ارتفاع العجز التجاري في تونس بالنسق المخيف المسجل حالياً سيكون له تداعيات وخيمة على اهتراء الاحتياطي من النقد الأجنبي، مع تسجيل صعوبات جمة في تأمين العديد من المستلزمات الحياتية على غرار الحبوب والأدوية والمحروقات.
ومن شأن هذه الوضعية أن تضاعف صعوبات تونس في سداد ديونها الخارجية والداخلية بالدولار أو اليورو مع تراجع قيمة الدينار التونسي إزاء هاتين العملتين، ما سيزيد من متاعب والضغوطات المسلطة على الاحتياطي من النقد الأجنبي.
ويحذر متخصصون عدة من هكذا وضعية على مستوى التوازنات المالية للبلاد، في ظل تعطل أهم رافعات الاقتصاد التونسي على غرار التصدير والاستثمار الخاص.
وتأكيداً على هذه الوضعية، تشهد تونس حالياً نقصاً فادحاً في تأمين حوالى 200 نوع من الأدوية يتم توريد جلها، فضلاً عن النقص الفادح في البنزين في عدد من محطات توزيع الوقود بسبب الصعوبات التي تجدها البلاد في توريد مواد الطاقة.
تعمق العجز التجاري
وتعمق العجز التجاري لتونس إلى حدود 13.7 مليار دينار (4.4 مليار دولار) خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2022، مقابل عجز بقيمة 8.7 مليار دينار (2.9 مليار دولار) خلال الفترة ذاتها من سنة 2021، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء (حكومي).
وسجلت نسبة تغطية الواردات بالصادرات تراجعاً بـ4.8 نقطة مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2021 لتبلغ 70.4 في المئة.
وتحسنت صادرات تونس إلى أواخر يوليو (تموز) 2022، بنسبة 23.1 في المئة، لتبلغ قيمتها 32.5 مليار دينار (10.8 مليار دولار) مقابل 23 في المئة خلال الفترة ذاتها من سنة 2021، أي في حدود 26.4 مليار دينار (8.8 مليار دولار).
ويعود التحسن المسجل على مستوى الصادرات إلى أداء العديد من القطاعات بينها زيادة صادرات قطاع الطاقة، بنسبة 60.2 في المئة، وقطاع الفوسفات ومشتقاته، بنسبة 69.4 في المئة، وقطاع المنتوجات الفلاحية والغذائية، بنسبة 29.6 في المئة، وقطاع النسيج والملابس والجلد، بنسبة 21.6 في المئة، وقطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية، بنسبة 13.3 في المئة.
وزادت واردات البلاد، بدورها، بنسبة 31.6 في المئة لتبلغ 46.2 مليار دينار (14.9 مليار دولار) مقابل 21 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الماضية في حدود 35.1 مليار دينار(1.6 مليار دولار).
وتفسر الزيادة على مستوى الواردات، بحسب المعهد الوطني للإحصاء، بالارتفاع المسجل في واردات جل القطاعات، منها مواد الطاقة بنسبة 89.7 في المئة، والمواد الأولية ونصف المصنعة بنسبة 35.7 في المئة، والمواد الاستهلاكية بنسبة 13.4 في المئة ومواد التجهيز بنسبة 7.6 في المئة.
وتجدر الإشارة إلى أن عجز الميزان التجاري للسلع، المسجل على المستوى الجملي للمبادلات، ناتج بالأساس عن العجز المسجل مع بعض البلدان كالصين حوالى 5 مليارات دينار (1.6 مليار دولار) وتركيا 2.8 مليار دينار (900 مليون دولار) والجزائر 1.5 مليار دينار (483 مليون دولار) وروسيا 1.3 مليار دينار (419 مليون دولار).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي
وبلغ احتياطي تونس من النقد الأجنبي حتى17 أغسطس (آب) 2022 ما قيمته 23857 مليون دينار (7695.8 مليون دولار)، ليتراجع في اليوم التالي أي 18 اغسطس إلى 23802 مليون دينار (7678 مليون دولار) أي ما يعادل 116 يوم توريد.
وتراجعت قدرة تونس على تغطية واردتها بالاعتماد على العملة الصعبة بحلول يوليو 2022، إلى 116 يوماً مقابل 138 يوماً خلال الفترة نفسها من 2021، على الرغم من ارتفاع قيمة الاحتياطيات إلى 8.23 مليار دينار، وفق بيانات وقتية للبنك المركزي.
وتشير المعطيات ذاتها إلى أن احتياطي تونس من النقد الأجنبي خلال الفترة نفسها من سنة 2021، كان في حدود 21.7 مليار أي ما يعادل حينها تغطية 138 يوماً من التوريد.
وتراجعت قدرة تونس على تغطية وارداتها بنحو 20 يوماً بحلول 15 يوليو 2022، مقارنة بقدرتها على تغطية الواردات خلال الفترة نفسها من سنة 2021.
وبلغ سعر صرف الدولار الأميركي زهاء 3.1 دينار بحلول 18 أغسطس الحالي، في حين كان عند مستوى 2.8 دينار خلال الفترة نفسها من عام 2021.
ونبه الخبير في الاقتصاد والأسواق المالية، معز حديدان، من أن التقلبات التي يشهدها الدولار واليورو يمكن أن تنعكس على حجم احتياطي تونس من العملة الصعبة.
وجوب مراجعة الاتفاقيات التجارية
واعتبر رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، أن عجز الميزان التجاري التونسي بلغ مستويات مقلقة مخيبة، وهو مرشح أن يواصل تعمقه في الأشهر المقبلة.
واستند في تحليله إلى آخر تقرير لوكالة "فيتش رايتينغ"، التي حذرت من تآكل الاحتياطي من العملة الأجنبية في ظل عدم وجود اتفاق رسمي مع صندوق النقد الدولي.
واستدرك في المقابل، أنه في حال وصول تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي فإن احتياطي تونس مع النقد الأجنبي سيرتفع نسبياً، لكنه يظل مصطنعاً وغير مرتبط بآلة الإنتاج.
وشدد على أن خلاص تونس في تقليص العجز التجاري يكمن في وجوب مراجعة عدد من الاتفاقيات التجارية مع دول عدة على غرار الصين.
وتمثل هذه المراجعة وفق رأيه، في إدراج بنود جديدة تهتم أكثر بدفع الاستثمار بين البلدين، وفرض وجود مؤسسات تركية وصينية في تونس وإنجاز مشاريع.
ولفت إلى أن تونس نجحت في هذا المسار مع الاتحاد الأوروبي عند إمضائها على اتفاق شراكة عام 1995، بفرض تونس حصولها على نصيب من الاستثمارات الأوروبية خارج الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل العديد من المؤسسات الأوروبية تستثمر في البلاد وتنجز مشاريع مصدرة كلياً، رجحت الكفة نسبياً في عدم حصول اختلال في الميزان التجاري بين الطرفين.
ارتفاع سعر صرف الدولار يعقد المسائل
وربط آرام بلحاج أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، مسألة تعمق عجز الميزان التجاري بارتفاع سعر صرف الدولار أمام الدينار التونسي نتيجة السياسة النقدية الأميركية من خلال ترفيع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من نسبة الفائدة الرئيسة.
ولاحظ أن كل المنتوجات التي توردها تونس هي بالدولار الأميركي، ما سينتج ارتفاعاً في نسب التضخم، مشيراً إلى أن جزءاً كبيراً من التضخم في تونس هو تضخم مستورد.
وأكد أهمية ترشيد الواردات، الأمر الذي يتطلب من وجهة نظره جرأة وشجاعة من الحكومة على إيقاف التوريد العشوائي وغير الضروري، خصوصاً مع عدد من الدول التي تربطها بتونس اتفاقيات تجارية قابلة للمراجعة.
ورأى آرام بلحاج أن تونس تعيش وضعية اقتصادية معقدة جداً، تتمثل في الركود التضخمي الذي نتيجة تحقيق نسب نمو ضعيفة مقابل ارتفاع نسب التضخم، وهي من أعقد الوضعيات في الاقتصاديات.
الأمل في المغتربين وتعويل على السياحة
وأمام الضغوطات المسلطة على الاحتياطي من النقد الأجنبي، فإن أمل تونس يظل مُعلَقاً على تحويلات المغتربين التونسيين وفي موسم سياحي جد واعد، يخففان من وطأة الوضع.
ووفق البيانات الرسمية للبنك المركزي التونسي، فقد نما إجمالي قيمة تحويلات التونسيين العاملين في الخارج 17 في المئة على أساس سنوي، خلال النصف الأول من 2022، مع استعادة الاقتصاد العالمي زخماً قوياً أبطأته الحرب الروسية - الأوكرانية.
وأظهرت البيانات أن قيمة التحويلات للنصف الأول من 2022، سجلت 1.19 مليار دولار.
وتحويلات العاملين في الخارج إلى جانب عائدات السياحة، تعتبران من المصادر الهامة لتوفير النقد الأجنبي للبلاد التي تشهد تذبذباً في وفرته.
وصعدت إيرادات تونس من عائدات السياحة خلال النصف الأول من 2022، بنسبة 55 في المئة على أساس سنوي، إلى 450 مليون دولار.