"هل يمكن للعلم أن ينهي الحروب؟"، هو عنوان كتاب أستاذ الدراسات العسكرية المقارنة في كلية الدراسات الجوية والفضائية في الولايات المتحدة الأميركية، إيفريت كارل دولمان، صدر عام 2016، وترجمه محمد حسونة أخيراً من الإنجليزية إلى العربية، وصدر عن المركز القومي المصري للترجمة. وهذا العنوان/ السؤال يتمحور حوله متن الكتاب، موحياً ببصيص من الأمل، فعلى الرغم من أن الإجابة عنه جاءت بالنفي، فإن تفاصيل المتن نفسه لم تستبعد أن يكون العلم ذا دور في احتمال ترشيد الحروب والحد من أهوالها، في الوقت الراهن، وربما منعها في مستقبل لا يزال في نطاق التخيل، الذي لربما يتحول واقعاً، كما حدث بالنبة إلى كثير من التقنيات الحديثة التي كانت يوماً ما مجرد أحلام وتخيلات. يتناول الكتاب الطبيعة المتغيرة لعالم التكنولوجيا والنزاع البشري مع تحليل حيوي للحروب التي نشبت منذ التاريخ القديم إلى اليوم، مع نظرة استشرافية لكيفية سيطرة العلم على تفشي العنف في المستقبل. وبحسب ناشر الترجمة فإن العمليات الجديدة في البيئة السيبرانية، تتطلب منا فهم ومواجهة الأسئلة التي يطرحها دولمان علينا، لذا تحتاج مجتمعاتنا السياسية والعسكرية والعلمية إلى النظر في التحديات التي يطرحها إذا أردنا أن ننجح في السير على الدرب المؤدي إلى السلام في هذا العالم المتغير بسرعة، لأن الجهل هو السبب في جميع الحروب الخاسرة.
من جديد، هل يمكن للعلم في صورته الحالية أن يضع حداً لعذاب الحروب؟ يرى المؤلف أن هذا السؤال قد يكون هو أهم سؤال مطروح في عصرنا، ولا يعلو عليه سؤال آخر، لأن العلم هو الذي استحدث وسيلة لتدمير كل البشرية، حين تمكن العلماء من اكتشاف وتحرير الطاقة الجبارة للذرة. ويضيف أنه في حين أن الحرب دائماً ما تكون دموية، وفي كثير من الأحيان طاحنة، فإنه مع كل ما يقال عن تطور الأسلحة البيولوجية والكيماوية والعلم النووي، صارت الحرب دماراً شاملاً. نظرياً -يستطرد المؤلف- يمكن للعلم أن ينهي الحروب، ولكن عملياً ليس الأمر بهذا القدر من اليسر.
معضلة العلم
المعضلة الدائمة للعلم -بحسب المؤلف- هي أن أي حل يتم طرحه، كما يبدو، تنتج عنه مشكلتان إضافيتان، كل مشكلة منهما تحتاج إلى علاج علمي خاص بها. وكل مجهود للحد من حدوث الحرب أو آثارها التدميرية من خلال العلم، يخلف تأثيراً غير مقصود يزيد من سبل ووسائل شن الحروب. فمثلاً عندما جعل المدفع الرشاش الثابت حرب الخنادق هي المهيمنة خلال الحرب العالمية الأولى، فكر العسكريون الاستراتيجيون في حل علمي للحد من مشكلة الخنادق والضرب في عمق أرض العدو، وهو الأساس المنطقي لاستخدام كل من الطائرات والعربات (مثل الدبابات المدرعة) كتكنولوجيا حربية، شأنها شأن استخدام الغاز السام كمادة كيماوية مشتقة من واقع استراتيجيات أرض المعارك.
وما يعقد الأمور أكثر أن وتيرة التغيير في تسارع، ما يعني أنه يجب على العلماء، أكثر من أي وقت مضى، العمل بقوة هائلة على تطوير هذه الأسلحة لمواكبة التقدم، فحسب. واليوم، وبشكل عملي، تطير طائرات روبوتية (من دون طيار) غير مرئية فوق أرض المعركة، تراقب الأشخاص والمواقع المستهدفة، وتقوم حين تسمح الظروف بإطلاق ضربات صاروخية مميتة (كما حدث أخيراً في عمليات اغتيال عدة منها عملية اغتيال أيمن الظواهري، على سبيل المثال)، كما يقوم الإرهابيون بإطلاق الغازات السامة في مترو الأنفاق، ويعدم المتطرفون الضحايا الأبرياء على الإنترنت، ويستخدمون مشاهد القتل سيئة السمعة لتجنيد جيوش من القتلة الساديين، كما تقوم بعض الدول بتسليح قوات المتمردين بكل ما هو متطور من أسلحة المدفعية والدبابات والألغام والأسلحة المضادة للطائرات. كل ذلك بالتوازي مع إصرارها على سياسة الإنكار والاستنكار.
الأعماق الأساسية
من أجل ذلك سمح العلم بوصول الحرب إلى الأعماق الأساسية (عمق البحار)، والسماوات الفيزيقية (الفضاء الخارحي)، والمناطق الافتراضية (فضاء الإنترنت) من دون أدنى احتمال للتوقف. مسار كهذا يمكن أن له -كما يؤكد المؤلف- أن يتبع نظريات اقتصادية تقليدية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتكنولوجيات متطورة من أجل حروب التدمير الغاشم.
وبالعودة -على الرغم من كل ما تقدم- إلى سؤال هل يمكن للعلم أن ينهي الحروب؟ فإن المؤلف يؤكد أن العلم لا يمكنه ذلك بمفرده، معتبراً أنه أصبح من البديهي التصريح بأن العلم الحديث والحرب مرتبطان، وأنهما ولدا معاً في عصر النهضة الأوروبية، وترعرعا في عصر التنوير ثم في عصر الصناعة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية اكتسبت القوة العسكرية زخماً، بطريقة علنية، ليس من أجل كسب الحروب، بل لمنعها، أو على الأقل الحد من الموت والدمار عندما لا يمكن تجنب الحرب. ومن ثم أصبح الاتجاه العلمي الحالي هو ما يجعل الحرب أكثر أماناً. وهو تناقض غريب، إذا ما وضعنا في اعتبارنا المنظورات القديمة التي جعلت الحرب أكثر عنفاً وكلفة بدرجة مذهلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإجابة عن السؤال/ العنوان يضعها المؤلف صريحة صادمة في الختام، لا يمكن للعلم أن يلغي الحرب، لأن العلم أصبح حرباً، والحرب أصبحت علماً. فهما لا ينفصمان لأنهما يشتركان في الشرط المطلق نفسه، السعي الحثيث لمزيد من المعرفة، ومزيد من السيطرة، ومزيد من السلطة. العلم يوفر الموضوعية العقلانية التي تفقدها الحرب في الممارسة من خلال المشاعر البشرية والعاطفة، ومن ثم فالحرب تصبح جائزة عليا عند رجال الحرب. وقت السلم ينتمي العلم إلى العالم. ووقت الحرب ينتمي العلماء إلى الدولة. وإذا أمكن إيجاد حل للحرب، يجب أن يأتي من خارج العلم، ربما من اتفاق سياسي أو خضوع. أو ربما من سخط ديني أو أخلاقي جديد. وهذا ببساطة لا مفر منه، لأن حل الحرب لا يمكن أن يكون عقلانياً، والعلم لا يمكن أن يكون غير عقلاني. وبقدر ما تكون الحرب حدثاً طبيعياً، ونتيجة حتمية للتفاعل بين أفراد جعلهم تطور الخليقة عدوانيين، يجب أن يكون الحل العلمي هو تحويل جوهر الإنسانية. الخيارات التي تتراوح بين استخدام العقاقير والعلاجات النفسية إلى التدريب السلوكي المتكرر على كامل الطريق الذي يصل إلى التلاعب الجيني وعلم تحسين النسل القسري. كل هذه الخيارات تتبع هذا المنطق.
استعادة التوازن
تذهب الدول إلى الحرب -كما يقول المؤلف- لعدد لا يحصى من الأسباب التي يحركها السياق، وكثير من هذه الأسباب ينظر إليها حينها وفي وقت لاحق باعتبارها أسباباً معقولة تماماً وعادلة. إن حل الحرب في هذه الحالة هو إزالة أسباب عدم التوازن في النظام، تلك الأشياء التي تجعل تعديلات الوضع الراهن (التي قد تكون في بعض الأحيان عنيفة) تبدو ضرورة على الأقل. عندما يكون عدم التوازن هو سبب الحرب، يصبح الحل هو خلق أوضاع يقاس فيها التغيير ويضبط لتتم استعادة التوازن.
الحرب التي بوصفها شراً يجب استئصاله من جسم السياسة ليست وجهة نظر تنال إجماعاً، ولكن العلم لم يتمكن بعد من تحديد صحة أو خطأ هذه النظرة. والواقع أن أغلبية المعلقين قبل القرن العشرين اعتبرت الحرب مفيدة نسبياً، وإن كانت وحشية، وأنها تطهر النظام من التشوهات وتحل المنازعات بسرعة وبحسم. الصراع الاجتماعي من وجهة نظرهم هو نشاط تكاملي. وهو يحدد هويات الجماعات وتركيزه خارجها على الآخرين. ومع ذلك، يواصل المؤلف، فإن شدة حرب معينة أو عدوانيتها لا تتحدد كاملاً بواسطة هذه الأسباب الأصلية. تم ضبط شراسة الحرب من خلال المعتقدات الدينية أو الأخلاقية (المشتركة أو المتصادمة)، ومن خلال قيود القتال الرسمية، والعلاقات الطويلة الأمد التي أدت إلى إبرام المواثيق الماضية. ومن هنا ينظر إلى الحرب على أنها استجابة معقولة لتصحيح أوجه عدم الاتساق الكبيرة عندما يصبح من المرجح فشل جهود الضبط الأقل جذرية في الوصول إلى النتائج المنشودة.
الحرب أم السلام؟
وفي الخلاصة يرى المؤلف أن الحرب ليست جيدة، ولا سيئة في حد ذاتها، ولكنها أداة تلعب دوراً مهماً. عند استخدامها لتصحيح الأخطاء المتصورة، والتمسك بحقوق مجموعة مضطهدة، أو لتسوية النزاعات (إذا تمت تسويتها حقاً وليس مجرد تأجيلها)، بل ربما قد تكون حتى مشكلة الحرب غير مناسبة لإجراء تحليل علمي سليم.
نبقى مع معضلة أخيرة، "قد لا يكون العلم قادراً على إنهاء الحرب، ولكن هل تستطيع البشرية المضي قدماً دون العلم؟"، يجيب المؤلف، "ربما لا". ويضيف، لقد كشف العلم عن المعرفة، وقدم التكنولوجيا التي تسمح للأرض بدعم السكان أكثر كثيراً من قدرة تحملها الطبيعية، وليس هناك عودة إلى الوراء دون قبول وفاة أكثر من سبعة مليارات (وهناك مزيد في المستقبل). بالعلم، يمكن للإنسانية أن تستمر في التوسع، وتضرب حدود الفضاء، وبمساعدة الفضاء، تجعل الحياة أفضل للقادم من الناس، ولكن الأفضل -يقول المؤلف- بما في ذلك اختيار الحرب أم السلام في سياق معين، سوف يتحدد خارج نطاق العلم.