تملق القارئ والادعاء صنوان، فكلاهما ألا تكون أنت، وأن تفعل ما يريد الآخرون، فثمنه باهظ، مثلما أن تكون أنت وأزيد. وفي حالنا الحالي، الجمهور كما السوق، العجل الذهبي ما يعبد المرء، الذي يريد أن يكون معبود الجماهير، وهذا تورط في أن الجماهير كتلة، قطيع تدفعه الرغبات، وما يحبّ ويكره، وليس ما يعرف وما يعقل. فاللاعقلانية هي النهج ما تسير فيه الجماهير وما يسيرها، وبالتالي الوقوع بين قبضة أن تكون معبود الجماهير، يعني ألا تكون، وهذا الاستلاب للروح، هو أيضاً استلاب للعقل، فكما أن الجماهير لا معقولة، فإن معبودها كذلك، في كل زمان ومكان.
وفي مسألة تملق القارئ هذه، يقول الروائي الهندي سلمان رشدي، "حتى الآن، لا أحب الكتب التي تتملق القارئ، وتحاول نيل استحسانه، بل ينصب تركيزي على سرد القصة بشكل واضح وجذاب على قدر المستطاع، وهذا ما ظننته منذ البداية، حينما كتبت رواية أطفال منتصف الليل، لقد اعتقدت أنه من الغريب، أن يفترق السرد والأدب عند نقطة معينة، لأنني أرى أن حدوث هذا الانفصال ليس ضرورياً، فالقصة لا ينبغى أن تكون بسيطة، أو ذات بعد واحد"؟
الجمعة 12 أغسطس (آب) 2022، في معهد غرب نيويورك، أثناء الشروع في إلقاء محاضرة عن حرية التعبير، تعرض الروائي سلمان رشدي إلى محاولة اغتيال، بصعود شاب في الـ24 من عمره إلى خشبة المسرح، وطعنه 10 طعنات في رقبته وصدره، وذلك لأجل تنفيذ فتوى أصدرها روح الله الخميني! في عام 1989، تدعي أن الرواية الرابعة، "آيات شيطانية" لرشدي، تمس الإسلام.
أن تركب موجة السائد، هذا سائد في الثقافة الإنسانية، مثلما تملق الجمهور، من استحوذ عليه سائد ما، ما عادة أيضاً يكون كما موجات، موجة تخرج عن موجة، وهذا لا يختلف كثيراً عن الموضة، إلا في أنه باهظ الثمن، بخاصة عند تناول تابوات البشر: الدين والجنس والسياسة.
المشكل العويص، ما يواجه العقل والفكر، هو كيفية افتكاك القضايا الرئيسة، مما هو موجة سائدة، لأن الموجة تغمر شواطئ العقل من جهة، ومن أخرى تغري بالخوض في غمارها وركوبها، كما لعبة ركوب الموج، والإغواء هذا يدفع المرء إلى التماهي في الأسلوب والشكل، وبالتالي تتحول القضايا والمسائل الكبرى إلى سلعة حسب العرض والطلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفرد كائن ضئيل وهش، والعقل عنده لا عقال متين له، لهذا هز أركان عقل الإنسان، مهما كبر عقله، ليس مسألة صعبة، فمثلاً هايدغر فيلسوف الكينونة العقلاني، غطس في موجة النازية اللاعقلانية الألمانية الكبرى، وعام مع عامة الألمان في بحر هتلر الهائج، وحتى إن أسلوب كتابته وطريقة طرح أفكاره حورهما كما تستوجب الموجة العاتية.
حالياً في عصر السيبرانية، البشرية تعيش مرحلة تحول عويصة وأكثر صعوبة، ما لم يعرفها العقل البشري من قبل، فيها انفرط عقال العقل، واندلع إغواء مثير ومغوٍ لللاعقلانية، فما أحدثه العقل البشري، خلال القرن الماضى وبدء الألفية الثالثة، أكبر من تصورات هذا العقل، ما اجتاز معقولاته الأولى. وفي هذه الأجواء، صار الخبر معبود الجماهير، والمختبر سيد المسائل، أما العقل والمسائل العقلية الكبرى، فعلى هامش كراس الساعة.
الساعة ما فيها "القارئ/الجمهور" ديكتاتور، عجله الذهبي السوق، وفي مرتع هذه السوق، يرتع الكتاب والمفكرون والمبدعون، باعتبار أنهم بشر، قبل أن يكونوا من هذه الفئة أو تلك، على الرغم من أن كثيرين منهم، تحت طائلة معبود الجماهير، يقعون ضحية الادعاء بأنهم ليسوا من البشر، ومن هذا يتماهون مع ما هم ضدّه، فيتملقون القارئ، كما يتملق الديكتاتور الجماهير.
وبالتالي يتفكرون، يبدعون، يكتبون للرائج، ضدّه أو معه، ولكن بطريقته، بما هو قابل للاستهلاك بسرعة وبكميات هائلة، وقد يقبلون لأجل ذلك، دفع ضريبة لازمة، فمن لزوم ما يلزم في السوق التنافس، ما يلوح بالضرورة أن يكونوا "فاوست"، وفي هذا "المضمار/أولمبياد السوق"، يلهثون لأجل السبق، ناسين بل متناسين، درسهم العقلاني الأول: لكن الأرض تدور، صرخة غاليليو العقلانية، واستحقاقها وما تنتج، أن بالإمكان أبدع مما كان...