يوماً بعد يوم، تُبدي أنقرة مزيداً من الخطوات الإيجابية المباشرة وغير المباشرة، باتجاه إصلاح علاقاتها التي تدهورت مع عدد كبير من الدول العربية، وحتى إسرائيل، ما عدّه مراقبون، محاولة تركية للعودة إلى سياسة "تصفير المشاكل"، وإعادة "ضبط البوصلة" التي انحرفت على مدار السنوات الأخيرة، بعد أن واجه نظام الرئيس رجب طيب أردوغان تحديات اقتصادية داخلية متصاعدة وسياسية وأمنية خارجية.
ومن الخليج العربي، إلى القاهرة مروراً بإسرائيل، كان لافتاً الإشارات الإيجابية من الجانب التركي، باتجاه الجارة سوريا، إذ تواترت التصريحات خلال الأيام الأخيرة من جانب الرئيس ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، بـ"حاجة بلادهم إلى إجراء حوار مع الحكومة السورية دون شروط مسبقة"، في إشارة إلى مزيد من التخفيف في موقف أنقرة تجاه دمشق بعد عقد من العداء، وذلك بعد أيام من إعادة تفعيل العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل.
وقبل أقلّ من سنة على الانتخابات الرئاسية التركية المرتقبة في منتصف يونيو (حزيران) 2023، نجح أردوغان في تكثيف المبادرات لتعزيز العلاقات مع عدّة قوى إقليمية، من بينها السعودية والإمارات، في مسعى إلى استقطاب الاستثمارات واجتذاب السياح، فيما لا تزال المحطة المصرية "متعثرة" والسورية رهن تعقيدات سنوات العداء بين البلدين، بعد أن دعمت أنقرة مقاتلي المعارضة الذين يسعون لإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد، وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع دمشق في بداية الصراع المستمر منذ 11 عاماً.
المحطة السورية "رهن التعقيدات"
بعد أيام من نفي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن تكون لدى بلاده أي أطماع في سوريا، مشدداً عقب عودته من أوكرانيا على أنه "لا يمكنه مطلقاً استبعاد الحوار والدبلوماسية مع دمشق، وأن هناك حاجة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات في هذا الاتجاه"، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أمس الثلاثاء الـ 23 من أغسطس (آب) إن بلاده ليس لديها "شروط مسبقة لإجراء حوار مع الحكومة السورية"، في إشارة إلى مزيد من التخفيف في موقف أنقرة تجاه دمشق بعد عقد من العداء.
ورداً على سؤال حول احتمال إجراء محادثات مع دمشق، قال جاويش أوغلو إن المحادثات "لا بد أن يكون لها أهداف محددة". مضيفاً في تصريحات نقلتها عنه قناة "خبر جلوبال"، إنه "لا يمكن أن يكون هناك شرط للحوار، لكن ما الهدف من هذه الاتصالات؟ البلاد تحتاج إلى التطهير من الإرهابيين. الناس بحاجة إلى العودة". وتابع "لا شروط للحوار، لكن ما الهدف منه؟ من الضروري أن تكون له أهداف". ملمحاً إلى "حوار يجري بين أجهزة مخابرات البلدين".
وتعكس التصريحات التركية الأخيرة، تحولاً لافتاً في مسار العلاقات مع دمشق، التي هيمن عليها "العداء" طوال العقد الماضي، ويرجح مراقبون أن يعطل ذلك "الإرث من العداء"، مسار أي حوار مرجح بين البلدين، إذ دعمت أنقرة على مدار سنوات مقاتلي المعارضة الساعين لإطاحة الرئيس السوري، كما تشير التعليقات الأخيرة من حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تحرك نحو الاتصالات السياسية، مما يثير قلق خصوم الأسد في الجيب المتبقي من سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة.
وقال عمر جليك، متحدث حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان، إنه لا يمكن التوصل إلى حل سياسي "إلا عندما تغير الحكومة السورية مسارها، وعندما ترى المعارضة أساساً لتلك المصالحة المزمعة". وأضاف بحسب ما نقلت عنه وسائل إعلام تركية، "بالطبع لا مجال للحديث عن أي حوار سياسي إلى أن تنتفي الظروف التي أدت إلى قطع العلاقات السياسية بين تركيا وسوريا".
ولم تكن التصريحات الرسمية التركية الأخيرة تجاه سوريا هي الأولى، فقبل أسبوعين، قال جاويش أوغلو إنه يتعين جمع المعارضة السورية والحكومة للمصالحة بينهما، كذلك تحدث الوزير ذاته في وقت سابق من هذا الشهر أنه تحدث لفترة وجيزة مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في العام الماضي على هامش اجتماع دولي، رغم أنه قلل من أهمية اجتماعهما.
كذلك تحدث الرئيس أردوغان، بعد زيارة روسيا، التي تدعم الأسد بقوة، إن الرئيس فلاديمير بوتين اقترح أن تتعاون تركيا مع الحكومة السورية على طول حدودهما المشتركة، حيث يخطط أردوغان لمزيد من التوغل العسكري ضد المقاتلين الأكراد السوريين الذي يقول إنهم يشكلون تهديداً أمنياً.
وتقول تركيا، التي نفذت أربع عمليات عسكرية في شمال سوريا منذ عام 2016، إنها تنشئ منطقة آمنة، يمكن أن يعود إليها نحو 3.6 مليون لاجئ سوري تستضيفهم حالياً.
وأمس الثلاثاء، دعا وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بعد محادثات في موسكو مع نظيره السوري فيصل المقداد، إلى محادثات بين تركيا وسوريا لتجنب عملية عسكرية. وقال لافروف "الشيء الأساسي هو عدم السماح بأي عمل عسكري جديد، والتفاوض عبر القنوات الدبلوماسية على أساس المبادئ السياسية التي كانت موجودة سابقاً في العلاقات بين سوريا وتركيا".
محطة مصر "المتعثرة"
في الأثناء، وفي حين يواصل الجانب المصري الصمت حيال ما وصلت إليه العلاقات مع أنقرة منذ بدء الأخيرة مساعي المصالحة قبل أكثر من عام بعد توترات بين البلدين منذ 2013، يواصل الرئيس التركي حديثه علانية عن تطورات هذه العلاقة التي "لم تبلغ على صعيد المستويات الرفيعة مكانها المطلوب حالياً"، بحسب وصفه في أحدث تصريح له أدلى به للصحافيين خلال عودته من أوكرانيا الخميس الماضي، وهي التعليقات التي جاءت كمحاولة جديدة للوفاق مع القاهرة، واصفاً الشعب المصري بالشقيق وداعياً إلى المصالحة "في أسرع وقت ممكن".
وليست هذه المرة الأولى التي يدلي فيها أردوغان بتصريحات تستهدف التودد إلى الإدارة المصرية، ويؤكد فيها الحاجة لنقل المحادثات مع مصر إلى ما هو أعلى من المستوى الوزراي.
ففي الشهر الماضي، نقلت وكالة "رويترز" عن الرئيس التركي قوله إنه "لا يوجد سبب لعدم إجراء محادثات رفيعة مع مصر"، والعام الماضي ردد تعليقاته الودودة تجاه الشعب المصري، قائلاً لقناة "تي آر تي" الإخبارية التركية "أعرف الشعب المصري جيداً وأكن له المحبة، فالجانب الثقافي لروابطنا قوي جداً، لذلك نحن مصممون على بدء هذا المسار من جديد" ومضيفاً أن مصر ليست دولة عادية بالنسبة إلى تركيا.
على مدى أعوام تسعة، شهدت العلاقات بين القاهرة وأنقرة توترات سياسية وقطيعة دبلوماسية إثر تدخل الأخيرة في الشأن السياسي المصري وإيوائها عناصر من تنظيم "الإخوان" الذي تصنفه مصر "إرهابياً". وبلغت التوترات بين البلدين الحد الذي أثار القلق الدولي من نشوب نزاع في صيف عام 2020، حين بدا الأمر كما لو أن "الحرب الباردة" بين القاهرة وأنقرة يمكن أن تتحول إلى صدام مسلح بعد أن لوح السيسي بالتدخل العسكري في ليبيا لدعم قوات الشرق في مواجهة الغرب الليبي المدعوم عسكرياً من تركيا، قائلاً بوضوح إن "سرت - الجفرة" خط أحمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووسط عزلة إقليمية ألمت بمصالحها، أجرت الحكومة التركية تحركات واسعة للتصالح مع مصر والتقارب مع دول أخرى في المنطقة منذ العام الماضي، ففي مارس (آذار) 2021 أعلنت استئناف اتصالاتها الدبلوماسية مع مصر، واتخذت خطوات عدة بينها الضغط على قنوات الإخوان التي تبث من تركيا وتوجيهها إلى تخفيف النبرة التحريضية التي تتخذها تجاه القاهرة.
وبعد سلسلة من التصريحات التركية الودية في شأن عودة العلاقات مع مصر، تحدث وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو هاتفياً مع نظيره المصري سامح شكري بهدف تبادل التهاني بحلول شهر رمضان في أبريل (نيسان) من العام ذاته، وكان الاتصال المباشر الأول على مستوى رفيع بين مسؤولي البلدين منذ خفض العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال عام 2013، إلا أنه وحتى الآن لا يزال التقارب بين القاهرة وأنقرة "متعثرا"، إثر ملفات شائكة لم تحسم بعد بين البلدين من بينها الملف الليبي وتوترات شرق المتوسط، فضلا عما تصفه القاهرة تدخلات تركية "مرفوضة" في الشأن العربي، بحسب تصريحات مصادر رسمية مصرية لـ"اندبندنت عربية"، والتي أوضحت كذلك، أن "هناك خطوات ضرورية لم تنجزها بعد أنقرة إلى الأن بهدف الارتقاء بمستوى علاقات البلدين نحو إعادة تطبيعها الكامل".
منطقة متعددة الأقطاب
على مدار العقد الماضي، اتبع أردوغان نموذجاً للسياسة الخارجية يستهدف إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق تصور خاص يضع بلاده كقوة وحيدة، في ما وصفه عدد من المراقبين على مدى أعوام بـ"العثمانية الجديدة"، بحيث بات يشار إلى أردوغان بـ"السلطان" على سبيل السخرية من الطموحات التوسعية للرئيس التركي في المنطقة التي دفعته إلى التدخل في سوريا والعراق وليبيا وحتى محاولة التدخل في الشأن المصري والصدام مع دول الخليج، فضلاً عن الصراع مع اليونان وقبرص في شرق "المتوسط".
تقول أسلي أيدينتاسباس الزميلة لدى "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" إن تركيا دعمت فروع جماعة "الإخوان" في جميع أنحاء المنطقة وأيدت الانتفاضات العربية ودانت علانية السياسات الداخلية لدول الخليج ووسعت أنشطتها العسكرية في سوريا والعراق، وفي شرق البحر المتوسط وضعتها "دبلوماسية الزوارق الحربية" في مواجهة تكتل يضم دولاً كبرى في المنطقة.
لكن أمام العزلة الإقليمية التي جنتها أنقرة جراء هذه السياسة، جنباً إلى جنب مع المشكلات الداخلية إذ يواجه الرئيس التركي أكبر تحد سياسي منذ وصوله إلى السلطة في ظل اقتصاد متدهور، مما يقلص فرصه في انتخابات 2023، تشير أيدينتاسباس إلى أن تركيا غيرت مسارها أمام الواقع الجديد في شرق أوسط حيث المنافسة الجيوسياسية، فعلى مدار العام الماضي، سعت أنقرة إلى التصالح مع مصر وإعادة العلاقات مع إسرائيل والإمارات والسعودية، وعبر عملية من الاتصالات الدبلوماسية والاستخباراتية النشيطة حاولت تهدئة نزاعاتها المتصاعدة مع دول المنطقة بما في ذلك اليونان.
يقول جولين بارني سداسي وهوغ لوفات من "المركز الأوروبي" من خلال ورقة بحثية صدرت في أبريل (نيسان) الماضي إن دول الشرق الأوسط باتت مصممة على نحو متزايد على تقليل اعتمادها على الغرب لتصبح أكثر اكتفاء ذاتياً، لذا فإنه في منطقة "متعددة الأقطاب" لا يمكن لتركيا أن تكون قوة ليس لها شركاء، ويخلصان إلى أن الهدف الرئيس لأنقرة في الشرق الأوسط الآن يتمثل في الانخراط بعملية توازن جيوسياسية تعزز اقتصادها وتحمي مصالحها الأمنية قدر الإمكان.
الاقتصاد والانتخابات والحرب
لحفظ ماء الوجه، تزعم أنقرة أن جزءًا من التحول بعيداً من الصدام نحو خفض التوتر مع جيرانها هو تمكنها من تحقيق أهداف سياساتها الخارجية الرئيسة بين عامي 2016 و2020 التي تتمثل في منع إنشاء دولة كردية مستقلة في سوريا وعرقلة ممر للطاقة في شرق "المتوسط" يتجاوزها. وفي حين حققت الأول بالفعل، فإن أمر الطاقة لم يحسم بعد بالنظر إلى استمرار استبعادها من منتدى "غاز شرق المتوسط"، وهو ما تسعى من أجله إلى المصالحة مع مصر والتقارب مع إسرائيل.
يشير أمين سيكال، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة "أستراليا" الغربية إلى ثلاثة عوامل رئيسة دفعت أردوغان إلى التراجع عن سياساته الصدامية. فأولاً تواجه تركيا وضعاً اقتصادياً مزرياً يتسم بارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة والاستثمار وتزايد البطالة، ومن ثم يمكن لأي تدفق نقدي واستثمارات من السعودية وغيرها من دول الخليج أن يساعدا في تخفيف بعض المشكلات الاقتصادية في أنقرة. كما أن الرئيس التركي يستعد لانتخابات العام المقبل وسط تزايد المعارضة والاستياء الداخلي تجاهه، فعلى الرغم من أنه لا يزال يتمتع بدعم كبير من حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، فإنه لم يعد يحافظ على الشعبية التي كان يتمتع بها قبل حملته ضد المعارضة في أعقاب الانقلاب الفاشل ضده عام 2016.
ويعتقد سيكال، وفق مقالة نشرها "معهد السياسة الاستراتيجية" الأسترالي أن الحرب الروسية في أوكرانيا تمثل عاملاً مهماً في تغير السياسات الخارجية لتركيا، ويوضح أن صداقة أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الأعوام الماضية أصبحت موضع تدقيق غربي منذ الحرب في أوكرانيا ما يعني حاجته لتجنب مزيد من العزلة، وبالنظر إلى تلك التحركات النشيطة لاستعادة العلاقات مع دول المنطقة، يقول أستاذ العلوم الاجتماعية إنه "لا تنبغي الاستهانة بالرئيس التركي أبداً".