صرنا مثل الأجداد فجأة لكن من دون هدوئهم أو صبرهم وحكمتهم، قفزنا إلى زمن آخر بلمحة عين، نحن الآن من نتندر ونسخر حينما نمسك ببضعة أوراق مالية ونتذكر ما كان يمكن أن تفعله مقارنة بقيمتها الآن، إنها أقل من النصف. مهلاً هل مر وقت طويل كي نغرق في هذا العصر الذي كنا نظنه بعيداً؟ المفاجأة أننا مكاننا لم نتحرك والوقت يمضي بوتيرته المعتادة، وكل ما هنالك أننا غفونا واستيقظنا وجدنا أنفسنا وقد صرنا "قدماء جداً" نحكي ككهول عن ذكرى حقبة كانت فيها الأسعار مختلفة كلياً، والمحير أن هذه الحقبة كانت فقط منذ أيام وأسابيع وربما ساعات.
السقوط في حفرة التضخم، أي حينما تخسر العملة قيمتها فجأة، يجد المرء نفسه مطلوباً منه أن يتكيف مع المعدلات والقفزات من دون تنبيه، فارتفاع الأسعار التدريجي أمر معتاد وبديهي ويحدث بشكل متواتر ونعرف كيف نتعامل معه، ولكن ماذا يفعل المواطن العالمي الذي أصبح يواجه بين يوم وليلة انقلاباً اقتصادياً لم يكن ممهداً له ولم ينبه إليه أحد ليصير تائهاً وضائعاً في دوائر الحسابات، ويبدو عجوزاً جداً وهو يواجه تلك التغييرات العاصفة التي تركت مواطني العالم في حال شيخوخة جماعية!
خبراء الاقتصاد لا يجملون الحقائق
لعبة الأرقام تقول إن معدل التضخم الأساس في مصر يقترب من 15 في المئة، بحسب الموقع الرسمي للبنك المركزي المصري، ويرى المحللون أن هذه النسبة هي الأكبر منذ أعوام، بينما يقترب من 8 في المئة بألمانيا في أكبر ارتفاع تشهده البلاد منذ 50 عاماً، وفقاً لتحديثات المركز الإحصائي الاتحادي، كما تجاوز 9 في المئة بالولايات المتحدة وهو الرقم الأكبر منذ 40 عاماً، ما يعني بحسب آراء المحللين والمراقبين أن العائلات في أميركا باتت بحاجة لما يقرب من 500 دولار إضافي شهرياً إلى موازنتها لسد حاجاتها المعتادة من مواد غذائية ووقود وكلف معيشة.
إذاً يحاول الاقتصاديون طمأنتنا، فيأتون بنتائج عكسية، والوضع في رأيهم ليس موقتاً ولن ينتهي قريباً بل "الأسوأ آت"، وعلينا أن نتعايش مع هذا التضخم طويل المدى. هل سنصير كهولاً مرة أخرى وستحدث طفرة ثانية في أعمارنا بموازاة ارتفاع الأسعار؟
بالكاد نحاول استيعاب ما يجري، فالأمر لا يرتبط هنا فقط بالغلاء القياسي ومحاولة تدبير الحاجات والبحث عن بدائل، بل بالشعور الكثيف بوطأة الزمن وبمرور العمر وبأن ما كنا نعيشه أمس فقط، حرفياً ومجازاً، ولى ولن يعود. في الأقل، الأجيال الأكبر عمراً التي واجهت أزمات اقتصادية موقتة، ما زالوا يحدثوننا عن "أيام الرخاء" واستقرار الأسعار وقيمة ما كانوا يشترونه بدولار واحد فقط، قد عاشوا "ظرفهم الاقتصادي" على مهل، والزيادات الطبيعية في الأسعار كانوا يتقبلونها لأنها كانت تدريجية، لكن ما يجري الآن يبدو مربكاً تماماً بالنسبة إلى البعض ممن تأثروا بهذا التبدل.
من يحاولون النجاة
البنك الدولي يقول بحسب مدونته الرسمية إن "الاتجاهات المثيرة للقلق لزيادة أسعار المواد الغذائية وتأثير ذلك في إمدادات المعروض سيؤديان إلى سقوط 23 مليون شخص إضافيين في براثن الفقر وإلى ضياع مكاسب سنوات عدة من جهود الحد من الفقر. بعبارة أخرى، مقابل كل زيادة قدرها 1 في المئة بأسعار المواد الغذائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ربما يصبح نحو نصف مليون شخص إضافي في عداد الفقراء بالمنطقة"، فالتضخم بمعناه الشعبي يشير إلى أن أي استثمارات ومدخرات وحتى زيادة في الراتب ستلتهم، وهو أمر من الناحية النفسية يزيد الشعور باللاجدوى وبضياع الوقت والمجهود سدى ويولد إحساس السخط وبأن هناك كائناً خفياً يسرق ما تعبت لأجل تحقيقه، وهي نقطة ينبه إليها رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية إذ يقول "في مثل تلك الأوضاع، تفقد الحياة متعتها وتقل جودة المعيشة ويحاول الإنسان تجاوز أيامه بالكاد من دون أمل في أن تتحسن الظروف، وهي أمور تنعكس نفسياً على الأسر وتزيد الضغوط والأزمات، فيصبح لدى الشباب اليافعين شعور قوي بأنهم كبروا بالعمر بسبب تلك الهموم وبسبب طريقة التفكير التي تغيرت كثيراً خلال وقت قصير".
فور بدء اقتصادات الدول بالتعافي قليلاً بعد انتهاء أزمة كورونا نسبياً وقبل أن تتخلص الحكومات من تبعات تلك الجائحة بالكامل، جاءت حرب روسيا وأوكرانيا لتصيب سلاسل الإمدادات الخاصة بالمواد البترولية والغذائية والمواد الخام بالشلل، ما أدى إلى تعاظم في الأسعار يخرج عن السيطرة لتتجاوز معدلات التضخم في معظم البلدان ما حدث إبان الكساد الاقتصادي الذي حاصر الاستثمارات عام 2008، فكانت ارتفاعات موقتة حينها، وبما أن المواطن في جميع أنحاء العالم بات يعاني هموماً واحدة، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تزداد الضغوط حتى على كبار المستثمرين وكبار رجال الأعمال الناجحين، فإن هناك فرصة لتعلم إعادة ترتيب الأولويات، بخاصة في عصر أصبحت فيه المظاهر تتفوق على الحاجات الأساسية، ولعبت فيه مواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً بزيادة الضغوط المتمثلة في التطلع إلى حياة شبه خيالية تصدر عبر فيديوهات مجتزأة، فالتشارك في ظرف عالمي غير متوقع وضاغط مثل هذا يمكنه أن يكون محفزاً للبحث عن مصادر أخرى لتحقيق جودة الحياة، كما ينصح أستاذ الطب النفسي يسري عبدالمحسن بضرورة وضع خطط لتوعية الجماهير العريضة بطرق التكيف الاقتصادي مع ما يجري وأبرزها تقنين الاستهلاك وترتيب الأولويات بصورة واقعية، وبالطبع الإرشاد النفسي والتوعية بكيفية التعامل مع مثل تلك الأزمات، وشدد على أن ارتفاع معدل التضخم بتلك الوتيرة أمر لم يكن متوقعاً، بالتالي لم يكن الفرد العادي مهيئاً له، ومن المهم أن يكون هناك دور للأجهزة المعنية وبينها الإعلام في زيادة الوعي للمساعدة في التعايش بأقل الخسائر النفسية بغية الوصول إلى بر النجاة وتكون توقعات المواطنين متوافقة مع الواقع والظروف التي تتميز بعدم الاستقرار.
الذين هزمهم التضخم
يشير عبدالمحسن إلى أن "هناك شخصيات تتأثر بصورة أكبر في ظل تلك الظروف ويشعرون بالعجز والضعف وبأن الموقف يعصف بهم ويفقدون قدرتهم على التصرف بل ويشعرون بالتقدم في العمر، على الرغم من أنهم فعلياً يكونون في بداية حياتهم"، لافتاً إلى أن "هذا الارتباك في ما يتعلق بظروف المعيشة وأسلوبها يحتاج إلى حكمة وصبر وتعلم ترشيد الإنفاق لتجاوز ما يحدث".
أصبح من المشاهد اليومية في المتاجر إرجاع المستهلكين بعض المشتريات نظراً إلى المفاجأة ببعض الأسعار أو لعدم تقديره الصحيح لسعر الفاتورة بحيث لا يزال معظمهم يتعاملون وفق ما اعتادوا عليه ولم يدركوا بعد أن "الدنيا تغيرت" بسرعة لم ينتبهوا لها.
واللافت أن من يحصل منهم الثمن "الكاشير" بات متمرساً في مثل تلك المواقف بل ويساعد الزبائن على تقنين قائمة مشترياتهم للوصول إلى مبلغ معقول، بل ويقترح عليهم بدائل للسلع أيضاً ربما تكون أقل كلفة. إحدى الأمهات ظلت حائرة لدقائق عدة أمام منتج "حلوى" كانت تشتريه قبل أسبوع فقط بثلث سعره الآن، فإن ما يضايقها هو إحساسها بـ"السفه" إذ إن وضعها المادي ليس عقبة أمام الشراء، لكن مجرد إدراكها أن هذا المنتج لا يستحق هذا الثمن، بخاصة أنه كان قبل أيام فقط يباع بأقل من الثلث جعلها تتخذ قراراً بعدم الشراء، فمهما كانت ظروفها المادية مستقرة، عقلها لا يزال يحفظ أن قيمة مبلغ "20 دولاراً" لا تزال كبيرة مقارنة بتلك السلعة، فهي لم تتمكن حتى الآن من الانتقال السريع إلى العصر الجديد الذي داهم الجميع ووضعهم في جيل مختلف تماماً من دون سابق إنذار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن ارتفاع الأسعار شبه اليومي بات أمراً واقعاً، لكن تراجعت الرغبة في "التخزين" التي كانت تسيطر على البعض عندما يلمحون عدم استقرار في السوق، ربما لأن تخزين أي سلعة ليست ضرورية لم يعد صفقة رابحة في ظل تقلص قيمة العملة.
يعود أستاذ الاقتصاد رشاد عبده إلى تأكيد أن "الطفرة في الأسعار لها تأثير نفسي مباشر وغيره بسبب المعاناة متعددة الأبعاد التي تصبح على شكل دائرة كل نقطة فيها تؤدي إلى الأخرى"، ويشير إلى "ضرورة التفرقة بين مفهومي الدخل النقدي والحقيقي، فالأول يحسب عدد الوحدات النقدية التي يتقاضاها الشخص، والثاني يقيس عدد الوحدات التي يمكن أن يشتريها بهذا المبلع، فإذا كان الدخل ثابتاً أو حتى يزيد وعدد وحدات السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها من خلاله تقل، فإنه عملياً ينقص"، لافتاً إلى أنه "في ظل هذه الأوضاع من الطبيعي أن يشعر المعرضون لها بالقهر والشيخوخة المبكرة، بحيث يجد الإنسان نفسه يؤجل مشاريعه الشخصية سواء صغيرة أو كبيرة وبالطبع مشاريعه الاستثمارية خوفاً من مزيد من المخاطرة، ويجد نفسه يعيش في تحد دائم وسباق ليكفي حاجاته كي لا يهزمه التضخم".
اقتصاد حرب
تبدو الحاجة ملحة الآن إلى تطبيق مفاهيم الاقتصاد السلوكي بمساعدة الأفراد في اتخاذ قراراتهم الشرائية بوعي وبطريقة تحقق لهم المنفعة، وهو مجال معني بدراسة ارتباط علم النفس بالجوانب الاقتصادية.
وبحسب ما جاء على الموقع الرسمي لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري التابع لمجلس الوزراء، فإن "الاقتصاد السـلوكي يرى أن البشـر بشكل عام غير مؤهلين لاتخاذ قرارات اقتصادية جيدة ويصفهم بأنهم غير عقلانيين، بالتالي يبحث هذا المجال المرتبط بعلمي الاقتصاد والنفس عن سبب اتخاذ تلك القرارات غير المستندة إلى تفكير عقلاني". على الموقع الرسمي للمركز أيضاً الذي يفرد مساحة لبعض المفاهيم التنموية تشرح الفكرة بمثال جاء فيه، "القـرارات المتعلقـة بـالمبلغ الـذي يجـب دفعـه مقابـل فنجـان مـن القهـوة والتسـجيل فـي الجامعـة واتبـاع نمـط حيـاة صـحي ومـا إلى ذلـك، كلهـا قـرارات يضـطر معظم الأفراد إلى اتخاذهـا فـي مرحلـة مـا فـي حيـاتهم، بالتالي يسـعى علـم الاقتصاد السـلوكي إلى شـرح سـبب اختيار الأفراد للخيار أ، بدلاً من الخيار ب".
كما يرى أستاذ الاقتصاد رشاد عبده أنه "يمكن تقليل خسائر تلك المرحلة عن طريق مراقبة الأسواق وعدم ترك السلع في يد التجار المحتكرين"، مشيراً إلى أن "الجهات المعنية في كل بلدان العالم يمكنها ضبط السوق، بالتالي تخفف العبء كثيراً عن المواطن وتشعره ببعض العدالة، فالناس في أمس الحاجة لمن يقوم بمثل هذا الدور".
وشبه عبده هذا الارتفاع المفاجئ وبنسبة كبيرة في الأسعار وقلة بعض السلع، بما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، واصفاً الوضع بأنه "اقتصاد حرب" وينبغي التعامل معه على هذا الأساس وأن يلتزم المواطن سد حاجاته ومحاولة تقليل نزيف الخسارة، وهو التشبيه ذاته الذي ركز عليه كذلك أستاذ علم النفس يسري عبدالمحسن، داعياً المسؤولين إلى بذل مجهود لمساعدة المواطنين في مجابهة ما يحدث بالتوعية والإرشاد بجميع الوسائل.
إذاً كلمة "زمان" باتت تنطبق على مجرد الأسبوع الماضي، حينما كانت سلعة معينة بأقل من نصف ثمنها الآن، ليظل الناس في لقاءاتهم اليومية يتشاركون حكايات تظهر فرق القيمة الشرائية للعملة، وهي قصص تشبه كثيراً ما كانوا يستمعون إليه من الأجداد، إذ يبدو إنسان هذا العصر وكأنه تحرك إلى الأمام مثل قطعة شطرنج جيل كامل على الأقل في ما يتعلق بمستوى الأسعار، بينما لا يزال وعيه وإدراكه يعيشان في ماض سحيق.