قد تكون رواية "انهيار مصنع الفن المعاصر" من أغرب الروايات وأطرفها، أولاً لأن مؤلفها المصري أحمد شوقي حسن فنان بصري وباحث يهتم خصوصاً بالممارسات الفنية المعاصرة، وثانياً لأن الرواية تعالج أسباب الأزمة التي يعانيها الفنانون التشكيليون في مصر والعالم العربي، وتلقي الضوء على التفاصيل المتعلقة بالممارسات الفنية المعاصرة.
صدرت الرواية عن دار المحروسة بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، ولعل إلمام صاحبها بتفاصيل هذه الممارسات لكونه ممارساً ومشتبكاً في خضم هذه القضايا الفنية من شأنه أن يضفي على هذه الرواية بعداً آخر.
تدور أحداث الرواية حول فنان شاب يحاول الحصول على إحدى المنح الرسمية للإعاشة في ذروة انتشار وباء كورونا وما فرضه من توقف للنشاط الثقافي والفني، وتقودنا هذه الرحلة إلى تأمل كثير من التفاصيل المتعلقة بعملية إنتاج الفن والممارسة الفنية في مصر والعالم العربي، من التباس المصطلحات والمفاهيم إلى تكتلات المصالح وطبيعة سوق الفن والشللية المسيطرة وأزمة الفنان المعاصر وطبيعة عمله، وفي هذه الرواية يجد الفنان نفسه في مواجهة مباشرة مع اختياراته وقناعاته التي آمن بها، فبفضل الجائحة اكتشف للمرة الأولى كما يقول "أن تصنيفه المهني والطبقي كفنان معاصر يعد من الهامشيين وغير مرحب بفاعلية تلك المهنة في المجتمع على عكس ما كان يتخيل، وكان ذلك أمراً محبطاً له".
أزمة فنية معاصرة
يدرك بطل الرواية أن جانباً من الأزمة التي يعانيها الفنان المعاصر متعلق بطبيعة عمله، فالأعمال الفنية المعاصرة التي تظهر في بيئة يحيطها سوق الفن التقليدي لا تحقق أرباحاً لأصحابها كما يقول، وهو يرى أن الفن المعاصر متهم دائم من تاريخ الفن الرسمي محلياً بكونه كائناً لقيطاً وليس تطوراً طبيعياً له، فليس هناك من متحف محلي اقتنى أعمالاً فنية تحتوي على عروض آدائية أو تركيبات لفيديوهات متعددة القنوات.
يتهيأ الفنان لمقابلة اللجنة المناط بها الموافقة على منحة الإعاشة التي يسعى إليها، معتبراً أن هذا اللقاء هو لقاء مصيري يتوقع من وراء نجاحه فارقاً في مساره المهني، بخاصة أنه أتى أخيراً بعد فترة انتظار دامت عاماً أو أكثر نتيجة الحجر المنزلي، وإلى هذا عليه أن يتجهز لمقابلة مرتقبة مع أحد مديري المؤسسات الفنية البارزة في مصر من أجل الاتفاق على تنظيم معرض شخصي، وفي الطريق إلى حيث تنعقد لجنة المنح في أطراف العاصمة يدور حوار بين بطل الرواية وسائق التاكسي، وهو حوار غير مباشر يتحدث فيه السائق عبر الهاتف مع أحدهم، بينما يستغرق بطل الرواية في أفكاره المتعلقة بعملية الإنتاج الفني وأزمة الممارسات المعاصرة وطبيعتها.
يتقاطع حديث السائق عبر الهاتف وأفكار بطل الرواية ويؤطران محادثة عبثية حول الفن، ويتكرر هذا الالتباس والاشتباك غير المباشر في مناسبات ومواقف مختلفة خلال أحداث الرواية.
حركة القاهرة
يستغرق الفنان في تأملاته بينما يتحرك بين أطراف القاهرة وضواحيها البعيدة متجهاً إلى وسط القاهرة مرة أخرى، ويفكر ملياً في حاله وحال كثيرين غيره من المشتغلين بمثل هذه الممارسات. يستعيد بطل الرواية هنا جانباً من ملمح الحركة الفنية التي تمثلها شخصيات بارزة مثل هتلر الكوميسير ودونكيشوت الكيورويتر، والصراع المحموم في ما بينهما على تصدر المشهد الفني في مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف الكاتب هنا لقاء عاصفاً جمع بين هذين الغريمين في أحد الملتقيات الفنية الأوروبية، ولم يكن هتلر الكوميسير يتخيل لقاء غريمه اللدود هنا وفي هذا المحفل الدولي تحديداً، وقد هاله وأوغر صدره ما رآه وسمعه من تقدير له ووصفه كممثل للمشهد الفني المستقل في مصر.
كان الصراع على أشده بين الرجلين وهما يمثلان انعكاساً حقيقياً لتعقيدات الممارسة الفنية في مصر والتجاذبات المستمرة بين تياري الحداثة والمعاصرة، ولقد نجحت التطورات التقنية والفنية خلال العقدين الماضيين في بناء صورة شديدة التعقيد لنظام عالمي جديد، ونجحت كذلك في أن تجعل من الحداثة سجينة المتحف، "وهذا ما كان يمثله هتلر الكوميسير الذي كفر بذلك النظام الجديد لحظة أن استشعر قدومه، واعتبر أن ميراث الحداثة أصبح بمثابة جواهر الصناع وسط مشهد عالمي جديد يتآمر على تجاوز صنيعهم"، وكان دونكيشوت في نظره ممثلاً لهذا التيار الهدام.
بين الفن والشاورما
يصل بطل الرواية إلى المقهى الذي يجتمع فيه مع أصدقائه وفي نيته أن يقص عليهم جانباً من رحلته العبثية للحصول على منحة الإعاشة، غير أن أصدقاءه يباغتونه بخبر انهيار مصنع الفن المعاصر، وهو اسم المؤسسة التي كان يخطط لتنظيم معرضه بها. وقع هذا الخبر عليه مثل الصاعقة وقلب كل خططه وآماله رأساً على عقب، ولقد انهار مبنى المؤسسة نتيجة تسرب من إحدى دورات المياه داخل إحدى الشقق المغلقة في المبنى، "فهل حقاً انهار مصنع الفن المعاصر بسبب عطل في سيفون أحدهم؟" هكذا يتساءل الكاتب على لسان بطل الرواية، وهو تساؤل متخم بمعان ودلالات غير مباشرة حول هشاشة المشهد وهيكليته المتداعية التي يشبهها الكاتب بمخروط الشاورما.
تبدو الرواية في أحد جوانبها استكمالاً لمشاريع فنية سابقة بدأها شوقي قبل سنوات متأملاً خلالها طبيعة الممارسات الفنية، ومسلطاً الضوء على التفاصيل الهامشية المرتبطة بهذه الممارسات، مثل مراسم الافتتاح وسياق العرض وحركة الجمهور التي تتخذ نسقاً آلياً في كثير من الأحيان، وعلاقة كل ذلك بسوق الفن والقوى المحركة والمنظمة له.
إن تسليط الضوء على خبايا هذه التفاصيل المشكلة للمشهد الفني في مصر من طريق وسيط أدبي من شأنها أن تزيل الحرج عن كاهل الكاتب في سعيه إلى رصد العديد من هذه الجوانب والكشف عن القوى المسيطرة على مسار هذه الحركة وأزماتها، وهي قوى لا تزال فاعلة ومتحكمة في كثير من الأمور المتعلقة بالممارسات البصرية في مصر. العمل هو الثاني في جملة مؤلفات أحمد شوقي حسن، فقد صدر له العام 2020 كتاب عن تاريخ فن الفيديو يجمع فيه ويوثق لتاريخ ظهور هذا الفن كوسيط إبداعي في مصر.