في الوقت الذي أعلنت فيه المحكمة الجنائية الدولية، خلال الزيارة الثالثة لوفودها إلى السودان بالأعوام الثلاثة الماضية، فشل محققيها في الوصول إلى الرئيس السابق عمر البشير المطلوب لديها والمحتجز في الخرطوم على ذمة قضية انقلاب يونيو (حزيران) 1989، بسبب رفض السلطات السماح بذلك، تمكن الوفد الذي يقوده كريم خان المدعي العام للمحكمة على صعيد زيارته إلى إقليم دارفور من الحصول على وثائق وأدلة جديدة من مخيمات النازحين، وزار الوفد المقابر الجماعية الشهيرة في مخيم "كلمة" نتيجة مجزرة يعتقد أن ميليشيات حكومية تابعة للبشير ارتكبتها في 2008 و2017، والتقى عدداً من كبار المسؤولين السودانيين في الخرطوم.
سجال العدل والمدعي
وقد أبلغ خان، الثلاثاء 23 أغسطس الحالي، مجلس الأمن الدولي رفض السلطات السودانية وصول محققي المحكمة إلى البشير. غير أن وزارة العدل السودانية أصدرت بياناً رداً على حديث خان أمام مجلس الأمن، نفت فيه أن يكون المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد تقدم بطلب مقابلة المطلوبين لدى المحكمة إبان زيارته الحالية للسودان، مؤكدة تعاون السلطات السودانية مع المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة.
وأشارت الوزارة، في بيان، إلى "أنها باعتبارها قناة التواصل الأساسية، تلقت طلباً في يونيو (حزيران) الماضي من المحكمة الجنائية الدولية في شأن مقابلة المطلوبين، وتم الرد عليه آنذاك وأقر مكتبه بذلك"، موضحة تلقيها من المحكمة عدداً من طلبات المساعدة في السابق وتم الاستجابة لها جميعاً.
من جانبه، أكد مدعي المحكمة الجنائية الدولية أن مكتبه قدم طلباً لمقابلة البشير، لكنه لم يتلق الرد عليه حتى الآن، مقراً في الوقت نفسه بتعاون السلطات السودانية في شأن قضية دارفور.
وكشف خان، خلال مؤتمر صحافي في الخرطوم، الأربعاء، أنه تلقى خلال مقابلته مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وعوداً في شأن التعاون مع المحكمة.
تجديد التأكيد
في السياق ذاته، أكد النائب الأول لرئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، استعداد السودان للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وضرورة تحقيق العدالة، مشيراً إلى أن اتفاقية جوبا لسلام السودان أقرت مثول المطلوبين أمام المحكمة الجنائية، غير أن كيفية محاكمتهم متروكة للجهات العدلية.
واستمع دقلو، خلال لقائه مدعي المحكمة الجنائية، إلى عرض في شأن لقاءات وفد المحكمة مع المسؤولين السودانيين. وأشار فيه خان إلى أهمية تعاون السودان مع المحكمة الذي يعول عليه في تحقيق تقدم في شأن القضايا المتعلقة بمثول المتهمين المطلوبين، مطالباً بتقديم التسهيلات اللازمة لفريق المحكمة الذي ينتظر أن يزور السودان في سبتمبر (أيلول) المقبل، بغرض جمع الأدلة ذات الصلة بقضية علي كوشيب.
وبحثت نائب المدعي العام للمحكمة، نزهة شامين خان، مع كل من الهادي إدريس والطاهر حجر، عضوي مجلس السيادة الانتقالي من حركات السلام، كيفية التزام الحكومة السودانية بمثول المطلوبين للمحكمة الجنائية، وفقاً لما جاء في اتفاقية جوبا للسلام، التي أقرت تعاون الحكومة مع المحكمة.
المخيمات تنطق
وزار الوفد مخيمي الحميدية والحصاحيصا للنازحين في مدينة زالنجي في ولاية وسط دارفور، ومخيم "كلمة" في جنوب دارفور، وتضم هذه المخيمات آلاف النازحين من ضحايا الحرب، وتسلم منهم أدلة ووثائق جديدة في شأن الانتهاكات المرتبطة بجرائم ارتكبت أثناء فترة حكم البشير وبعدها، بحسب يعقوب فوري، رئيس المنسقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور، من دون أن يفصح عن ماهية تلك الأدلة.
وعلى الرغم من تشكيكه في جدية وإمكانية مثول البشير أمام المحكمة، شدد فوري خلال لقائه وفد المحكمة على ضرورة تسليم جميع المتهمين بمن فيهم البشير وأعوانه.
ضحايا كوشيب
وكشف المتحدث الرسمي باسم المنسقية آدم رجال، لـ"اندبندنت عربية"، أن "مدعي الجنائية تحصل على معلومات وبيانات وتسلم وثائق وأدلة جديدة من الضحايا، تكشف ملابسات مقتل ما يزيد على 250 شخصاً في يوم واحد بمخيم الحميدية، مع وعد والتزام كامل من الضحايا النازحين بالتعاون مع المحكمة".
وعن مغزى اختيار تلك المخيمات الثلاثة للزيارة، من ضمن 175 مخيماً للنازحين واللاجئين في دارفور، أوضح رجال أن "تلك المخيمات تضم عدداً كبيراً ممن يعرفون بضحايا كوشيب الماثل الآن أمام المحكمة في لاهاي"، مبيناً أن مدعي الجنائية التقى في المخيمات المنسق العام للنازحين واللاجئين، ورؤساءها وفئات المرأة والشباب، وقيادات بقية المخيمات في الولايتين، من ضحايا الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، من مناطق مكجر وبندسي وكدم ودليج، وزار المقابر الجماعية المشهورة في مخيم كلمة، ضحايا المجزرة التي ارتكبتها ميليشيات موالية للحكومة السودانية في عامي 2008 و2017.
مخاوف تأخير العدالة
من جانبها، عبرت هيئة محامي دارفور وشركاؤها عن الخشية من المآخذ الناتجة عن التأخير في سير الإجراءات وإفلات الجناة من العقاب، ولفتت إلى الحصيلة المتواضعة للرحلات المتكررة لمكتب الادعاء الجنائي في المحكمة الجنائية الدولية للسودان وعدم تسليم المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية.
وأعلنت الهيئة، في بيان عقب لقاء مع نائب المدعي العام للمحكمة، نزهة شامين خان، أن اللقاء قدم شواهد على الآثار السالبة على البينة الناجمة عن التأخير والإبطاء في تحقيق العدالة، وكذلك على المتأثرين بالانتهاكات الجسيمة، الذين ترتفع سقوفات توقعاتهم عقب كل زيارة لمكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للسودان من دون أي تقدم في تحقيق النتائج.
ملاحقة حتى التسليم
في السياق ذاته، استبعد المحامي المعز حضرة، عضو هيئة الاتهام في محاكمة البشير في قضية تدبير انقلاب يونيو 1989، أن يتم تسليمه وبقية المتهمين السابقين أو اللاحقين في ظل حكومة الانقلاب الحالية، لأن بعضاً منهم متورط بشكل أو بآخر مع المطلوبين، مشيراً إلى أن المكون العسكري لم يكن متحمساً للتسليم حتى قبل الانقلاب.
وصف حضرة زيارة وفد الجنائية الدولية بأنها رسالة منها ومن المجتمع الدولي، مؤكداً أنه لا مجال للإفلات من العقاب مهما طال الزمن، وأن المحكمة ستظل تطارد المتهمين الهاربين حتى تنجز مهمتها في العدالة ومنع الإفلات العقاب.
صعوبات وخيارات
على نحو متصل، لم يستبعد محمود الشيخ عضو اللجنة السياسية للمحامين الديمقراطيين، أن تكون "الزيارة قد تمت باتفاق بين العسكريين والمحكمة في إطار تكتيكات العسكريين لاكتساب الشرعية الدولية من المجتمع الدولي عبر التعاون مع المحكمة"، مضيفاً "لكن يبدو أنه من الصعب الحصول على موقف جاد من حكم ديكتاتوري بالنسبة للمجتمع الدولي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف، "طالما أن من بين المطلوبين عسكريين، فإن ذلك يصعب تسليمهم". ولم يستبعد أن يكون لقرارات قائد الجيش بترقية ضباط كبار وإحالة آخرين إلى التقاعد علاقة بهذا الموضوع.
وأشار الشيخ إلى أن "تلك التعقيدات هي التي أفرزت مقترح بعض العقلاء بأن تتم المحاكمة بواسطة المحكمة الجنائية لكن داخل السودان بانتداب قضاة دوليين منها بمشاركة قضاة إقليميين وسودانيين، لأن بعض المطلوبين للجنائية مطلوبون أيضاً في قضايا ومحاكمات داخلية، ولا يعقل أن يتم التخلي عن تلك الملفات".
أثر التحولات
ووصل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، والوفد المرافق له، إلى الخرطوم في وقت متأخر من السبت 20 أغسطس، في زيارة رسمية استمرت خمسة أيام.
ووقعت المحكمة الجنائية في أغسطس 2021 مذكرة تعاون مع حكومة عبدالله حمدوك قبل أن تطيحها إجراءات الفريق البرهان التي حل بموجبها مؤسسات الفترة الانتقالية، في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وكان مدعي العام المحكمة الجنائية الدولية أشار في تقريره إلى مجلس الأمن الدولي في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى أن التحولات التي شهدها السودان في 25 أكتوبر2021، وما ترتب عليها من انعدام الأمن وعدم الاستقرار في البلاد، تشكل انتكاسة تطرح تحديات إضافية لعمل المحكمة في السودان.
يذكر أن انتفاضة شعبية أطاحت قبل ثلاثة أعوام، بنظام البشير المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المرتبطة بنزاع دارفور الذي بدأ عام 2003.
وأصدرت المحكمة الدولية في أعوام 2008 و2009 و2010 أوامر باعتقاله وعدد من مساعديه، أبرزهم أحمد هارون حاكم كردفان، وعبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع، إضافة إلى أحد قادة المجموعات المسلحة، بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية وجرائم حرب أثناء النزاع في إقليم دارفور.