو يسابق الزمن وقد أحس بأن نهايته اقتربت، (سيرحل بالفعل بعد عرض الفيلم بسنوات قليلة)، كان يبتسم لمساعديه والمقربين منه قائلاً، "ربما لن يلحق سيلفيو برلسكوني لإقامة دعوى قضائية علي وربحها. فالقضاء الإيطالي في مثل هذه الحالات بطيء جداً وقد يفاجأ برلسكوني بأنني حين سيربح دعواه سأمد له لساني ساخراً من داخل تابوتي!". والحقيقة أن نبوءة فلليني هذه أتت مخطئة في الجزء الأول منها كعادة معظم نبوءاته، وهو الذي كان يرى أن على الفن أن يكون كاذباً كي يكون حقيقياً وفعالاً! أما برلسكوني فهو كما نعرف الملياردير ورجل الإعلام والسياسي الشعبوي الذي كان سيد البلد نوعاً ما في تلك السنوات وتحديداً من خلال سيطرته على الحياة التلفزيونية الإيطالية وصولاً إلى تحويله التلفزة، وفي رأي فلليني، إلى "أسخف ما يحدث في أيامنا هذه". ولقد صاغ فلليني فيلمه هذا "جنجر وفريد" على شكل مرافعة ضد التلفزيون على النمط البرلسكوني وكأنه يستكمل فيه ما كان بدأه من "فضح" للذهنية التلفزيونية والحياة الفنية وعالم الاستعراض في عدة أفلام له قبل أن يكون هناك برلسكوني وأمثاله. ومع ذلك كان لا بد من تصفية حساب معلم السينما الساحر مع تفاهة التلفزة وقد باتت فاقعة لأن "إفساد" تلفزيون برلسكوني الجمهور العريض بات مؤذياً تماماً.
برلسكوني لم يتحرك لكن جنجر فعلت
ومع ذلك، لم يحرك برلسكوني ساكناً، لكن القضاء الأميركي تحرك. إنما ليس بطلب من الملياردير الإيطالي الذي كان قد أضحى رئيساً لواحدة من أسوأ الحكومات التي عرفها التاريخ الإيطالي الحديث، بل بطلب من تلك النجمة الكبيرة الناعمة والهادئة جنجر روجرز التي كانت تعتبر من أعقل فاتنات هوليوود، فإذا بها ما إن سمعت بالفيلم وربما شاهدته، تنتفض وتنهض من عزلتها في شيخوختها وتقيم دعوى ضد فلليني وفيلمه. لماذا؟ لأنها اعتبرت الفيلم إهانة لها. ومن دون أن يفهم أحد لماذا اعتبرته كذلك. وحتى القاضي الأميركي عجز عن الحكم ورد الدعوى وسط دهشة فلليني لهذا الرد، بل لما حرك نجمة كبيرة على ذلك النحو، بخاصة أن الفيلم لا يتوجه إليها بأي سوء، ناهيك بأن اسمها في العنوان إنما يشير إلى الشخصية المحورية في الفيلم وتلعبها جولييتا ماسينا، زوجة فلليني ونجمته في الحياة العامة وإحدى كبيرات السينما الإيطالية والتي تلعب هنا دور سيدة مكتهلة كانت في شبابها في سنوات الأربعين قد بنت مهنتها الفنية على تقليد جنجر روجرز الحقيقية وفي مشاهد الرقص السينمائي والمسرحي التي كانت هذه الأخيرة تؤديها مع شريكها فريد آستير محققين معاً مكانة فنية عالمية. وفي فيلم فلليني يلعب دور المقلد لآستير، نجم السينما الإيطالية الكبير مارتشيلو ماستروياني. فهل يمكننا أن نفهم شيئاً من هذا كله؟ وهل يمكننا أن نكون من ناحيتنا أكثر فهماً من المايسترو فلليني لأسباب غضب جنجر روجرز في معتزلها الهوليوودي؟
برنامج تلفزيوني معاصر
سنغض النظر عن هذا هنا لنعود إلى الفيلم الفلليني الذي كان الفيلم السينمائي ما قبل الأخير للمايسترو قبل رحيله باعتبار أنه سيحقق بعده "صوت القمر" وبينهما نوعاً من شريط تلفزيوني عنوانه "مقابلة" (إنترفيستا) يتحدث عن فريق تلفزيوني إيطالي يأتي إلى مدينة السينما في روما لإجراء حوار مع فلليني. المهم أن هذا الأخير أوصل حربه على التلفزيون كوصية أخيرة بعد جهاد فني طويل في سبيل السينما وإنقاذها من براثن ذلك الجهاز الطفيلي. ونعرف طبعاً أن الأمور ساءت كثيراً بعد ذلك ولم يتعلم أحد الدرس، ولو عاش فلليني أكثر لمات كمداً وحزناً لإخفاقه في تلك المعركة بمحاكمة أو من دون محاكمة. مع ذلك، لا يتصورن أحد هنا أن "جنجر وفرويد" فيلم مرافعات وأيديولوجيات وصراع، بل على العكس هو فيلم طريف مسل يعبق بالمرح واللحظات المضيئة. فيلم وضع فيه فلليني خلاصة فنه وخياله وابتكاراته كنوع من التلخيص لفنه مع مسحة من حنين وحنان تمس أولئك الذين لا يزالون يتذكرون مشاهد ووجوهاً محددة من أفلام المايسترو وبخاصة في "الطريق"، أو لمسة من قسوة ولؤم يمكن تلمسها في أفلام مثل "ثمانية ونصف" أو "الحياة اللذيذة".
عوالم فللينية خالصة
وحكاية "جنجر وفريد" ليست معقدة على أي حال بل يمكن تلخيصها في عبارات قليلة. هي حكاية ثنائي مكتهل الآن تستدعيه التلفزة للقيام بمشهد رقص يستعيد ما كان يفعله هذا الثنائي نفسه قبل أربعين عاماً من تقليده مشاهد فريد آستير وجنجر روجرز الراقصة، ولكن الزمان غير الزمان وبالتحديد لأن "التلفزيون مر من هنا"، بحسب فلليني. فالتلفزيون هو الذي يدعو "جنجر" و"فريد" بعد كل تلك السنوات. والتلفزيون هو الذي يطالع "جنجر" بدعاياته ومشاهده منذ تصل بالقطار من المدينة التي تعيش فيها الآن إلى روما مكان التصوير، كما في الحافلة التي تقودها من المحطة إلى الفندق في انتظار تصوير المشهد في اليوم التالي. وهي في الفندق تجد نفسها وحيدة في غرفتها بعد أن استقبلها الفريق التلفزيوني المكلف ذلك ببرود شديد، وبعد أن كانت قد مرت على "ضيوف آخرين" مدعوين إلى البرنامج نفسه، من أقزام إلى أصحاب خوارق إلى مشاركين أغبياء وثرثارين في برامج الحكي التلفزيوني وأشخاص مشوهين يشبهون كل تلك المخلوقات التي اعتاد فلليني على أية حال، حشرها في أفلامه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرفيق في الغرفة المجاورة
في الغرفة لا يمكنها أن تنام بسبب سعال وشخير شخص ينزل في الغرفة المجاورة. وسرعان ما يتبين لها أن ذلك الشخص ليس سوى... فريد المكتهل مثلها. لقد مرت عليهما الحياة والسنوات لكنهما لا يزالان شغوفين بالرقص، ولكن تلك التجربة التلفزيونية ستهبط من عزيمتهما منذ صباح اليوم التالي كما يفعل صاحب المحطة التلفزيونية الذي سيكون كل ما يهمه هو عدد متفرجي برنامجه والدعايات التي سيتمكن من عرضها خلال ساعات البرنامج. وهكذا يضعنا الفيلم في قلب اللعبة التلفزيونية التي يتحكم بها المال ولا علاقة لها بالفن لا من قريب ولا من بعيد. هنا كل شيء مزيف وكل شيء في خدمة الإعلان بما في ذلك استغباء الجمهور واستغباء المشاهدين في آن معاً. ولأن فلليني هو فلليني نراه لا يكتفي هنا بهذه الإدانة للتلفزيون، بل إنه من خلال إدارته ممثليه المفضلين واللذين يشكل كل منهما بالنسبة إليه أنا/ آخر له: جولييتا التي قامت طوال تاريخها الفني ببطولة معظم أفلامه الكبرى بأدوار لا تنسى، ومارتشيلو الذي كان صوته وصورته بالنسبة إلى الجانب الذاتي من أفلامه، تمكن فلليني إذاً، من أن يقدم في الوقت نفسه فيلماً عن الشيخوخة كان من علاماته أيضاً وجود الممثل الكبير والعتيق توتو الذي قدم في الفيلم عبر دور تكريمي يليق بمكانته الكبرى، وهو نفس ما سيفعله فلليني لاحقاً، ومباشرة قبل رحيله مع الكوميدي الإيطالي الكبير روبرتو بنينغي إذ جعله صاحب الدور الأساسي في ذلك الفيلم "صوت القمر". ولم يكن غريباً أن يعتبر النقاد والمتفرجون كذلك كل هذه العناصر والأدوار أشبه بتحيات وجهها المايسترو إلى كثر من الذين أسعدوه في حياته، إلى جانب لطمات وجهها إلى الذين نظر إليهم باعتبارهم آفة تقضي على جمال الفن والحياة. ولئن كان برلسكوني قد أدرك هذه الحقيقة ففضل أن يجابه الأمر بصمت من يبدو وكأنه غير معني به، بل ربما سيقول لمن يسأله إنه استمتع بالفيلم تماماً ويرى حتى أن مخرجه كان محقاً في كثير مما لمح إليه "ولكن هل يمكن لأحد حقاً حتى ولو كان ساحراً سينمائياً كبيراً من طراز المايسترو أن يوقف التقدم ولو نحو ما يعتبره... قبحاً؟". إذا كان برلسكوني أنقذ سمعته بهذه العبارات التي تنم عن دهاء، يبقى السؤال مشروعاً عمن حرض جنيفر جونز في آخر ظهور علني لها على المجاهرة بموقف "قضائي" معاد للفنان الإيطالي الكبير الذي كان من فضائله في فيلمه أنه أخرجها من الظل ووضعها في دائرة الضوء بكل محبة وحنان، بحسب ما علق الناقد الأميركي الكبير روجر إيبرت حينها؟